Sunday, July 05, 2009

خليل فرح: رجل بقامة أمّة

هذا هو الفصل الخامس من كتابي: جزيرة صاي .. قصّةُ الحضارة: صراعُ الثّقافات وقضايا التّنمية والتّهميش في بلاد النّوبة (قيد الطّبع)


مقدّمة

لم يُشتهر أديب وفنّان سوداني كما اشتُهر الخليل. فكما يقول عبدالله علي إبراهيم: "بقيت أثرة الخليل فينا لتوفّر أفضل مبدعينا على إذاعتها" [عبدالله علي إبراهيم، أنس الكتب، 1984: 47]. فبعيد وفاته مباشرةً أقيم حفل تأبين كبير للخليل تبارى فيه الشّعراء والمتحدّثون، باكين وراثين له. ومنذ ذلك التّاريخ، لم يتوقّف النّاس عن سيرته. فابنة عمّه، حاجّة كاشف، كتبت عنه [الخليل الشّاعر، 1945]، ثمّ كتب عنه حسن نجيلة [ملامح من المجتمع السّوداني، 1965]، فعبد الهادي الصّديق، فعلي المكّ محقّقاً لديوانه، ثمّ آخرون إلى يومنا هذا.

ومع كلّ هذا يكتنف الغموض الكثير من جوانب شخصيّته. قد يرجع البعض ذلك إلى ضياع جلّ شعره بالعربيّة الفصحى، ثمّ جميع ما كتب من شعر بالنّوبيّة، ما عدا مقطع واحد أو مقطعين. وهذا صحيح، إلاّ أنّه ربّما كان بعض الحقيقة. فخليل فرح كان رجلاً ذا شخصيّة عميقة وغامضة. ثمّ إن خطابه الأدبي، مع سهولة لغته الشّعريّة ومفرداته وجزالة تعابيره، لم يكن سهلاً ومباشراً. فقد كان خطابه يتحرّك في مستويين: عام وخاص. فإنّتاجه الشّعري دائماً ما يحمل معنيين، أحدهما عام يفهمه الجميع، وآخر خاص به شخصيّاً. يبدو أنّ خليل فرح كان يحرص كلّ الحرص على البعد الخاصّ في إنتاجه الفني، إذ من الواضح أنّه لم يكن يعطي متلقّي فنّه أيَّ مؤشّرات لاستكناه البعد الخاصّ في خطابه، ناهيك عن سبر أغواره. وقد نجم عن كلّ هذا أنّ استقراء خطابه الأدبي انكفأ في أغلبه على المستوى العام، الأمر الذي أدّى ـ فيما نظنّ ـ إلى رسم صورة غير كاملة عنه تطورت مع مرور الأيّام إلى صورة نمطيّة. في هذا الجانب سنحاول أن نستقرئ البعد الخاصّ في خطابه الأدبي لنلج عالماً ربّما لم يُتح لأحد من قبل إلاّ للقليلين. من ذلك القليل ما قام عبد الهادي الصّديق [نقوش على قبر الخليل، 1976]، إذ راضنا برياضة استقرائيّة فريدة للجماليّات الواردة في شعر الخليل، وذلك من قبيل إسقاط مكنونات الذّات القارئة على ما يقوله الشّاعر. ولا نزعم بهذا أنّ أستاذنا عبدالله علي إبراهيم قد فاته شرف التّمتّع برياضات عبد الهادي الصّديق في تنقيبه عن ذاته عبر شعر الخليل، إذ دخل معه فيما يمكن النّظر إليه كمماحكات، وذلك عند مراجعته للأوّل حول بعض الدّلالات القاموسيّة لتفاسيره لشعر الخليل [أنظر: عبدالله علي إبراهيم، أنس الكتب، 1984: 39-46]. فقد لاحظ تلك الابتداعات، وزاد عليها باستقراءات من عنده تزيد من توكيد ما ذهبنا إليه.

سوف نتطرّق في هذا أوّلاً لمصادر لغته العاميّة؛ وثانياً أثر تجربة التّسفار بقوافل الجمال على حسّه الكوزمولوجي، وهو ما نسمّيه بالوعي الوجودي؛ ثالثاً، نتكلّم عن شعر الطّبيعة عند الخليل؛ ورابعاً نختم بمكانة صاي في عالمه الشّعري الخاصّ الذي أشرنا له.

ويمكن إرجاع هذا التّراوح ما بين العام والخاصّ إلى طبيعة شخصيّته والطّريق الذي اختطّه لنفسه في سياق الثّقافة الاجتماعيّة آنذاك. فصورة خليل فرح في الحياة العامّة ـ مثلاً ـ تختلف كلّ الاختلاف عن صورة حياته الخاصّة، أي داخل أسرته. كما تختلف شخصيّته في الحياة العامّة عن شخصيّته في الحياة الخاصّة داخل أسرته. ففي الحياة العامّة كان معروفاً بالبشاشة واللطف والظّرف ولين الجانب مع أصدقائه، فضلاً عن اشتهاره بالأدب والفن ـ وإن لم يغنِّ للعامة؛ أمّا في حياته الخاصّة، فقد كان صموتاً قليل الكلام مختصره، لا يجرؤ أهل بيته على رفع الكلفة وتجاذب الحديث معه. كانت زوجته سلامة شلاّليّة تحكي أخريات أيّامها لمن يتناول معها هذا الموضوع، خاصّةً من أفراد الأسرة، كيف أنّها لم تعرف أن الخليل كان يغنّي إلاّ بعد موته. فقد كانت تظنّ أنّه ـ بخلاف ما أُثر عنه من غناء بالنّوبيّة بصاي في أوّل شبابه ـ قد ترك الغناء والمعازف. فهي لم تره يحمل عوداً أو طنبوراً، كما لم تسمعه يترنّم بلحن لأي أغنية، نوبيّة كانت أم عربيّة. في منتصف السّبعينات سألت أخاه الأصغر علي فرح كيف لم يستوثقوا منه عن ديوانه الشّعري عندما كان يرقد بستشفى النّهر في أيّامه الأخيرة. فضحك وقال لي بأنّ الخليل كان رجلاً صعباً مرهوب الجانب، لم يكن أحد من أفراد أسرته يجرؤ على الدّنو منه. ثمّ ذكر كيف أنّهم جميعاً كانوا يجلسون بالطّابق الأرضي بمستشفى النّهر، بينما الخليل لوحده بغرفته بالطّابق الأوّل. وبين فينةٍ وأخرى كان واحد منهم يتسلّل خفية للإطمئنان عليه، فإذا به واقفٌ يذرع الغرفة جيئةً وذهاباً وهو ينظر ساهماً من النّافذة إلى الأفق البعيد عبر النّهر. وقد استمرّ على هذه الحال حتّى أعياه الوقوف والمشي في الليلة الأخيرة التي صعدت فيها روحه إلى بارئها.

