Thursday, August 08, 2019

في فن "المظاهرة" وتكتيكاتها وعلاقتها بالثورة والوعي الثّوري

في فن "المظاهرة" وتكتيكاتها وعلاقتها بالثورة والوعي الثّوري
محمد جلال أحمد هاشم
الخرطوم ــــ 12 ديسمبر 2019م
تحية واجبة
أولا نحيي الشعب السوداني الثائر كما نحيي شهداءنا الأبرار ومن بعدهم نجيي تجمع المهنيين السودانيين هذا الكيان الذي أفرزته المعركة وتصدى لقيادة هذه الثورة المباركة. ومن بهده نحيي جميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي وقفت جنباً إلى جنب مع تجمع المهنيين، تؤازره ويؤازرها في سبيل تمكين القوى الثورية الشعبية من إنجاز الثورة وتحقيقها بما يحقق أشواق وآمال الشعب في التحرر من نظام الإنقاذ المارق الذي تاجر بالدين وبالوطن. ونؤكد على أن هذه الثورة المجيدة لن تتوقف إلى أن تبلغ أهدافها الكبرى المتمثلة في اقتلاع نظام الإنقاذ من جذوره ومحاسبة قادته ورموزه وحلفائه أشخاصا ومؤسسات وصولا إلى إعادة بناء السودان حتى يستعيد مجده ووحدته. وبعد، هذه إضاءات حول فن "المظاهرة" رأينا أنه من المفيد لجماهير الشعب أن تستصحبها معها وهي تمارس فعل الثورة.

المظاهرة: تعريفها وطبيعتها
 "المظاهرة" هي التحرك في الشارع العام، فرديا أو جماعيا أو جماهيريا، منظمة كانت أم غير منظمة، صامتة كانت أم هاتفة، بهدف التأييد و/أو الاستقواء أو إحداث التغيير، عبر تأليب الرأي العام، استشعارا منها بأن الشعب (أو الشعوب) هو مصدر السلطة الحقيقية. ويعني هذا شيئا خطيرا، ألا وهو أن "المظاهرة" وفق هذا التعريف قد سبقت قيام الدولة الوطنية بموجب اتفاقية ويستفاليا في عام 1648م التي قامت على الاعتراف بأن الشعب هو مصدر السلطات كلها وأن سلطات الدولة أو الحاكم ليست سوى سلطات الشعب مفوضة من أدنى إلى أعلى. هذا على عكس مفهوم السلطة فيما سبق ذلك من دول وإمبراطوريات، مثل الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تحكم بالحق الإلهي،  بمعنى تخويل السلطات من أعلى إلى أدنى،  من سدة الذات الإلهية إلى الأرض عبر البابا وأدنى منه إلى الإمبراطور وأدنى منه إلى طبقة النبلاء ثم إلى قاعدة المجتمع (مجتمع الأقنان) الذي يتحمل عبء كل هذه السلطات المتنزلة عليه بحكم الإرادة الإلهية ولا يملك حق تغييرها أو حتى الاحتجاج ضدها كونها إرادة الله. جاءت اتفاقية ويستفاليا لتقرر أن "سلطة الحكم" هي شأن أرضي secular وليست شأنا إلهيا holy. والجدير بالتأمل هنا أن  "المظاهرة" التي سبقت قيام الدولة الوطنية قد سبقتها أيضا في استشفاف أن الشعب هو مصدر كل السلطات.

أنواع المظاهرات
والمظاهرة ثلاثة أنواع: فردية، أو قطاعية، أو شعبية. إذ يمكن لشخص واحد أن يقوم بالتظاهر لوحده وينجح في كسب تعاطف الجماهير دون أن تشاركه التظاهر. وهذا النوع عادة ما يكون في الشعوب التي ترسخت عندها الحقوق المدنية ومنها حقوق التعبير عن الرأي. في هذه الحالة يكون هذا الفرد هو نواة المظاهرة وما تسارعها إلا تعاطف الجماهير معه. أما المظاهرة القطاعية فهي تلك التي تختص بفئة أو قطاع بعينه من المجتمع، مثل نقابة مهنية أو أي مجموعة لها حدودها المقبولة عليها كونها تمثل عضوية محددة. والمظاهرة القطاعية نوعان: الأولى أن تكون مقفولة على عضويتها، بينما الثانية أن تكون مفتوحة لجماهير الشعب كيما تشارك فيها. وفي الحالة الثانية تكن مشاركة الجماهير إما من باب التعاطف، أو تكون هذه المشاركة وتوسيع تسارعها بطريقة مضطردة هي الهدف الأساسي للمظاهرة. في حالة المظاهرة المقفولة قطاعيا تكون اللجنة المنظمة هي نواة المظاهرة بينما تكون مشاركة العضوية هي التي تحكم تسارع قوة دفعها momentum build-up. أما في حالة أن تكون قطاعية لكنها مفتوحة جماهيريا متى ما انجذبت لها الجماهير،  فتكون نواتها هي عضوية القطاع وتسارعها الجماهيري هو مدى تعاطف الجماهير معها بانخراطها بطواعية في المظاهرة. أما في الحالة الثالثة، وهي الأخطر شأنا، حيث تكون المظاهرة في شكلها الإجرائي قطاعية لكنها موجهة أصلا لجماهير الشعب تعبيرا عن أشواق ومطالب هذه الجماهير. هذا النوع عادة ما يتحول إلى ظاهرة في حد ذاتها كونها تتحول إلى سلسلة مظاهرات لا تتوقف إلا بلوغها لأهدافها السامية. في هذا النوع من المظاهرات تكون النواة هي القطاع الفئوي (أو القطاعات الفئوية كتجمع نقابات أو تجمع مهنيين)، بينما ينفتح تسارع اندياح المظاهرة واتساع دائرة قوةّ دفعها  momentum build-up على جماهير الشعب حتى يجوز وصف المظاهرة بأنها كانت "مظاهرة حاشدة" بمعنى مظاهرة شعبية. ولا تقوم هذه المظاهرات إلا عندما تكون جماهير الشعب جاهزة ومتهيئة لها، فتأتي المظاهرة استجابة لأشواقها. ولهذا يستوجب هذا النوع من المظاهرات تكتيكا معينا، يبدأ، أولا، بالتخطيط الجيد لنواة المظاهرة من حيث حشد عضوية القطاع القائد للمظاهرة (أو القطاعات القائدة) بحيث تتم تعبئتهم ومتابعة مشاركتهم ومراجعة ذلك بعد كل مظاهرة، أي إجراء تقويم لكل مظاهرة وتلمس أوجه القصور وكيفية تلافيها في المظاهرة القادمة. أما الشرط الثاني من حيث التكتيك فهو تحديد سير المظاهرة من حيث الانطلاق والنهاية، ثم تحديد موعد ومكان انطلاق المظاهرة. في هذا الصدد ينبغي مراعاة الزمن المناسب لتدفق الجماهير المتوقع مشاركتها. ولكن الأهم من ذلك هو تحديد مكان انطلاق المظاهرة بحيث يكون من السهل للجماهير الوصول إليه من ناحية، بجانب كونه يقع في عمق مناطق الزحام الجماهيري كالأسواق ومواقف المواصلات.
من الواضح أن هذا النوع من المظاهرات الشعبية الحاشدة لا يمكن تنظيمها بيسر إلا في المدن، صغيرها وكبيرها، خاصة الكبيرة منها كالعاصمة وما شابهها. في هذا محذور لا يجوز تغافله ألا وهو التفريق بين التخفي وراء الجماهير باتخاذ أماكن تجمعاتها منطلقا للمظاهرات الخديجة خوفا وجبنا أو عن عدم الخبرة والدراية، وبين المظاهرات التي تتشوفها الجماهير وتنام وتصحو على توقعاتها. والمظاهرات الخديجة هي تلك التي لم يتهيأ لها الشعب بعد. ولكن متى ما تهيأ الشعب للثورة والخروج، وجب على منظمي هذه المظاهرات التي تخرج استجابة لتهيؤ الشعب لها أن تختار مواقع تجمعات الجماهير على أن تكون أماكن قابلة لوصول الجماهير اليها من أطراف المدينة. وفي هذا لا يوجد خطأ أكبر من تحديد موقع لانطلاق المظاهرة يصعب للجماهير الوصول إليه، مثلا كأن يكون في طرف المدينة، أو أن يكون من السهل لقوات الشرطة والأمن محاصرتها فيه. وكمثال لهذا الخطأ الجسيم يمكن أن نضرب مثالا بمظاهرة 9 يناير التي دعت لها سكرتارية تجمع المهنيين في أمدرمان حيث اختارت موقف مواصلات حي الشهداء كنقطة انطلاق للمظاهرة. فمنطقة الشهداء تقع في الجانب الشرقي لمدينة أمدرمان القديمة حيث يحدها نهر النيل بالشرق وبينهما من الأحياء "الملازمين" و"أبو روف" فقط، بينما تقع كل أمدرمان بامتداداتها الكبيرة على الغرب والشمال والجنوب من "حي الشهداء". وبما أن وجهة المظاهرة كانت هي "المجلس الوطني" إلى الجنوب من موقع انطلاقتها، دون الشمال، بهذا سهلت مهمة الشرطة حيث لم تكن تحتاج إلى تغطية جهتين أساسيتين هما الشرق والشمال. وبما أن اتجاهي الغرب (حي السوق والمحطة الوسطى وحي العرب وصولا لمنطقة السوق الشعبي وأمبدة  ... إلخ) والغرب الجنوبي (العرضة وبانت  والعباسية والمهندسين والعودة وصولا إلى أحياء النخيل والصالحة وأبو سعد والفتيحاب  .. إلخ) يعنيان عمق المدينة القديمة، بما يعني أكبر وأسرع فرصة للمظاهرة كيما تحقق تسارعا وتضخما يتجاوز إمكانات الشرطة لاحتوائها، فإن محاصرة المظاهرة في موقف مواصلات "حي الشهداء" الصغير أصلا ومحدود الشوارع، ضيقها، لم يكن فقط  شيئا ميسورا، بل كان أشبه بهدية من السماء. فلو قدر للشرطة والأجهزة الأمنية أن تختار موقعا لانطلاق المظاهرة يسهل عليها احتواؤها فيه، لربما عجزت أن تختار موقعا أفضل مما اختارته سكرتارية "تجمع المهنيين" (هذا دون أي تشكيك منا في وطنية السكرتارية وتماسك مواقفها الثورية وصلابتها، لكنها في رأينا عدم الخبرة وقلة الدراية). ولهذا لم يكن أمام الشرطة والأجهزة الأمنية سوى محاصرة المظاهرة في موقف الشهداء وإغلاق كل الشوارع المؤدية إلى الغرب، بجانب إغلاق المنافذ المؤدية إلى مناطق الجنوب الغربي  (بانت والعباسية) بالتمركز في الركن الشمالي الغربي لميدان الخليفة للحيلولة دون وصول أي إمدادات جماهيرية من هناك كما للحيلولة دون اتجاه المظاهرة إلى هناك. ولهذا لم تجد المظاهرة الفرعية الصغيرة القادمة من محطة سنادة بشارع الأربعين (مظاهرة الشعارات القماشية الصفراء) بدا من الوصول إلى شارع الموردة قبالة دار حزب الأمة عن طريق وسطي مختصر وكان ذلك في حوالي الساعة 1:15 بعد الظهر فتحركت حوالي 8 تاتشرات كانت متمركزة وسط ميدان الخليفة وقامت بمناورة من خلفها وحواليها من خلف دار الرياضة لتأتي في مواجهتها من الأمام وتمكنت من تفريقها بكل سهولة.
ولكن الخطأ الأكبر هو ما تعلق بمسار المظاهرة الأم القادمة من موقف الشهداء؛  فقد تحركت جنوبا بمحاذاة مستشفى أمدرمان نحو ميدان الخليفة ومنه اتجهت جنوبا جاعلة الميدان إلى يسارها والمستشفى إلى يمينها، وهكذا وجدت نفسها محصورة (وهي تهتف "سلمية .. سلمية") في مواجهة تمركز دفارات وتاتشرات الشرطة والقوى الأمنية. فهذه إما عدم خبرة ماحقة أو أن عناصر مندسة لعبت دورها لقيادة المظاهرة إلى ذلك الشارع المحصور وأشبه بالكمين.  تفرقت المظاهرة الأم، ولكن إلى اين؟ إلى حي الضباط الذي يقع بين شارع بوابة عبد القيوم وشارع الموردة، أي تحت مرمى نيران القناصة الذين كانوا، بحسب تقارير وردت لتجمع المهنيين، قد اتخذوا مواقعهم أعلى داخليات الطالبات المطلة على مستشفى "الدايات". وأخطر ما يميز هذا الحي، على صغر حجمه، أنه مخطط في شكل مثلث رأسه ينتهي بالريفيرا. وهكذا وجد المتظاهرون أنفسهم كما لو كانوا محصورين داخل قن دجاج. ولولا نصائح بعض أهل الخبرة لهم بفك الحصار المضروب عليهم من شارع الموردة وتحقيق اختراق يؤدي بهم إلى الموردة شمال والعباسية وبانت، أي محور شارع الأربعين، لكانت تلك المظاهرة، في بقاياها المشتتة، قد انتهت نهاية أكثر من بائسة.