في عام 1986م توفّيت ابنته عائشة بالكلاكلة، فجاءت عمّتها فاطمة (بابّا ييّا) من قرية عمارة بالسّكّوت للعزاء، وهي الأخت الوحيدة لخليل. خلال أيّام العزاء استرعى انتباهها أحد أحفادها من أبناء المرحومة عائشة خليل، ألا وهو أحمد محمّد أحمد هاشم (المعروف بأحمد دودو). فقالت لمن حولها من الأسرة: "أرأيتم أحمد دودو هذا؟ من أراد منكم أن يرى الخليل رؤيا العين شكلاً وطبعاً، فلينظر إلي أحمد دودو". في ذلك الزّمان قبل أن يدخل في زمرة المغتربين فتنتفخ أوداجه سمنةً، كان أحمد دودو طويل القامة، رفيعها، أجعد الشّعر، أخضر العينين، قمحي اللون أفتحه، صارماً، مقلاًّ للكلام داخل البيت، بشوشاً ضاحكاً خارجه؛ يغادر البيت والنّاس على مائدة الطّعام دون أن يأكل شيئاً، فيسرع الخطا عسى أن يلحق بآخر ما في المائدة في منزل أحد أعمامه أو أبناء أعمامه المجاورة. هذه هي صورة خليل فرح داخل الأسرة، وهي صورة غائبة تماماً في الأدبيّات التي كُتبت عنه.

ولد خليل فرح بدبروسة شمال مدينة وادي حلفا عام 1892م حسبما ورد في ديوانه [علي المك، 1977]، وعام 1894م حسبما هو متعارف عليه بين أفراد أسرته، وهذا ما أورده أيضاً بدري كاشف [2000م]، مع العلم بأنّ راوي شعره الفنّان حدباي أكّد للهادي حسن أحمد هاشم أنّ الخليل قد مات عن واحدٍ وأربعين عاماً [راجع تسجيلات الهادي حسن هاشم]. ويعني هذا أنّ الخليل قد وُلد عام 1891م استناداً على تاريخ وفاته، أي عام 1932م. أمّا في أمر ولادته بدبروسة، فهناك احتمالان، أوّلهما أنّ ذلك حدث عندما هاجرت أسرته من صاي نحو الشّلاّل الأوّل بأسوان هرباً من طلائع جيش ود النّجومي المتقدّمة نحو مصر أوائل عام 1891م. فخليل فرح من وردياب صاي (صيصاب) الذين كان يقودهم عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي من ساب. وقد وقف الرّجل ضدّ الأنصار وهزمهم في عدّة مواقع قبل أن يضيّقوا عليه الخناق، ممّا اضطرّه إلى الهرب لمصر حيث لم يعد منها أبداً. الاحتمال الثّاني أن تكون ولادته قد حدثت أثناء التّسفار الذي عُرفت به أسرته باعتبار أن التّجارة كانت حرفتها. فمنذ منتصف القرن التّاسع عشر اضطلع بدري كاشف خيري بالتّجارة ما بين الخرطوم (لاحقاً أمدرمان) والأبيّض، عن طريق دنقلا، فأسوان عن طريق وادي حلفا. في رأينا أن هناك عدّة أسباب دفعت به إلى هذا نكتفي بذكر إثنين منها؛ أوّلهما العمل الدّؤوب للمحافظة على تجارة وردياب صيصاب في تنافسهم الشّديد مع الحجّيّاب على احتكارها. الثّاني قلّة الموارد بالمنطقة، خاصّةً وأنّ بدري كاشف أنجب "واحداً وعشرين ابناً وبنتاً واحدة هي طاهرة، وكان أحفاده ستةً وخمسين حفيداً" منهم خليل نفسه [بدري كاشف، 2000: 7]. ولنا أن نلاحظ أنّ الاحتمالين لا يتناقضان، فأغلب الظّن أنّهما معاً كانا السّبب وراء ولادته بدبروسة، شمالي مدينة وادي حلفا وكان بها معسكر الإنكليز المناوئ للمهديّة. بهذا تكون أصوله من السّكّوت، أمّا القول بأنّه من المحس، فذلك لغلبة اسم "المحس" على اسم "السّكّوت" بأواسط السّودان، كما ورد ذكره من قبل. وفي هذا نُشير إلى أمر هامّ يتعلّق بديناميّة اللغات واستمرارها في التّغيّر والتّشكّل، خاصّةً ما يدخل منها في باب أسماء الأشخاص والأماكن والنّاس. ففي بدايات القرن العشرين لم يكن الاسم الإثني "حلفاوي" موجوداً، وإذا كان موجوداً لم يكن شائعاً؛ فالمعروف كان اسم "الفديجّا"، الذين ينقسمون بين السّودان ومصر، وأصبح الجزء السّوداني منهم يسمّون باسم حاضرتهم، مدينة حلفا. ولهذا كان أهالي حلفا القديمة كثيراً ما يُصنّفون كمحس في أواسط السّودان وفي السّجّلات الحكوميّة. ففي الأورنيك القضائي الذي بموجبه تمّ تسليم المناضل محمّد سرّ الختم لسلطات السّجن لقضاء محكوميّة الثّلاثة أشهر (حكومة السّودان، أورنيك قضائي نمرة ب 12، 1919م، والصّادر من قاضي البوليس Police Magistrate بتاريخ 28/7/1924م)، يرد اسم قبيلته على أنّه "محسي"، بينما المعروف أنّه حلفاوي [أنظر المقابلة التي أجريت مع ابنته "شريفة" وأحفاده في جريدة الخرطوم، 26/8/2006م].

عرفت أسرة بدري كاشف خيري سكنى الخرطوم في العهد التّركي قبيل المهديّة، مع بعض أسر أخرى من صاي (لمزيد من التّفاصيل حول هذا، راجع صاي والكلاكلة أعلاه في الفصل الرّابع، ثمّ حُملت على الهجرة إلى أمدرمان مع باقي سكان الخرطوم بأوامر الخليفة عبدالله التّعايشي، فبقيت بها إلى اليوم، عدا الخليل الذي استقرّ بالخرطوم حيث كان بها منزله إلى أن مات. ويعتبر (حوش بدري) ببيت المال من البيوت الكبيرة، يشاركه في ذلك من بيوتات صاي بأمدرمان (حوش شوربجي) ببيت المال أيضاً. وقد اشْتُهر من حوش بدري العديد من الشّعراء والفنّانين الذين كان لهم كبير الأثر في أغنية الحقيبة شعراً وغناءً، فضلاً عن كونهم مدخلاً جيّداً لأخيهم خليل فرح القادم لتوّه من جزيرة صاي. من هؤلاء نذكر محمّد علي عثمان بدري ومحمّد علي عبدالله الأمّي. وقد اكتسبت هذه الأسرة جرّاء التّسفار والتّنقّل العديد من العلائق والصّلات الاجتماعيّة. من ذلك العلاقة الخاصّة التي ربطتها بآل العمدة أحمد شريف بوادي حلفا، وهي علاقة حافظ عليها الخليل نفسه حيث كان ينزل على هذه الأسرة في رحلاته من وإلى مصر. ثمّ الصّلات الأسريّة القويّة بالعديد من الأسر بدنقلا، الأمر الذي مهّد لمصاهرات عدّة نجم عنها فرع البدرياب بجزيرة مقاصر، فضلاً عن أصهار الأسرة من آل بركيّة بحفير مشّو ممّن هاجر أصلاً من عبري إلى دنقلا ربّما من أثر ذلك. فأمّ خليل فرح هي زهرة الشّيخ من آل بركيّة بتبج، جنوبي عبري.