وبالفعل نجحت في تحقيق ذلك الاختراق والتحموا مع الجماهير التي كانت قد تجمعت هناك من بقايا مظاهرة الشعارات القماشية الصفراء بالإضافة إلى بقايا مظاهرة كانت قادمة من جهات المهندسين والعودة والفتيحاب. تلك كانت مظاهرة ضخمة امتدت بطول شارع الأربعين. إلا أنها بدلا من الاتجاه جنوبا إلى عمق المدينة انساقت بعدم الخبرة إلى تمركز ضخم للشرطة والأمن في رأس شارع الأربعين مع شارع الكبري فتفرقت داخل الأحياء بحلول الساعة الرابعة والنصف عصرا. وقد نجحت الشرطة في استدراج المظاهرة جنوبا وإبعادها من قلب المدينة وذلك بالتظاهر وكأنها قد انهزمت أمام المد الجماهيري مما أجبرها على التراجع. وفعلا انطلت الخدعة على المتظاهرين الذين تسارعت خطاهم جنوبا مطاردين عربات الشرطة المتقهقرة جنوبا. هذا بينما كانت هناك حشود من الشرطة المدججة بالسلاح قد تمركزت في محطة سنادة قاطعة الطريق أمام رجوع المظاهرة واتجاهها إلى عمق المدينة.
بالعودة إلى تحليل نوع المظاهرة الشعبية الحاشدة  فغاية نجاحها هو أن تتطور من مجرد سلسلة مظاهرات جماهيرية موجهة بقيادة مسماة إلى انفجار شعبي جماهيري explosion of masses بدوره يتطور إلى ما يمكن تسميته بالمظاهرات الكاسحة sliding demonstrations. وشكل التطور يكمن في الآتي: اولا المظاهرة الموجهة من نقطة انطلاق محددة داخل المدينة تتطور (ثانيا) إلى مظاهرات عارمة في الأحياء خارج مركز المدينة  city centre. وهذه المظاهرات عادة ما تكون ليلا. وبتسارع وتائرها واتساع دائرتها وتضخم أحجامها تنحو للاتجاه إلى قلب المدينة،  ذلك ريثما تنقلب من الليل إلى النهار وهكذا  (ثالثا) تتطور إلى أن تصبح بدرجة من الضخامة الجماهيرية لا قبل لأي قوات شرطة أو حتى الجيش أن تقف في وجهها. ولدينا تجارب في ثورة أبريل 1985م تحكي عن هذا النوع من المظاهرات.  وهنا تجدر الإشارة إلى أن مظاهرة يوم 5 يناير 2019م تنتمي في طبيعتها لهذا النوع المتطور من المظاهرات الكاسحة بحكم أنها كان من المقرر أن تنطلق من خارج المدينة لتتجه نحو مركز المدينة. وبالطبع لم تنجح في مسعاها ذلك لأن هذه المظاهرات لم تبلغ بعد هذه الدرجة المتقدمة من النضج والتبلور. فالمظاهرة التي كان مقررا لها أن تنطلق من محطة باشدار بوسط اليوم جنوبي الخرطوم تم قفل الطريق في وجهها فلم تتمكن من الوصول إلى منطقة الخرطوم 2؛ وكذلك الحال بالنسبة للمظاهرة التي كان مقررا لها أن تنطلق من أحياء بري شرقي العاصمة،  إذ حبست في مكانها حيث أبلى شبابها بلاء جيدا كما جرت بذلك عادتهم. أما في قلب الخرطوم فقد تحركت مظاهرة صغيرة في ملتقى شارع عبد الرحمن المهدي مع موقف جاكسون، سريعا ما تم تفريقها، وبهذا قضت مدينة الخرطوم، على غير ما تم التخطيط له، يوما هادئا في وسطها. وكل هذا يكشف لنا عدم الخبرة والدراية بالنسبة لسكرتارية تجمع المهنيين وهو أمر متوقع كون أغلبهم من الشباب الذين لم تتح لهم ظروف ديكتاتورية الإنقاذ الفرصة لتلقي التدريب وتطوير قدراتهم. ولكن لم يفت شيء ولا زالت الثورة مستمرة.

إدارة المظاهرة
للمظاهرة هدفها الذي تسعى لتحقيقه، وهو الهدف الأسمى، بينما لها هدفها الحركي البسيط المتمثل في مشاركة المعنيين بها وهذه هي نواتها nucleus التي تنطلق منها، ثم لها هدفها الحركي المركب وهو تنامي وتسارع قوة دفعها momentum build-up المتمثل إما في انخراط جماهير الشعب فيها وتحولها إلى ظاهرة في حد ذاتها من حيث تنامي حجمها وتعدد أماكن اندلاعها، أو فقط في نجاحها في كسب تعاطف الشعب. كما نشير إلى أن المظاهرة الشعبية مطلقا لها بوصلة كامنة في وعيها الجمعي تتجه بها نحو مراكز السلطة كما لو كانت تريد استرداد سلطتها التي سرقت منها بوصفها مصدر السلطات. وهذا شيء يختلف عن الوجهة المرسومة للمظاهرة من قبل إدارتها. وعادة ما ينشب شد وجذب بين الاتجاه التلقائي للمظاهرة وبين الإدارة الآنية الظرفية للمظاهرة. فإدارة المظاهرة في خضم سير المظاهرة ليس فقط فنا استثنائيا، بل هي عملية معقدة كونها تستدعي القدرة على قراءة الوضع من حيث سير المظاهرة وتكتيكات الالتفاف السريع لإفشال خطط الشرطة والأجهزة الأمنية الرامية لإجهاض المظاهرة. وعلى هذا تحتاج هذه الإدارة إلى تضافر جهود عدة أشخاص يتبادلون المعلومات سريعا ليكون بينهم من هو مخول له اتخاذ القرارات بسرعة وفعالية تتمثل في توصيلها لقادة المظاهرة الميدانيين.