يقول علي المكّ بخصوص أسفار الأسرة: "كان والد خليل يعمل في التّجارة، وتلك جعلته كثير الأسفار في المنطقة بين حلفا ودنقلا، وكثيراً ما كان يصطحب خليلاً معه" [علي المك، 1977: 4]. ويبدو أنّ الخليل قد سعى لممارسة التّجارة أسوةٍ بأهله أيضاً، وذلك بعيد نزوله المعاش عام 1928م مباشرةً. فقد حكى لي حسن أحمد هاشم باعتباره شاهداً (وأكّد القصّة فيما بعد ابن الشّاعر فرح خليل فرح) كيف أنّ الخليل استبدل معاشه بمبلغ 150 جنيهاً، اشترى منها بمبلغ 75 جنيهاً عربة لوري ليسوقه أخوه حسن، يعاونه في ذلك شقيقهما الأصغر علي. كان ذلك اللوري يقوم برحلات منتظمة بين الخرطوم وود مدني، حيث كان الرّاكب يدفع ما مقدراه قرشان. ولكن المشروع فشل فشلاً ذريعاً لأسبابٍ ما. عندها توجّه الخليل بباقي المبلغ (75 جنيهاً) إلى مصر في رحلة علاجه الأولى.

إذن، هكذا تنقّل خليل فرح مع قوافل الأسرة التّجاريّة عبر الصّحارى والقفار في سنيّ صباه وشبابه الأولى، حيث تركت هذه التّجربة أثراً كبيراً على شاعريته وعمقها، كما لعبت دوراً أساسيّاً ـ فيما نرى ـ في تشكيل لغته العربيّة العاميّة. وسيكون أثر هذه التّجربة في تشكيل لغته أحد الأبعاد التي سنعمل على إجلائها، وهو ما اعتبره الكثيرون من نقاده لغزاً محيّراً. كما سيكون العمق الذي خلقته تجربة السّفر تلك والسّرى ليلاً في الصّحراء أحد الأبعاد التي سنتلمّسها في شعره، وسنطلق عليه العمق الوجودي في شعر الخليل. وكل هذا ممّا لم يقف عليه أحد من قبل.

مع تسفار الخليل وتنقّله مع أهله في رحلات صيفهم وشتائهم التّجاريّة، كانت صاي (صيصاب) هي المآبة التي يتفيّأ ظلالها ويلقي عندها عصا ترحاله. ففيها بدأ رحلة العلم في خلوة الشّيخ أحمد هاشم (بابا شيخ أحمد)، وفيها تفتّحت عيناه على طبيعة ساحرة، يتعانق فيها النّيل (بزرقته) مع الغابة والصّحراء (في اخضرار الشّطئان في الأولى ومحاصرة كثبان الرّمال لها في الثّانية). وهذه لوحة طبيعيّة قد يصعب لمن لم يرَ جزيرة صاي أن يتصوّرها. وقد صدق بدري كاشف في قوله: "نشأ خليل فرح في جزيرة صاي التي تحيط بها مياه النّيل من جميع الجهات المختلطة بأنين السّواقي وأصوات العصافير المغردة وحفيف أغصان النّخيل الباسقة والشّاهقة التي عاشت في وجدانه وتفاعلت مع أحاسيسه" [بدري كاشف، 2000: 7]. ويقول علي المك [1977: 5] بهذا الخصوص أيضاً: "... ولعلّه في تنقّله مع أبيه رأى كثيراً من هذه المعالم، فلو أنّهما سافرا بمركب على النّيل لأبصرا بالكثبان الرّمليّة في الغرب، والجبال الممتدّة على الشذرق، وربّما أُخذا بالخضرة التي تظهر حيناً بعد حين". وسيكون من أثر كلّ ذلك أن تصطبغ رؤيته الجماليّة بنزعة انطباعيّة تصويريّة تتجلّى بوضوح في شعر الطّبيعة عنده. في هذا الصّدد سنتحرّى موضوعين مهمّين، أوّلهما شعر الطّبيعة عنده، وثانيهما مكانة صاي في شعره. ثمّ سنختم ذلك بالحديث عن النّوبي الضّائع في شخصيّة خليل فرح، ببيّنة ضياع شعره باللغة النّوبيّة، وعلاقة ذلك بميكانيزم الاستعراب كنموذج مطروح للحداثة أمامنا ـ نحن السّودانيين من غير العرب ـ ، وتحدّي أن نكون أو لا نكون.

خليل فرح وشعر البداوة

من الرّطانة إلى العربيّة

أثارت إجادة الخليل للغة العربيّة العاميّة إعجاب الكثيرين، كما دفعت الكثيرين منهم للتساؤل عن الطّريقة التي تعلم بها الخليل اللغة العربيّة [أنظر: عبدالله علي إبراهيم، 1984: 39-53]، ذلك لأنّه عندما قدم إلى أمدرمان لم يكن يجيدها. فمثلاً قال عن ذلك أبو قرون عبدالله أبو قرون [في بدري كاشف، 2000: ص 5]: "... وتجلّت عبقريّة الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". كما تعرّض الهادي الصّديق في نقوشه على قبر الخليل [1974] لعجمة لسان الخليل، فقال: "كان ذلك في جزيرة صاي أرض المعابد والمدافن ...، هناك يفتح التّاريخ كنزاً جديداً ويرسل من بلاد طيرها أعجمي لساناً محسياً فصيحاً وشاعراً وفنّاناً يزن اللحظة من التّاريخ بفنّه ....". ويمكن أن نتلمّس الكيفيّة التي أجاد بها الخليل اللغة العربيّة في ذات الطّريقة التي درج بها أبناء النّوبة وغيرهم من أفارقة السّودان ممّن يولدون على غير العربيّة على تعلّمها. فمن المعروف أنّ العربيّة عند أغلب هؤلاء تمرّ بفترة كمون في الذّهن والعقل والقلب، دون أن يبين عنها اللسان. وهكذا يمرّ بهؤلاء زمنٌ في باكر شبابهم يغالبون فيه عقدةً في لسانهم، ولا ينطقون بالعربيّة (عامّيها وفصيحها) إلاّ معاظلةً وفي تكلّفٍ شديد. ولكن في مرحلة معيّنة من شبابهم، تُحلُّ عقدة اللسان عندهم، فإذا بالعربيّة تنساب عندهم في كلّ مستوياتها مع لكنةٍ لا تخفى، بها ينماز أهل الشّمال النّوبي من أهل الجنوب النّيلي، من أهل الغرب، وأهل الشّرق وجبال النّوبة والأنقسنا، دواليك. إذن فهذا ما كان من تجربة الخليل مع اللغة العربيّة غالباً، وليس هناك ما يدعونا لنفترض غير ذلك.

بيد أنّ هذا لا يجيب عن التّساؤل الأساسي، ألا وهو إجادة الخليل للغة العربيّة العاميّة كما لو كان قد وُلد وشبّ عليها. فإجادة الخليل للعاميّة العربيّة أثارت إعجاب معاصريه من شعراء ذلك الزّمان، إذ بزّهم فيها، وهو الذي لم يكن يتكلّمها عندما قدم إلى أمدرمان بعيد منتصف العقد الأوّل من القرن العشرين. إضافةً إلى ذلك فقد كانت عاميّة بدويّة وليست حضريّة. فالخليل جاء إلى العاصمة وعمره حوالي السّادسة عشرة، فالتحق بكليّة غوردون حوالي عام 1908م وتخرّج عام 1912م، وعمره حينها ثمانية عشر عاماً. وقبيل تخرّجه بقليل جرت المبارزة الشّعريّة (مجادعة) التي قادها الشّاعر يوسف حسب الله (سلطان العاشقين) وقريبه محمّد عثمان بدري امتحاناً لشاعريته، وانتهت بالاعتراف به كشاعر مجيد ومتمكّن من لغته ومتأدّب بأدب الشّعراء المحبّين، المُعفّين، العذريّين. ومن المؤكّد أنّ الخليل لم يشرع في تعلّم العربيّة العاميّة بعد وصوله، وإلاّ لما تمكّن من إثبات تفوّقه فيها خلال مدّة لا تتجاوز السّبعة أعوام والتي هي كافية لتعلّم أي لغة ولكن ليس لمستوى إجادتها كما لو كانت لغة الأمّ. فاللغة العربيّة العاميّة التي أشعر بها الخليل ممّا لا يمكن أن تتأتّى إلاّ لمن نشأ عليها. إذن من المرجّح أنّ الخليل كان قد تعلّم تلك اللغة في صغره، فكمُنت في ذاته كمون النّار في الحجر، حتّى إذا ما امتدّت به السّنون في العاصمة حيث الحديث كلّه بالعربيّة، انبثقت تلك اللغة من مكامنها جزلةً، فخمةً فجرت على لسان شاعرٍ فحل. فكيف وأين ومتى تعلّم الخليل تلك العاميّة السّودانيّة البدويّة مجيداً ومتقناً لها؟ ولعلّ هذه التّجربة نفسها التي مرّ بها محمّد عثمان بدري، ابن عم الخليل. و"محمّد عثمان" اسم مركّب خاص به دون والده، واسمه بالكامل محمّد عثمان علي بدري.

الخليل وأعراب النّوبة

إذن السّؤال الذي نحتاج لإجابته هو: أين تعلّم الخليل اللغة العربيّة؟ للإجابة على هذا السّؤال علينا أن نرجع إلى طفولة خليل فرح. بعد أن وُلد في حلفا، عاش الخليل طفولته وصباه في صاي حتّى تخرّج في خلوة بابا شيخ أحمد حيث كانت النّوبيّة لغة المحكّ في المنزل والقرية. بعد ذلك درس الخليل في دنقلا متنقّلاً باستمرار مع والده وأعمامه في رحلاتهم التّجاريّة ما بين أسوان عبر حلفا وصاي، إلى دنقلا، فأمدرمان وبالعكس. هنا بدأ الخليل في تعلّم العربيّة الفصحى، وذلك عبر المناهج المدرسيّة كما هو العهد بكلّ أفارقة السّودان. ولكن في تلك الأسفار بدأ الخليل في تعلّم لغةٍ أخرى سيكون لها أعظم الأثر في تاريخه الشّخصي وفي تاريخ أمته، ألا وهي العاميّة العربيّة السّودانيّة في مستوياتها البدويّة والحضريّة معاً. فمن المعروف أنّ تنقّله مع والده وأعمامه كان حينها يتمّ بقوافل الجمال، بكلّ ما تشمل من فريق من العرب البدو، منهم من يعمل كدليل، ومنهم من يعمل كمشرف على الجمال، أكلها وشرابها. كانت هذه القوافل تستريح نهاراً في القيلولة، وتسافر فجراً وعصراً ثمّ آناء الليل. وكان الأعراب المرافقون لها يحدون إبلهم حثّاً لها لتغزّ السّير. أمّا عندما يستريحون ليلاً، فقد كان ذلك أشبه ما يكون بمنتدىً أدبي، إذ كان أولئك البدو يتحلّقون حول النّار يشربون الشّاي وهم يتطارحون شعراً وإنشاداً. وكانت مطارحاتهم تحفل بالملح والطّرائف، هجاءً ومدحاً، وتغزّلاً. من جانبهم كان النّوبيّون من أهل الخليل يتطارحون بلغتهم إنشاداً لما يعرف بغناء "الكلّكيّة"، وهو فنٌّ أُثر عن جلسات الخمر، ثمّ أصبحت له استقلاليته [راجع في ذلك: سيد مُسُل، 1974]. وقد أُثر عن الخليل إتقانه لهذا الجنس من الغناء بالنّوبيّة. في ظنّنا أنّ الخليل تعلّم العربيّة العاميّة التي أنشد بها شعره وبزّ بها أقرانه، هناك في طفولته وصباه الباكر وهو يتنقّل مع والده وأعمامه في رحلاتهم التّجاريّة.

ممّا يدعم قولنا هذا، العديد من التّجارب المماثلة لنوبيين تعلّموا العربيّة العاميّة بنفس الطّريقة. من هؤلاء امرأة من صاي/عبري من آل هاشم اسمها زينب حسن شريف (حبّوبة نونو) توفّيت عن 85 عاماً، وكانت تتكلّم العربيّة بطلاقة وتروي شعراً عربياً عامياً حفظته عن ظهر قلبٍ من أعرابٍ أقحاح في طفولتها. درج آل هاشم بصاي وآل شريف بعبرين كونج على قضاء شهور الصّيف بأطيان لهم تقع غرب صاي بالمكان المسمّى ساقية العبد (بالنّوبيّة كِسّي، أي الكنيسة)، وذلك في موسم حصاد التّمر. هناك كان ينضمّ لهم العديد من أعراب البادية العابرين موسميّاً والمقيمين بالمنطقة. في الليالي كان هؤلاء الأعراب يتحلّقون حول النّار منشدين ومتسامرين. وقد كبرت حبّوبة نونو وهي تحفظ الكثير من أشعارهم التي ظلت ترويها حتّى آخر أيّامها، وكانت امرأة حافظة للتراث المحلي والتّاريخ الشّفاهي [راجع تسجيلات الهادي حسن أحمد هاشم التي سجّلها لحبّوبة نونو أوائل سبعينات القرن العشرين].

من ذلك ما حكته عن أعرابي أحبّ بنتاً من قرية أبْراقة، جنوبي صاي من الضّفّة الغربيّة، فطرده أهلها من القرية وحرّموا عليه دخولها. كان ذلك في الفترة ما بين عامي 1910م وعام 1912م، ذلك لأنّ حبّوبة نونو كان عمرها حينها حوالي 12 عاماً. وهم (أي آل هاشم وآل شريف) بساقية العبد، جاء ذلك الأعرابي العاشق بصحبة رجل الشّرطة الوحيد بالمنطقة آنذاك، وكان من أغرابها واسمه "محجوب". قالت حبّوبة نونو إنّها كانت تصلّي بأعلى "القيف"، فجاء الأعرابي العاشق ومعه محجوب العسكري، فنزل الأخير كيما يتوضّأ في النّيل، بينما جلس بجانبه العاشق، والذي شرع لتوّه في إنشاد قصيدة طويلة ظلّت حبّوبة نونو تنشدها كلّها حتّى آخر حياتها، ونورد منها البيت التّالي:

تَحْفَى من الرّقا وتورِد من الرّقراقة

يا محجوب حليلها السّاكنة بطن أبْراقة

ولنا أن نتصوّر أثر تلك التّجربة المتقطّعة في طفلة عمرها لم يكن يتجاوز الثّانية عشرة بأيّ حال من الأحوال، فقد كانت حبّوبة نونو فصيحة في العربيّة العاميّة، مع أنّها لم تغادر منطقة عبري طيلة حياتها، كما لم تتكلّم بالعربيّة التي تعلّمتها فكمُنت في لاوعيها، إلاّ بعد أن كبُرت، فإذا بتلك اللغة تنبثق من تلافيف لاشعورها. لقد حفظت شعر أولئك البدو الذين اختفوا في مسارب التّاريخ ليس بجزالة ألفاظهم فحسب، بل وبأساليبهم الأدائيّة أيضاً. وما ذلك إلاّ لشاعريّة أصيلة عند حبّوبتنا نونو، عليها رحمة الله، إذ قالت الشّعر بالنّوبيّة، فضلاً عن كونها أوّل من قام بمعارضة أغنية (بلاّل يا بلاّل يالعجب بلاّل) بالنّوبيّة.