في مظاهرة 9 يناير كان ينبغي لإدارة المظاهرة أن تتخذ قرارا ميدانيا باختراق الطوق المضروب حول موقف مواصلات الشهداء باتجاه المحطة الوسطى، ذلك في حال علمها بتمركز الشرطة والأمن في خانق الزاوية الشمالية الغربية لميدان الخليفة. ولكن هذا لم يحدث. لقد أشرنا من قبل إلى أن المظاهرة الأم اتجهت بكلياتها نحو خانق الشارع الذي يقع بين سور ميدان الخليفة والمستشفى لتجد نفسها محصورة وتحت نيران وقنابل الشرطة والأمن. وحسنا فعلت المظاهرة (بوعي مباشر أو بدون وعي منها) عندما لم تتجه بكلياتها إلى تلافي الكمين وتغيير مسارها باتخاذ الطريق الذي يقع بين ميدان الخليفة وقبة المهدي لتأخذ الطريق شرقا من متحف الخليفة فجنوبا نحو بوابة عبد القيوم. فذلك كان الكمين الأكبر حيث تمركز القناصة على أسطح أبراج داخلية الطالبات التي أخلوها مسبقا. فقد تم ضرب طوق عسكري حول مسار المظاهرة وحول جميع مخارجها تاركين لإدارتها (ذلك بافتراض أن لها إدارة) مخرجا واحدا، ألا وهو اتخاذ المسار الذي شرحناه أعلاه، أي أن يعتقلوا المظاهرة ويحصروها داخل مثلث حي الضباط الصغير للغاية. لكن قبل ذلك كانوا سيجردون المظاهرة من قيادتها الإدارية الميدانية بانتياشها (عادة ما تكون واضحة بحكم قيامها بالتوجيهات اللازمة). وهذا يكشف لنا السبب الحقيقي وراء اصطياد بعض المتظاهرين دون غيرهم، ذلك اعتقادا من الجهات الأمنية بأنهم القيادات الميدانية (أو أنهم يقومون بهذا الدور من تلقاء أنفسهم).

لماذا وكيف نجحت مظاهرة بحري؟
في رأيي سبب نجاح مظاهرات بحري يعود لسببين، الأول هو نجاح تكتيك ذكي يقوم على توجيه المظاهرة شمالا عبر مسارين من السهل محاصرتها كونهما يقعان في أقصى جنوب المدينة بما يجعل إجهاض تجمع نواة المظاهرة أمرا ميسورا. ولكن ما يبدو أمرا في صالح القوى الشرطية والأمنية تحول إلى شرك لهم. فطبيعة تخطيط مدينة بحري  (السبب الثاني) يختلف تماما عن تخطيط الخرطوم القديمة أو أمدرمان القديمة، فالأخيرتان تم تخطيطهما على غرار المدينة المحصنة وبالتالي تكون عالية الكثافة مع وجود سور أو عازل تحصيني (مثلا تحصينات غردون في الخرطوم التي تبدأ من كبري بحري الحديدي وتشكل حدوة حصان وصولا إلى المقرن مرورا بالقيادة العامة وشارع يوسف الهندي بدءا بكبري المسلمية فكبري الحرية انتهاءا بغابة السنط بالمقرن؛ ثم في أمدرمان تحصينات المدينة المشتملة على أحيائها القديمة ولم يبق منها غير الطوابي وبوابة عبد القيوم). وهذا كله مختلف عما عليه الوضع في بحري حيث تتصف بكونها مدينة مفتوحة لا يمكن قفلها إلا بقوات فائقة العدد قد تصل إلى 50 الف جندي على أقل تقدير.
فقد تحركت مظاهرة صغيرة (من بين مظاهرات مماثلة) من منطقة حلة حمد قبل الموعد المحدد بغرض الانضمام إلى نقطة الانطلاق، ولكن قوات الشرطة والأمن تمكنت من الحيلولة دون وصولها إلى ذلك، فقط بعد أن استعانت بعدة نقاط ارتكاز الأمر الذي جعلها جميعا تفقد تمركزها في منطقة السوق القديم والمحطة الوسطى. وهكذا ما إن غردت الكنداكات اللائي لم يتجاوز عددهن وكذلك أعمارهن العشرين إلى الثلاثين في قلب سوق الخضار حتى انتفضت بحري وانطلقت المظاهرات وتداعت لها الجماهير من كل فج عميق.
وقد استدعى هذا إعادة تمركز قوات الشرطة والأمن مرة أخرى واتجاهها لوسط السوق ومنطقة المحطة الوسطى. وهكذا خلا الجو بالنسبة لمظاهرة مناطق حلة حمد وما جاورها فكان أن التحمت بأحياء الدناقلة، هذا بينما كانت أحياء الأملاك وصولا إلى شارع الأزهري بمحاذاة السكك الحديدية والمزاد تمور بالمظاهرات الداخلية لتلعب دورها في تشتيت تمركزت قوات الأمن والشرطة. وبالتالي ظل شريط السوق والديوم وصولا إلى الصافية تلعب دور المنطقة المناورة لمنطقة الجناحين شرقا وغربا.
ونلاحظ أن بحري عبارة عن مثلث رأسه هو نقطة انطلاق المظاهرة، بمعنى أن المظاهرة في توجهها شمالا تظل تدخل إلى العمق الشعبي. وهذا بخلاف ما كان عليه الأمر في مظاهرة يوم 9 يناير بأمدرمان؛ فقد كانت نقطة نواة المظاهرة في أمدرمان تقع في الجانب الشرقي للمدينة تاركة العمق خلفها ونقطة نهايتها (المجلس الوطني) عبارة عن مثلث ضيق يسهل عملية الشرطة والأمن في محاصرتها وتشتيتها وهو ما حدث بالفعل. ولاحقا تم حصر المظاهرة في مستطيل شارع الأربعين مع النجاح في تقسيمها إلى جيوب صغيرة.
وهنا نقطة هامة ينبغي الانتباه لها جيدا بخصوص أهم العوامل التي تحكم تسارع قوة دفع المظاهرة. المظاهرة كالموج اذا طغى كسح واذا انحسر خلف وراءه البقايا (هؤلاء تستفرد بهم قوات الأمن كما حدث في السلاح الطبي مساء يوم 9 يناير). وعلى هذا للمظاهرة مدها كما لها جزرها. في أمدرمان تحولت المظاهرة من مدها إلى جزرها وذلك بعد تفريقها دون وصولها إلى نهايتها. في بحري ظلت المظاهرات الصغيرة المنطلقة من الأحياء تحتفظ بمدها باستمرار مهما تم تفريقها آنيا وهي متجهة نحو الشمال لوجهتها المقررة لها ريثما تعاود تسريع بناء قوة دفعها، متحدة في كل مرحلة مع أحياء جديدة. وهكذا ظلت قوة دفعها تتسارع بطريقة مضطردة. وكما قلنا في البداية ساعدها على هذا التكتيك الذكي اتخاذ رأس مثلث المدينة المستعصي كنقطة انطلاق دون الالتزام به، بما يعني تحييد قوات كبيرة من الشرطة والأمن ظلت في تمركزها لا تبرحه. والعامل الثاني هو طبيعة تخطيط مدينة بحري كونها مفتوحة، غير مقفولة. فمثلا من الجيلي وصولا إلى ميدان شمبات، جانبا عن كونها منطقة متصلة الأحياء، كثيفها، هي أيضا منطقة مفتوحة تحتاج إلى جيش كامل لقفلها ولن ينجح بعد كل هذا. وعلى هذا فقس على باقي الأحياء السكنية من جهة الشرق والشمال الشرقي، العزبة وكوبر وكافوري وطيبة الأحامدة وصولا إلى الحاج يوسف  .. إلخ.