وعن نفس هؤلاء الأعراب قال جيلي عبد الرّمن في خالدته "أحنُّ إليكِ يا عبري":

وأعـرابٌ وألغـازٌ تحيِّـر عـالـمَ الفكـر

تخوِّفُـنى بـها أمّى تقول: طـويلـةُ الشَّعـر

وأرجُلُها من الـطّـينِ وأعيـُنـُها مـن الجمـر

ذلك ترجيحاً ما كان من أمر الخليل بشأن اللغة العاميّة التي كتب بها شعره.

العمق الوجودي في شعر الخليل

أثر الليل والأفلاك على شاعريته

نعني بالعمق الوجودي إحساس المرء بذاته من خلال وعيه بالوجود الكوزمولوجي في إطلاقه، أي إحساسك بأنك ذرّة أو نقطة في وجود لامتناهي؛ إحساسك بأنك مجرّد ثانيّة عابرة في زمن سرمدي. مثل هذه الأحاسيس تثيرها عامّةً الطّبيعة العاريّة مثل الصّحراء والجبال والغابات، لكن أكثر ما يثيرها الليل بنجومه وشهبه ونيازكه، ذلك لأنّه يكشف عن اللامتناهي. ويكون تأثير هذه التّجربة أقوى إذا ما عايشها المرء في طفولته وباكر حياته، وهو ما عليه حالة خليل فرح. ولعلّنا لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا بأن شخصيّة الخليل قد تمّت صياغتها في طفولته الباكرة. فقد كان في طفولته ـ كما ذكرنا أعلاه ـ يتنقّل مع أبيه وأعمامه مسافراً على قوافل الجمال ومعايشاً للسرى. لهذا كثيراً ما يتردّد في شعره ذكر الليل والرّكاب والرّحال، ثمّ البدر والنّجوم والكواكب في إحساس عالي بالوجود أشبه ما يكون بوجوديّة الأطلال في الشّعر العربي الجاهلي.

من ذلك ما قاله في أغنية (عزّة في هواك) إشارةً إلى الرّكاب:

عزّة جسمي صار زي الخُلال وحظّي في الرّكاب صابُو الكلال

وقلبي لسَّ ما عِرِف المَلال أظِنُّو ود قبيل وكريم الخـلال

ويشغل السّرى وركوب المطايا حيّزاً كبيراً من شعر الخليل، لا في صوره الواقعيّة، بل في رمزيّة وجوديّة عميقة. من ذلك ما قاله في نفس الأغنية:

عزّة ما بنوم الليل محال بحسّب النّجوم فوق الرّحال

وخلقة الزّّاد كِمِل واْنا حالي حال متين أعود واْشوف ظبيّاتنا الكُحال

مثل هذه الإشارات والإيحاءات الوجوديّة قلّما تخلو منها قصيدة من قصائده. وهذا ممّا يؤكّد عمق تجربته الوجدانيّة في طفولته عندما كان يراقب أسمار البدو المرافقين لرِكابهم في أعماق الليالي، ويحفظ ما كانوا يردّدونه من شعر بلغةٍ رصينة ما كان له أن يصادفها وهو النّوبي "الأعجميّ" ـ مثلما يحلو لبعض النّقاد أن يشير ـ إلاّ بمعايشة حقيقيّة لحياة البدو الأعراب.

يقول الخليل:

وقت الليل بَرَدْ طَلَع البدُرْ بكواكبُو

وألحقتْ الإبل وادي الاراك برواكبُو

جادت واْسبلت عين المُحِب بسواكبُو

واحتلّ الفؤاد مَلِك الغرام بمواكبُو

ثمّ فلنتأمّل قوله:

في سموم الصّيف لاح لُو بارق لم يزل يرتاد المشارق

كان مع الاحباب نجمُو شارق ما لُو والأفلاك في الظّلام

فكأنّه يتحدّث هنا عن إحدى تجاربه في سفر القوافل وركوب المطايا نهاراً حيث السّموم وحرّ النّهار، ثمّ يأتي الليل والنّجوم، الأفلاك والظّلام. هذا مع علمنا بأن الشّائع عن تفسير هذه الأبيات أنّه قالها في رثاء نفسه إشارةً لاقفرار المقابر وظلام القبر. هذا التّراوح بين معنيين، قريب وبعيد، ممّا سنجيء إليه أدناه.

خرج الخليل من هذه التّجربة برصانة اللغة، مع حسّ وجودي عالي. وسيكون لهذا العامل أكبر الأثر في صياغة سيكولوجيته، وسعيه الحثيث كيلا يكون مجرّد شهابٍ شقّ عنان السّماء ثمّ اختفى. وهذا الحسّ الوجودي نفسه الذي سيجعله يرثي نفسه ويبكي حياته القصيرة بعمر السّنوات، الكبيرة بعمق التّجربة. كما ستظلّل حياته رنّة حزن عميق، وهو حزن وجودي ناجم عن التّسليم بأن للحياة نهاية؛ هذا التّناقض الوجودي بين الموت والحياة يتجلّى عبر خطاب يبدو في ظاهره كأنّه عدمي، ولا شيئ أبعد من ذلك.

أنظر إلى قوله في قصيدة (لا تقوم الشّعوب إلاّ على ماضٍ):

شاعرٌ أنتَ غيرَ أنّ الليالي خالياتٌ لم تأتنا بجديدِ

فإذا ما ذكرْتَ ماضيكَ فاذكُرْناكلانا ذو طارفٍ وتليدِ

رُبَّ ماضٍ من الهوى بعَثتْهُ ذكرياتُ الهديل والتّغريدِ

كُلُّ شيءٍٍ إلى البلى غيرُ ذكرى صورةٍ من صبابةٍ وعهودِ

الطّبيعة في شعر الخليل

الطّبيعة في صاي الجزيرة

عاش الخليل طفولته في جزيرة صاي، وهي جزيرة فريدة في أمرها، فقد جمعت بين النّيل والخضرة من جانب، ثمّ الجبل والصّحراء من الجانب الآخر. فهي كجزيرة يحيط بها الماء من كلّ جانب، كما يتوسّطها جبل عدو الشّهير؛ وتحيط بها الخضرة في أطرافها وضفافها، بينما منطقتها الوسطى حول الجبل قاحلة يغطيها الحصى. إلاّ أنّ أكثر ما يميّز صاي، ممّا كان له أكبر الأثر في شعر الخليل، شيئان هما النّيل الذي يحيط بها، ثمّ كثبان الرّمال التي ترتفع كالجبال في غربها والتي تراكمت عبر السّنين. هذه هي حدود الصّحراء الكبرى والتي يحدّها النّيل بمحازاة جزيرة صاي من غربها. وسوف تتلازم إحاطة النّيل مع خضرة صاي وارتباط ذلك مع كثبان الرّمال في شعر الخليل ـ كما سيرد أدناه. لكن ما يجدر ذكره في هذا الشّأن، أنّ صاي بطبيعتها المتناقضة قد جمعت أهمّ العوامل التي شكّلت شخصيّة الخليل، فقد تصالح النّيل والخضرة مع الصّحراء والجبل والنّجوم والكواكب. فيما بعد سيتجلّى هذا التّصالح والانسجام في العديد من الأخيلة الشّعريّة، وذلك عندما يجمع بين أشياء تبدو وكأنّها نقائض، موظّفاً أدوات البلاغة العربيّة من جناس وطباق ومجاز إلخ.