على أي حال ما حدث في بحري يعطينا صورة مصغرة لحالة انفجار المظاهرات explosion of masses التي أشرنا لها في أول المقال. ويعني هذا أن نداوم على أن نخطط للمظاهرات القادمة لتكون على غرار يوم بحري الخالد هذا.
أخيرا،  لكل مظاهرة نهاية، وفي نهاية المظاهرة تستفرد الشرطة والأجهزة الأمنية ببقايا المظاهرة وتتعامل معهم بقسوة مفرطة وتصب عليهم جام غضبها وإحباطاتها. لهذا ينبغي أن نولي عملية انحسار المظاهرة بعد استنفادها لغرضها اهتماما كبيرا. وهذا حديث قد نكتب عنه لاحقا. لكن أهم ما يتعلق بمآلات المظاهرة هو تقصي وإحصاء الجرحى والمصابين وفوق كل شيء الشهداء. وهي عملية ينبغي أن توكل لفريق محدد موزع جغرافيا يصاحب المظاهرة دون مشاركة فعالة منه ويكون جميع أعضائه على اتصال ببعضهم البعض ليتقصى ما يجري دون أن يقع في شرك مظنة التخابر ضد الجماهير وإلا كانت العواقب وخيمة. وهذا يستدعي أن يتوزعوا في مجموعات ثلاثية على أقل تقدير. فمندسو الأمن يفترض أنهم مدربون وبالتالي يمكنهم ملاحظة أشخاص كهؤلاء وليس أيسر من أن يصرخ المندس وسط الجماهير موجها الاتهام إلى أحد أعضاء فريق التقصي متهما إياه بأنه من الأمن ويتصل بقيادته، والباقي كما يقول شبابنا "ممكن تتمو خيال"، ودمتم جميعا وعاش الشعب وعاشت ثورة الشعب والمجد والخلود للشهداء.

المظاهرة والوعي الثوري
المظاهرة هي نواة الثورة، وما الثورة الكاملة إلا فعل ووعي. فإذا اقتصرت الثورة وانكفأت على أي واحد من هذين القطبين كانت ناقصة وغالبا ما ينتهي مصيرها إلى أن تسرق بحيث تقاد إلى هدف غير أهداف الدكتهير التي فجرتها. الثورة تنبثق من المظاهرة كون الأخيرة تظل تكبر وتتضخم وتتسع دوائرها حتى تعم المسرح الاجتماعي السياسي حتى تتحقق الثورة من هذا المخاض. فالمظاهرة قد تنطلق أول أمرها من أجل هدف مطلبي محدود ريثما تتجاوزه لمطالب ثورية كبرى مثل إسقاط نظام الحكم. ولعل تجمع المهنيين يقف كدليل ماثل لهذا. فهو قد تشكل أول أمره من أجل رفع مطالب الفئات المهنية المنضوية تحته؛ وقد دبد في هذا الخصوص بياناً كان في طريقه للنشر عندما انطلقت شرارة المظاهرات، فقام التجمع بتغيير موقفه من تكتيك المطالب الفئوية إلى إستراتيجية الثورة الشاملة. وبالطبع ما كان يمكن لهذه النقلة الخطيرة أن تحدث لو لم يكن هناك وعي ثوري يحكمها. ولهذا، ما إن تنبثق القيادة الثورية حتى يتحتم عليها أن تقود الثورة كفعل وكوعي. فالمظاهرات هنا هي الفعل الثوري، بينما أهداف الثوري هي نتاج وعيها الثوري. فلو تقاصر الوعي، تناقصت نسبة تحقق الأهداف أولا بعدم إدراك طبيعة هذه الأهداف، ثم ثانيا، في حال إدراكها، العجز عن تحويلها إلى وعي شعبي يضخ الحماسة في صدور الثوار. هناك كثيرون يرون أن تواصل التظاهرات والاحتجاجات في كل مكان وكل يوم هو الضامن الوحيد لانتصار الثورة وهزيمة دولة الإنقاذ المارقة ... إلخ. ولكن الحقيقة هي أن ترفيع الوعي الثوري وشعبنته ومن ثمّ تحويله إلى مجموعة مطالب شعبية محددة وواضحة وقوية هو أحد أهم شروط استمرارية ونجاح الثورة. وقد تراءى لنا جليا، في مواجهة ما قلناه أعلاه، أن هناك من يرى أن الجماهير قد وصلت لهذا الحد من الوعي الثوري وأصبح أمامها هدف واحد هو إسقاط النظام. وهذا قول، بكل أسف، يكشف عن أزمة وعي ثوري ماحقة. فإسقاط النظام أصبح مسألة وقت ليس إلا، بينما تكمن المشكلة في الترتيبات الضرورية للانتقال من دولة الإنقاذ دون الوقوع في فخ سرقة الثورة وإعادة إنتاج دولة الإنقاذ عبر قيام دولة الإنقاذ (2)، كما حدث في ثورة أبريل حيث سرقت الثورة بقيام المجلس العسكري المخترق من قبل الجبهة الإسلامية. فإذا كانت الجبهة الإسلامية وقتها خارج السلطة وتمكنت من سرقة الثورة، فما بالكم وهي الآن تحكم وظلت تحكم لثلاثين عاما وتتغلغل وتستقوي وتتمكن؟ فالإخوان المسلمين اليوم في وضع أفضل مما كانوا عليه في أبريل 1985م. فاليوم هم يسيطرون على الجيش والبوليس والأمن مضافا إليها المليشيات بجانب الهيمنة على البنية الاقتصادية على حالتها المنهارة. فكيف يذهب بعض الناس إلى أن هذه الثورة في وضعها الحالي تملك الوعي الكافي للحيلولة دون سرقتها؟
ولعله من أسف الأسيف أن يأتي رد بعض الناس على قولنا هذا بالدعوة للانصراف من الوقوع في شرك مثل هذه المناقشات، ذلك بدعوى أن واجب المرحلة هو التركيز فقط على إسقاط النظام بحجة أن الظروف حاليا تختلف تماما عن أبريل 1985م، وأن العدو الآن واضح ... إلخ.  ثم هناك جهات تزعم بأن إجراء مثل هذه المناقشات فيه تشويش وتجعل الناس ينشغلون عن الهدف الأساسى، ألا وهو إسقاط النظام [كذا]!