أُنظر إلى هذه المصالحة في قوله:

أنت كالبدر في عُلاك أنت كالرّوض في حُلاك

ويبلغ شعر الطّبيعة قمّته عند الخليل في أغنية (في الضّواحي وطرف المداين ـ علي المك: 125-127) وفيها يطلب الشّاعر من نداماه في إبداعيّة نادرة وذلك بسبب أسلوبها المباشر أن يقوموا بالرّحلة التّالية:

في الضّواحي وطرف المداين يللاّ ننظر شفق الصّباح

ثمّ يهيب بهم أن يتملّوا في جمال الطّبيعة، منبّهاً إيّاهم لما في الصّورة من مهابة وروعة.

التّصالح مع الطّبيعة في شعر الخليل

تكشف أغنية (فلق الصّباح) الرّائعة كلماتٍ ولحناً عن تصالح وجودي بين عناصر الطّبيعة المتناقضة، وهو تصالح في ظنّنا لا يقدر عليه إلاّ مبدع فنّان؛ فقد تصالح الليل مع الصّباح، كما تصالح البدر مع النّجوم، كما تصالحت المدينة مع الرّيف، ثمّ تصالحت رمال الصّحراء مع خضرة الوادي:

شوف صباح الوادي وجمالُو شوف خضأُورو وصيدُو ورمالُو

شوف نسيم الليل صاحي مالُو شوف يمينُو وعاين شمالُو

شوف فريع الشّاو مين أمالُو البدر خجلان من كمالُو

والصّباح لاح بَهَل الوشاح

يا الطّبيعة الواديك ساكن ما في مثلك قط في الأماكن

يا جمال النّال في ثراكن يا حلاة الْبِرْعَنْ أراكِن

في قَفاهِن تور قَرْنُو ماكن لا غِشَنْ لا شافنْ مساكن

في الخُزام والشّيح والبَراح

يا ام لسـاناً لسّـع مُعـجّنْ كلمة كلمة وحروفو ضجّنْ

ديل خدودِك غير داعي وَجّنْ ديل عيونِك من نظرة سَجّنْ

ديل دموعِك من نظـرة ثَجّنْ ده دلال إيه؟ ده دلال معَجّنْ

محّـن الأُمّـات يا رداح

مال نسيم الليـل بـي برودِك نامت الأزهار فوق خدودِك

غـرّد العصفـور فَوْقَ عودِك النّفوس ما تّعـدّت حـدودِك

ما عرفنا عـدوك من ودودِك بسْ أنا المقسوم لَيْ صدودِك

يا حياتي وأملي الرّاح

فشعر الخليل يكشف عن تواؤم وانسجام كبير في مفردات أجناسه الإبداعيّة، مثله في ذلك كمثل الفنّانين الانطباعيّين. فهو لا ينكفئ على جنسٍ واحد من أجناس إبداعه التي استعرضناها أعلاه، إذ قد يمازج بين هذا وهذا. فمثلاً في قصيدة (طويل يا ليل) نتلمّس أسلوبه الانطباعي في تصوير الطّبيعة مقروناً بحسّه الكوزمولوجي العالي:

أصّنقـع ليـلي كلّو الغيـم أحسبو جزاير

والليـل بي نجومه نخل غزير شال ناير

أو قوله في قصيدة (مقرن النّيلين):

الليل برد والنّوم خزاز

وانا وانتَ والأنجم عُزاز

والقمرة فوق طاولة قزاز

بليـاردو متّرحّل هَزاز

ويكشف شعر الخليل عن تصالح تامّ مع الطّبيعة، بدوره يكشف عن تصالح آخر يتعلّق بشخصيّة الخليل، فقد آلف بين ذات المبدع المضطربة التي لا تستقرّ على حال في سعيها لاستكناه الوجود وإعادة إنتاجه عملاً إبداعيّاً به يحقّق الإنسان ربوبيّته، وبين تسليم صوفيٍّ بمقتضى الحال جعل الخليل رجلاً ملتزماً بمعايير الوقت الاجتماعيّة من قيم وأخلاق، فخرج من كلّ ذلك بذاتٍ مطمئنّة، ونفسٍ مستقرّة، عاشت أربعة عقودٍ، كما لو كان كلّ يومٍ فيها يساوي خمسين ألف سنةٍ، ثمّ رحلت إلى ربّها راضية مرضيّة.

الخليل بين الخرطوم وأمدرمان

مسكن الجسد وسكن الرّوح

على شهرته، تحيط بخليل فرح العديد من المعلومات غير التّاريخيّة التي ينحو الكثير من نقاد شعره وأدبه إلى ترويجها في محاولاتهم المستمرّة والمشروعة لإعادة إنتاج الخليل في صورة تلائم أوضاع حاليّة بعينها، ربّما لا علاقة لها بما عاشه خليل فرح. وليس هذا خطأً في حدّ ذاته، فتلك سنّة النّاس في حال تعاطيهم للفنّ في أيّ جنسٍ من أجناسه، خاصّةً تلك التي تميل إليها أفئدتهم. من ذلك مثلاً ما قاله صديقنا أبو قرون عبدالله أبو قرون [في بدري كاشف، 2000: ص 5]: "سكن الخليل بأمدرمان/ بيت المال وصار قلبها قلبه يحسّ ألمها ويرجو أملها وصار لسانها يتحدّث بها وعنها فكان قلباً جسوراً ولساناً صادقاً وتجلّت عبقريّة الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". فهذا قول غير صحيح، ذلك لأنّ الخليل، بخلاف السّنة الأولى التي قضاها بمنزل ابن عمّه كاشف خيري بأمدرمان عندما قدم للدراسة بكليّة غوردون، عاش حياته إلى أن وافته المنيّة بالخرطوم.

الخليل خرطومي

دعونا ننظر إلى قول جهبوذ أغنية الحقيبة الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم (عليه رحمة الله): "كان فنّ الغناء في تلك الأيّام ... يتزعّمه الفنّان محمّد أحمد سرور وفرقته الفنيّة (الشّيّالين) وقد ابتُكر هذا اللون من الغناء بأمدرمان. ومن روّاد هذه المدرسة الأمين برهان وعمر البنّا وعبدالله الماحي وكرومة وعلي الشّايقي وغيرهم. أمّا مدرسة خليل فرح الخرطوميّة فقد استغنت عن الشّيّالين وحلّت مكانهم الآلة الموسيقيّة ..." [بدري كاشف، 2000: 24]. وقد ذكر لي فرح خليل فرح (عليه رحمة الله) بأنّ منزلهم كان بالخرطوم في مواجهة نادي العمال في المنطقة التي بها الآن فندقا شهرزاد والخرطوم بلازا. كما كان لا يزال يتذكّر رجل الأعمال والبر والإحسان أحمد هاشم بيك البغدادي بذقنه البيضاء، خاصّةً عندما كان يجلس أمام منزله علي كرسي القماش.