وهكذا يتواصل النقاش وتتفرع المحاورات والمفاكرات بخصوص كيفية تأمين الثورة من السرقة. فما يقلقنا، ضمن قضايا أخرى هامة، هو حقيقة ان البيان الموقع عليه بين تجمع المهنيين ومجموعتي الإجماع والنداء كان فضفاضا وقفز فوق نقاط محورية وهذا شيء خطير لأن الثورة تسرق عبر هذا الباب. وبالطبع آراء مثل هذه مطلوبة لأنها تهدف إلى تحسين الأداء وقوته حتى تصل إلى تجمع المهنيين عبر مندوبنا هناك. في هذا الصدد علينا أن نعقد مقارنة بين المطالب المحددة بدقة والواردة في بيان  (حتى لا تسرق الثورة) مع المطالب الفضفاضة الواردة في البيان المشترك بين المهنيين ومجموعتي الإجماع والنداء.
في هذا الصدد فإنا لا نرى وثيقة جسدت الوعي الثوري في أعلى قممه بخلاف وثيقة "حتى لا تسرق الثورة" الصادرة في 25 ديسمبر 2018م التي قامت بصياغتها مجموعة قليلة العدد لا تتجاوز أصابع اليد العشرة ومن ثم تنادى للتوقيع عليها العشرات والمئات ولا زالوا. وقد حذرات هذه الوثيقة أول ما حذرت من خطورة سرقة الثورة الجارية حيث رمزت على ترفيع الوعي بالطريقة التي يمكن بها سرقة الثورة. في هذا قالت الوثيقة بذكاء وعمق تجربة: "تُسرق الثورة الشعبية في نفس لحظة تغيير وإسقاط النظام بحسب الكيفية التي يتم بها تغيير وإسقاط النظام. وبمجرد سرقة الثورة لن يكون من الميسور استعادتها وذلك لأن سارقي الثورات سوف يكون لهم قصب السبق في تشكيل الأجسام المُجهضة للثورة وسن القوانين واللوائح التي تكرّس سرقة الثورة الشعبية. وتتمثل سرقة هذه الثورة المجيدة التي انطلقت بيارقها في الآتي: تغيير نظام الإنقاذ (1) وإبداله بنظام الإنقاذ (2). هكذا تُسرق الثورات بإعادة إنتاج نفس النظام الذي اندلعت الثورة الشعبية لإسقاطه وتغييره ليكتشف الشعب أنه لم يحصد شيئاً غير تكريس نفس النظام البائد الذي ثار ضده". وفي رأينا أن هذا قول غير مسبوق في تاريجنا الثوري الطويل الذي يمتد لأكثر من قرن تمكن فيه الشعب السوداني من تفجير ثلاث ثورات (المهدية في 1885م كثورة شعبية مسلحة، ثم أكتوبر في 1964م كثورة شعبية سلمية، ثم أبريل 1985م كثورة شعبية سلمية)، ثم ثورتنا الرابعة الحالية التي نعيشها الآن. فالإشارة إلى أن الثورة تسرق في لحظة التغيير، وليس بعده، هو مناط الفرادة والعمق غير المسبوق.
للحيلولة دون سرقة الثورة وقيام دولة الإنقاذ (2)، تنبه وثيقة "حتى لا تسرق الثورة" إلى خمسة مبادئ ثورية يقوم عليها مناط الوعي الثوري، وعليه ينبغي للثوار أن يضعوها نصب أعينهم وهم يقومون بالفعل الثوري وهي على النحو التالي:
أولاً: الهدف الأسمى لهذه الثورة الشعبية التي طال انتظارنا لها هو إسقاط نظام الإنقاذ الذي تمكن من فرض حكمه عبر انقلاب 30 يونيو 1989م، ومن ثم وقف التدهور الاقتصادي والسياسي والسيادي وتحقيق السلام وتحقيق التحول الديموقراطي وتفكيك دولة الإنقاذ بصورة كاملة. فإما هذا أو فإنه نظام الإنقاذ (2)؛
ثانياً: لا مجال البتة لقبول أي تغيير للنظام من داخله، وإلا كان هذا هو نظام الإنقاذ (2)؛
ثالثاً: مع الترحيب التام بالدور الفاعل للقوات النظامية (الجيش والبوليس والأمن) في إسقاط نظام الإنقاذ وتفكيكه تماماً، لا مجال لقبول أي تغيير لنظام الإنقاذ عبر أي انقلاب عسكري، وإلا كان هذا أيضاً هو نظام الإنقاذ (2)؛
رابعاً: لا مجال لقبول تشكيل مجلس عسكري على غرار ذلك المجلس العسكري الذي تشكل بمجرد إسقاط نظام مايو المباد عبر ثورة أبريل 1985م الشعبية المجيدة، وإلا كان ذلك هو أيضاً نظام الإنقاذ (2)؛
خامساً: المطلب الثوري هو تكوين مجلس ثوري من القوى الثورية التي تقود هذه الثورة الشعبية في المدن والقرى والعاصمة ليكون هو المجلس السيادي الأعلى والحامي للثورة الشعبية مع تمثيل شخص قيادي واحد فيه لكلٍ من القوات النظامية.
وفي رأينا حتى الآن لا توجد وثيقة من جملة البيانات والوثائق التي ظهرت مع تباشير الثورة وتفجرها المستمر نظرت إلى الواقع بمثل هذا المسبار وكشف عن مقاتله، ثم حذرت منه بطريقة جراحية حاذقة.
وفي سبيل تحقيق هذه المبادئ، طالبت وثيقة "حتى لا تسرق الثورة" بجملة خطوات وقرارات ثورية، هي بمثابة شروط تتوقف عليها عملية نجاح الثورة، وإذا لم تتخذ بموجب الشرعية الثورية، فإنها لن تتخذ بالمرة بما يفتح الباب واسعا لسرقة الثورة. دعونا نقرأ من الوثيقة: يكون من مهام هذا المجلس الثوري الشعبي السيادي إصدار خمسة قرارات سيادية ومحورية لتأمين الثورة وتمكينها من بلوغ مراميها السامية وذلك في سبيل الحيلولة دون سرقة الثورة الشعبية وإعادة إنتاج نظام الإنقاذ (1) واستبداله بنظام الإنقاذ (2): القرارات الثورية الخمسة هي على النحو التالي:
·         أول القرارات الثورية: إلغاء جميع القوانين والرجوع فوراً للعمل بقوانين 1975م التي تعتبر زبدة التجربة الفقهية القانونية السودانية.
·         ثاني القرارات الثورية: التحفظ واعتقال جميع الشخصيات التي شاركت في انقلاب 30 يونيو 1989م والشخصيات التي أيدت أو ساندت ذلك الانقلاب أكان ذلك على المستوى الفردي أم على المستوى التنظيمي، بجانب اعتقال جميع شاغلي المناصب السياسية والوزارية والسيادية والدستورية لدولة الإنقاذ.
·         ثالث القرارات الثورية: تشكيل مجلس وزراء من التكنوقراط يكون مركّزاً وغير مترهل تراعى فيه الكفاءة والنزاهة السياسية والشخصية كما يراعى فيه التمثيل الجغرافي لمدن الثورة وقراها ويكون هناك ممثل للقوات المسلحة في منصب وزير الدفاع وممثل للبوليس في منصب وزير الداخلية، مع فصل جهاز الأمن الداخلي من جهاز المخابرات وتتبيعه للبوليس كما هو معمول به في كل العالم المتحضر.
·         رابع القرارات الثورية: تكون هناك فترة انتقالية هي مدة حكم المجلس الثوري ومجلس الوزراء الثوري على ألا تقل مدته الزمنية من 4 إلى 6 سنوات على أقل تقدير لإنجاز كل المهام الثورية اللازمة لتخليص البلاد من آثار نظام الإنقاذ المارق.
·         خامس القرارات الثورية: إلغاء إسقاط الجنسية من ملايين السودانيين الشماليين الذين تعود أصولهم الإثنية لدولة الجنوب والذين ظلوا ولا يزالون يعيشون في السودان ولم يقوموا بالتوقيع على أو صياغة اتفاقية نيفاشا كما لم يقوموا بتسجيل أسمائهم في سجل الناخبين للاستفتاء ولم يقوموا بالتالي في التصويت في الاستفتاء ورغم ذلك عاقبتهم دولة الإنقاذ المارقة على فعل لم يرتكبوه وقامت بفرزهم على أساس عنصري وانتهاك حقوق المواطنة خاصتهم وتحويلهم إلى "بدون" داخل وطنهم. فقد كان ذلك القرار غير دستوري وغير قانوني كما كان قراراً عنصرياً جعل من السودان في ظل الإنقاذ دولة فصل عنصري. إن هذا الجسر البشري الذي يربط بي شقي الوطن هو الذي سنعبر من خلاله لاستعادة وحدة التراب السوداني. ومن هنا نهيب بأهلنا السودانيين الذين تعود أصولهم الإثنية لدولة الجنوب بأن يلعبوا دورهم الوطني بالمشاركة الفاعلة في هذه الثورة المجيدة من منطلق الأصالة. فالحقوق لا تُستجدى بل تُنتزع.
لا غرو أن كتب رجل في قامة البروفيسور محمد إبراهيم خليل عن هذه الوثيقة عشية توقعه عليها ما يلي: "من بُعدٍ حرمني من أن أشهد عن كثب ثورة كنت دائماً ـــ بخلاف كثير من الناس أكاد أكون موقناً أنها لا محالة قادمة، مِن بُعدٍ بعيد، وقلب مفعم بمزاج من الغبطة والقلق والأمل واليقين، أحيي الثورة وشبابها، صغارها وكبارها، أحييهم وأحثهم ... على المُضي قُدُماً حتى بلوغ هدف الشعب جميعاً في الإطاحة بنظام الفساد والطغيان ... من البُعد، أسأل الله العلي القدير أن يوفق لجنة الثورة إلى تخييب وساوس المثبطين ... . ثم يزجي بالتحية على الذين بادروا بصياغة وثيقة "حتى لا تسرق الثورة" بأسمائهم واحدا واحدا، ليخلص إلى قوله: "وأؤيد تأييداً مطلقاً ذلك البيان الذي أفرغوا فيه حصيلة خبرات طويلة في العلوم التطبيقية والإنسانية والسياسية، مع الوطنية الصادقة المتجردة، وأدعو المواطنين تأييده ولجنة الثورة إلى تبني بيان الثمانية، والسلام عليكم ورحمة الله".

نجاح الثورة في عدم سرقتها
إن خطوات وإجراءات سرقة الثورة عادة ما تجري وتمشي على قدم وساق بين الناس وتحت أعينهم. فالتآمر لسرقة الثورات، وإن كان يجري وراء الكواليس، إلا أن الثورات تسرق في وضح النهار والثوار ربما لم يعودوا بعد إلى منازلهم. ولا من ضامن ضد هذا سوى االوعي الثوري الذي ينبغي أولا أن يتبلور في شكل مطالب محددة، ثم بعد هذا ينداح في الوعي الشعبي إلى أن يصبح جزءاً من الوقود الثوري، أي أن يتحد الفعل الثوري مع الوعي الثوري. وكيفما كانت روعة وثيقة "حتى لا تسرق الثورة"، وكيفما كانت عميقة وبعيدة النظر، فإننا نرى أنها يمكن اختصارها في ثلاث شروط أساسية، بغيرها تكون الثورة قد سرقت وتم إبدال نظام الإنقاذ (1) بنظام الإنقاذ (2). في رأيينا أن أهم النقاط الواردة في الوثيقة هي:
·         أولا: إلغاء جميع القوانين والرجوع فورا لقوانين 1974م / 1975م. لماذا؟ لأن هذا المطلب يجنبنا الوقوع في الدائرة المغلقة المتمثلة في العلمانية / الإسلامية.