وقد أشرنا إلى هذا الحيّ العامر بالنّوبيّين وغيرهم من السّودانيّين الذين عاشوا جنباً إلى جنب مع باقي المجموعات الإثنيّة الأوروبيّة مثل الأرمن، الطّليان، الإغريق، ثمّ الأقباط، وغيرهم. وهو نفس الحيّ الذي كانت تعيش فيه أسرة يعقوب عبدالله طه [راجع صاي والكلاكلة أعلاه في الفصل الرّابع). وذكر لي حسن أحمد هاشم أنّه في الفترة ما بين 1926م ـ 1929م كان يعيش مع الخليل في منزله بجوار نادي العمال حالياً، بينما كان محمود أخوه يعيش مع آل يعقوب بجوار صينيّة القندول حالياً (في رواية أخرى أنّه كان يسكن مع أخيه عند آل يعقوب ويداوم على زيارة الخليل ماكثاً أغلب وقته بمنزله)، وذلك عندما كانا يدرسان بمدرسة العُرفاء بالخرطوم. وهذه هي المدرسة الأميريّة التي أنشأها عبد اللطيف باشا حاكم عام السّودان (1850م-1851م)، والتي درّس فيها رفاعة رافع الطّهطاوي "... الذي حضر من مصر ومعه بيّومي بيك وكثير من الكتبة والمعلّمين" [نعوم شقير، 1967: 524]. تحوّلت المدرسة فيما بعد إلى مدرسة الخرطوم الأوّليّة، فالإبتدائيّة، وكانت تعمل وهي في وسط الخرطوم إلى زمنٍ قريب من منتصف ثمانينات القرن العشرين (أي بعد أكثر من 150 عاماً منذ إنشائها)، فهدموها ليبنوا في مكانها برج بنك البركة الحالي، كأنْ لم يجدوا غير هذا المكان ـ ولن تجد كصفوة مستعربي السّودان أضيع لتراث سودانهم، فانظر وتأمّل.

إذن، هذا ما كان من أمر سُكنى الخليل بالخرطوم. ومع كلّ هذا نجد أناساً كثيرين يروّجون لسكنى الخليل بأمدرمان؛ من هؤلاء مثلاً بدري كاشف نفسه عندما حكي عن عمّه الفنّان خليل فرح فيقول: "أحبّ خليل فرح وطنه أمدرمان حباً شديداً وأدخلها في كثير من أشعاره ..." [بدري كاشف، 2000: 8]. ومثل هذا القول لا يحقّ لأحد أن يرفضه إذا ما قيل باعتبار رمزيّة أمدرمان، ولكن قد يرفضه الكثيرون إذا ما طُرح على أنّه وقائعي وتاريخي.

جزيرة صاي في شعر الخليل

تحرير الخليل من شِباك النّمطيّة

هناك معلومات نمطيّة شاعت عن الخليل جرّاء القراءة الأحاديّة لشعر يستند في إحدى قوئم إبداعه على الرّمزيّة والإشارة ممّا يستوجب التّأويل وقراءة ما بين السّطور، خاصّةً وأنّه كما أشرنا إلى ذلك يجري في مستويين خاص وعام. من ذلك مثلاً اعتقاد الكثيرين أنّ الخليل لم يكن ذا ارتباط وثيق بقريته صاي. ونستشهد في هذا أيضاً بما قاله أبو قرون [المرجع السّابق]: "... فتحيّة لك يا أيها المحسي ابن صاي الذي صرت الابن البارّ لامدرمان وقد جاء اسم موطنك الصّغير في شعرك مرّتين أو ثلاث مرّات، أمّا أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ...". بخصوص قوله عن الخليل "... يا أيها المحسي ..." كنّا تعرّضنا لمسألة انتساب السّكّوت للمحس حال هجرتهم إلى أواسط السّودان في الفصل الثّالث، فليُراجع في محلّه. لكن ما يهمّنا هنا مسألة ارتباط الخليل بالمنطقة النّوبيّة عامّةً وبصاي خاصّةً، وهو ما سنتعرّض له أدناه. أمّا قوله :" ... أمّا أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ..."، فالرّدّ عليه أنّ أمدرمان لم تكن غير رمزٍ للوطن، فهي "... أمدرمان التي صارت للوطن محلّ القلب والعقل والوجدان ..." [علي المك، 1977: 25]؛ هذا فضلاً عن كونها العاصمة الوطنيّة آنذاك. وهذا لا يغيّب أمدرمان المدينة، بل يعزّز أهليتها. وبذات هذا المدخل الرّمزي سنتناول مكانة صاي في شعر الخليل. وسيستند منهجنا في هذا على بيّنات من شعره وإفادات تحصّلنا عليها بخصوص بعض الدّلالات والاستخدامات اللغويّة في شعره، بها نستخلص قراءة جديدة لبعض مناحي شعره فيما يخصّ صاي، ومن ثمّ سنعمّم هذه القراءة على مواضع بعينها نرى أنّها تقبل تأويلاتنا.

بدءاً تجدر الإشارة إلى أنّ الخليل كان يستصحب في وعيه تاريخ أمّته من عصور ما قبل التّاريخ إلى كوش مروراً بنبتة ومروي، فالممالك النّوبيّة المسيحيّة، فالفونج إلى لحظته الحاضرة. وهذا تاريخ لم تتضح معالمه بالصّورة التي نعهدها الآن إلاّ بعد وفاة الخليل بعقود. أنظر إلى قوله:

لا تقوم الشّعوبُ إلاّ على ماضٍ تغنّت بذكره في النّشيدِ

ثمّ فلنتأمّل قوله:

فنحن عصابةٌ للمجد نبني وما لقديمنا أبداً قديمُ

وكم أثرٍ لنا عفت الليالي وشابت وهو مجلُوٌّ وسيمُ

فسلْ سوبا وسل سنّارَ عنّا ووادي النّخل تُنْبِئُك الرّسومُ

فلو أنّ الخلودَ يُنال قسْراً لدام لنا ولكن لا يدومُ

أمّا قوله (ووادي النّخل تُنْبِئُك الرّسومُ) فإشارة واضحة للمنطقة الشّماليّة عامّةً والنّوبيّة بوجه خاص، وهذا من قبيل المشابهة بين وادي الملوك بالكرنك بالنّوبة العليا بمصر حيث مدفن أغلب فراعنة مصر والنّوبة. وفي الواقع مثل هذه الإشارات تكشف عن أحد أهمّ الأساليب الرّمزيّة عند الخليل، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالمنطقة النّوبيّة. فهو هنا دائماً ميّال لتوظيف الإشارة والرّمز، الأمر الذي يستدعي إعمالًا عميقاً للتأويل في سبيل استكناه الدّلالات التي تتداعي ويقبلها الخطاب الإبداعي للشاعر في البعد الخاصّ والشّخصي الذي نوّهنا له.

شيئ آخر نشير إليه بخصوص شخصيّة الخليل ألا وهو تعلّقه بأهله وعشيرته، خاصّةً إخوته. ربّما يرى البعض أنّ هذا ممّا لا يحتاج إلى تذكير، فغالبيّة النّاس متعلقون بذوي قرباهم. هذا صحيح، إلاّ أنّ ما يميّز الخليل أنّه لم يكن يذكر أهله إلاّ في سياق تاريخي/اجتماعي حافل بالمجد والسّؤدد والفخار. من ذلك مثلاً القصيدة التي قالها في مدح أخيه الأكبر "بدري" وكان أثيراً لديه لدرجة أنّ الخليل تزوّج بأرملته دون أن يكون بدري قد أنجب منها. فقد جرت العادة أن يتزوّج الأخ بأرملة شقيقه رعاية لأيتامه وذلك حتّى لا يُساموا سوء العذاب على يد شخص غريب قد يتزوّج بأمّهم. ولكن الخليل، ربّما بدافع التّأسّي والسّير على درب عزيزه الفقيد شقيقه بدري، يختار أن يتزوّج بأرملته، فينجب منها ابنه فرح وابنته عائشة. بهذا كأنّما بدري هو الذي أنجب. يقول في مدح أخيه بدر:

بقيت للخاصمك يا بدري سُمّاً ناقـع

وخلّيتُـم يكتكتـوا كالجداد الفاقـع

خريف الرّازّة شايلة مطر تقيل وصواقع

البتّـقِدُّو أبداً ما بتَسِـدُّو مراقـع

جانباً عن فحولة اللغة وفخامة الأسلوب، لا نرى في هذا المدح ما يمكن أن يميّز الخليل فيما نحن بشأنه. ولكنه بعد هذا يشرع في تدبيج المديح لا لبدري بل لأهله وعشيرته، فيقول:

أبواتك ملوك من أرقو للسكّوت

وكان دمّ الرّجال ليهم شراب ومقوت

غرب صيصاب جيوشُم زلّت أب جبروت

كتلوا الجرْدة تسعة وفيها سوّوا الفوت

ويشير الخليل هنا إلى واقعة بعينها، جرت غرب جزيرة صاي من جانب صيصاب، وأبلى فيها أخوه بدري أحسن البلاء. وكنا قد رجّحنا أن تكون تلك الواقعة ممّا جرى إبّان حملة ودّ النّجومي والمصادمات التي جرت بين جيش الوردياب بقيادة عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي وعبد التّام محمّد علي وردي. وهذه من المرّات ـ على قلّتها ـ التي يأتي فيها ذكر لصيصاب أو لصاي في شعر الخليل بطريقة مباشرة. وقد صدق في ذلك أبو قرون عندما قال بأنّ الخليل لم يذكر اسم قريته إلاّ مرّات قلائل، مثل صدقه في بعض ما قال [بدري كاشف، 2000: 28]: "ولد الخليل في منطقة المحس شمال السّودان ولعلّ أوّل ما انسلّ إلى أذنيه المرهفتين وتغلغل إلى دواخله كان صوت أذان الفجر من صوت نوبي ندي، وأنين السّواقي ينساب حنيناً وشدواً، ولعلّها أصوات بواخر كتشنر. كلّ هذه الأصوات تسلّلت إلى ذلك الوجدان فغمرته إيماناً ورقّةً ووطنيّة وهكذا نشأ الصّبي الفذ". دون التّعرّض لما يحفل به هذا القول من أغاليط مثل مولد الخليل بمنطقة المحس، والتّقعّر الوارد في مسألة أصوات الأذان، إذ إنّ الصّورة بها إسقاط لما عليه واقع الحال الآن من تجاوب أصوات الأذان من كلّ جانب لكثرة المساجد في زمننا الحاضر، وتجاوزاً لمسألة أبواق بواخر كتشنر بكل زعيقها وإزعاجها ناهيك عمّا صاحبها من خوف ووجل والتي ربّما أوردها صديقنا ذو القرون عن نزعةٍ عسكريّة جامحة ـ بعيداً عن كلّ هذا يبقى اتّفاقنا معه في قوّة أثر نشأته الأولى بصاي.

ولكن فلنتمعّن في قول أحد أبناء صاي، ألا وهو إبراهيم محمّد إبراهيم بلال (حفيد بلال صاحب الجنّة الأولى وابن بلال صاحب الجنّة الثّانية كما سيرد أدناه): "... ببساطة فإنّ للانتماء آفاقاً في التّركيبة النّفسيّة والقيم التي تحكم سلوك الفرد. انتماء الخليل وارتباطه بجذوره النّوبيّة واضح في جملة القيم التي جاء بها كما في بعض إشاراته الواردة في شعره. ... وأزعم أنّ خليل فرح تتضح سيرته بهذا النّمط من القيم وقد عبّر عنها في مواقفه ... صحيح أنّ الخليل لم يتحصّل الباحثون له عن شعر مسجّل باللغة النّوبيّة، ولكنّ المقام هنا هو أثر المنبت النّوبي للخليل وتجلياته في شعره" [ورقة مخطوطة عن الخليل؛ أنظر الاقتباس في: بدري كاشف، 2000: 26].

صاي: الاسم والدّلالة في شعر الخليل

ما نحن بصدده هنا هو استجلاء فرضيّة أنّ قرية الخليل (صاي، أو صيصاب معاً) كانت منبع الصّور الجماليّة ـ الوجدانيّة منها والمتعلّقة بالطّبيعة؛ وهو ما نؤسس له ببيّنة الارتباط الرّوحي والوجداني لدى الخليل بأهله وعشيرته، وهو ارتباط لا يقاربه الخليل إلاّ في السّياق التّاريخي/الاجتماعي للمجموعة النّوبيّة ككلّ. ففي نفس القصيدة يواصل مفتخراً بأهله:

إنِحْنَ المحس يَحْسِن وِليدنا حتوفُو

متّحمل جبال الواقعة ساندة كتوفُو

نارو بِتوقد الغيرة وتناجي ضيوفُو

فرّة سِنُّو في دارو بتحاكي سيوفُو

ممّا يؤكّد هذا أنّ الخليل لا يتخلّى عن السّياق التّاريخي/الاجتماعي حتّى عندما يتناول أحداً من المنطقة النّوبيّة ممّن يدخلون في زمرة الأهل بالفهم العام. من ذلك مثلاً قصيدته التي رثى فيها صديقه محمّد سرّ الختم، وهو أحد أبطال ثورة 1924م، وكان من حلفا القديمة، حيث كان أسرتُه تسكن في حنطقة دغيم بينما هي أصلاً من دبيرة، وقد مات شابّاً بمصر وهو منفي بها. ولنتوقّف قليلاً حول سيرة هذا البطل الشّاب. هو محمّد سرّ الختم سليمان الصّايغ، وهي أسرة مشهورة من حلفا القديمة، قرية دبيرة. وقد عُرفت الأسرة بمهنة الصّياغة والمجوهرات من زمنٍ قديم، ربّما يعود لعهود قديمة منذ زمن الحضارات النّوبيّة المسيحيّة وما قبلها، بزعم بعض أفراد الأسرة. ولكنّا سمعنا بجانب هذا من بعض مصادر بالأسرة أنّ أسرة الصّايغ كانت في الأصل تعمل بالحدادة، ثمّ قبل ما ينيف على الثّلاثمائة عام وقعت أثناء حفرها لبئر بأرضٍ لها على كنوز ومصوغات أثريّة، فتحوّلوا عندها إلى مهنة الصّياغة كستار للتّصرّف فيها، ثمّ شيئاً فشيئاً، تعلّموا الصّياغة حتّى أصبحت لهم مهنة بدلاً عن الحدادة. كان محمّد سرّ الختم أحد أبطال ثورة 1924م [الإفادات الشّفاهيّة لثوّار 1924، مرجع سابق؛ سليمان كشّة، مرجع سابق؛ "قائمة الفخار والشّرف: سجناء اللواء الأبيض وأين هم الآن"، جريدة الرّأي العام، 31/3/1956م]، وقد تخرّج في كلّيّة غردون وعمل مهندساً بالرّي. وقد ربطته علاقة صداقة قويّة بالخليل، كما ربطته علاقة حميمة باللواء محمّد نجيب. وتذهب أرسته إلى أنّ علاقته بالخليل تعود إلى حلفا، أي قبل أن يلتقيا في أمدرمان. فهل يمكن أن تكون تلك العلاقة قد بدأت عندما كان الخليل بحلفا، إذ تردّد لفترة قصيرة في خلوة الشّيخ محمّد نور، حسبما سيرد أدناه؟ هذا كلّه جائز، ويحتاج إلى مزيد من التّحقّق والتّدقيق.

حوكم وسُجن محمّد سرّ الختم ثلاث مرّات بثلاث مُدد، ثمّ جاءت مشاركتُه للمرّة الرّابعة