·         ثانيا: ضرورة اتخاذ قرار بإلغاء إسقاط الجنسية عن السودانيين من أصول جنوب سودانية لمفارقته الدستورية والقانونية، هذا بجانب الإلغاء الدستوري والقانوني لاستثناء جنوب السودان من التمتع بازدواجية الجنسية المتاحة لكل شعوب الأرض. لماذا؟ أولا لأن هذا يجنبنا الوقوع في شرك المغالطة البيزنطية المتمثلة في التراوح والصراع بين العلمانية / الإسلامية.  هذا بجانب أن إلغاء استثناء الجنوبيين (بالمعنى القانوني) من حق التمتع بازدواجية الجنسية، ذلك بما يجعل من انفصال الجنوب مجرد تحصيل حاصل كونهم جميعا يتمتعون بالجنسية السودانية. وقد يسأل سائل نفسه: بماذا يفيدنا هذا؟ وتجييء إجابتنا على النحو التالي: للطائفية جماهيرها (وهي نائمة لا تستيقظ إلا عند إيقاظها لتقوم بالتصويت في الانتخابات)؛ وكذلك للإسلاميين جماهيرهم التي أثبتت التجارب أنهم يمكن تحريكهم شطرنجيا للتصويت بغية تفويز مشروعهم. فما الذي يبقى؟ تبقى القوى العلمانية التي لها جماهير ما في ذلك شك، لكنها بكل التصورات والاحتمالات لن يكون في مقدورها أن تحقق أي انتصار حقيقي وحاسم على قوى الإنقاذ (2) وقوى الطائفية. فماذا يتبقى لها من قوى جماهيرية؟ بالطبع لها جماهير لا يمكن الاستهانة بها، لكنها لا تملك القوة الكافية لحسم الصراع ما لم نقم بإضافة القوة الجماهيرية القادمة من إخوتنا بالجنوب الذين لا يمكن أن ينحازوا إلا للمشروع الوطني الديموقراطي العلماني وغير الديني.
·         ثالث الشروط وأهمها: ألا تقل الفترة الانتقالية عن أربع سنين على أقل تقدير. لماذا؟ الجواب ببساطة على النحو الآتي: للطائفية رصيدها الجاهز وكذلك لقوى الإنقاذ 2 وهي مستعدة منذ سنين بالنسبة للأولى بمثلما للثانية، فماذا عن قوى التحول الديموقراطي؟ لا يبقى لها غير أن تثبت فعاليتها وقوتها خلال الفترة الانتقالية التي لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تقل عن 4 سنوات.
الثورة لا تنجح فقط لأنها نبيلة، ولأن جميع قطاعات الشعب قد شاركت فيها، بل لأن هناك وعيا ثوريا ناضجا وناصعا يقف وراءها لحراستها وإرشادها. هذا الوعي الثوري ليس صفويا، بل ينبغي أن يكون شعبياً، ذلك بأن تملكه كل القطاعات الشعبية الثائرة. ومسألة ترفيع الوعي الثوري وشعبنته يعني اختصار كلام كثير وتنظير قد يكون معقدا في شعارات بسيطة يتمثلها الثوار وهم في انفعالهم الثوري فتصبح لهم بمثابة المرشد لهم حتى لا تنسرق ثورتهم أن تجهض.
في هذا كان من المؤمل أن يحدد تجمع المهنيين شروط نجاح هذه الثورة في استقلالية تامة من أي مؤثرات أخرى قد تدفع به إلى إجراء التسويات. فالثوري الحقيقي لا يقع في شراك التسويات، وإلا فقد ثوريته وكان بهذا مقدمة نحو إجهاض الثورة. بعد تحديد هذه الشروط، كان من المؤمل أيضا أن يجعل من كل واحدة منها شعارا لواحدة من المظاهرات التي يعلن عنها. فمثلاً، إذا كان قد جعل من رفض أي تغيير من داخل النظام شرطاً لنجاح ثورته، فترفيع الوعي الشعبي بهذا الشرط يتحقق (ضمن وسائل أخرى) بجعله شعاراً لمظاهرة واحدة (ولنقل مظاهرة 25 ديسمبر 2018م)؛ وكذلك الأمر إذا كان قد جعل من رفض تشكيل أي مجلس عسكري انتقالي أحد شروط نجاح الثورة، أن يجعل منه شعارا لإحدى مظاهرالته (ولنقل مظاهرة 5 يناير 2019م)؛ وكذلك إذا كان قد جعل من الإلغاء الثوري لجميع القوانين وإعادة العمل بقوانين 1974م / 1975م أحد أهم شروط نجاح الثورة، وذلك بأن يجعل من هذا الشرط شعاراً لإحدى مظاهراته (ولنقل مظاهرة 9 يناير 2019م)؛ وكذلك إذا جعل من ضرورة إلغاء سحب الجنسية من السودانيين الذين تعود أصولهم لدولة جنوب السودان كأحد أهم الشروط لنجاح الثورة في استعادة وحدة البلاد، فعندها يمكن أن يجعل من هذا شعارا لمظاهرة الأحد 13 يناير 2019م ... وهكذا دواليك.
هكذا يتم ترفيع وتكريس الوعي الثوري للجماهير الثائرة حتى لا تتوه بوصلتها في خضم الأحداث التي تنطوي عليها عملية التغيير، ذلك لأن الثورة تسرق في لحظة التغيير. فالضمانة الوحيدة لتحقق الثورة هو الوعي الثوري. لقد سقط التجمع النقابي الذي قاد ثورة أبريل 1985م في هذا الاختبار، اختبار اكتساب الوعي الثوري اللازم، ثم في اختبار تمليك هذا الوعي لجماهير الثورة. وقد تجلى كل هذا في قبوله بتشكيل المجلس العسكري الذي لم يكن شيئا بخلاف مايو (2). تلك كانت لحظة التغيير وتلك أيضا كانت اللحظة التي سرقت فيها الثورة. وهذا ما لا نريده لثورتنا المجيدة التي نعيش حراكها الآن.

ختاما
هناك الكثير الذي يمكن أن نقوله عن فن "المظاهرة" من حيث التكتيك والإستراتيجية. فكونها أحد فنون السياسة وتداول السلطة يعني لانهائية الإبداع فيها؛ فالفن، أي فن، لانهائي الإبداع. ولكن مع هذا تبقى الأسس التكتيكية هي نفسها الأسس التي يتشكل الإبداع على أرضيتها. أما بخصوص الإستراتيجية للمظاهرات فهي تحقيق التغيير المنشود الذي من أجله انطلقت المظاهرة أول أمرها. والحلقة التي تربط بين التكتيك والإستراتيجية هي الفعل القائم على وعي متكامل بكيفية ومهام التغيير المنشود.
وكذلك يمكننا أن نتكلم بأكثر من هذا عن الثورة الشعبية بوصفها ناتج المظاهرة. هنا تصبح المظاهرة هي التكتيك الأساسي للثورة كفعل، لكنها قطعا ليست الثورة فحسب. فالثورة هي جماع الفعل والوعي الثوريين، وإلا فإنها ثورة مسروقة أو مجهضة. واليوم، ونحن نعيش الثورة كعملية process مستمرة، علينا ألا تأخذنا فورة الثورة revolutionary euphoria، كون هذه الفورة عبارة عن غرارة وسذاجة وقصر نظر، وليس أضيع للثورات من تقاصر الوعي الثوري جراء الوقوع في حبائل الوهم والتفكير الرغبوي.

No comments: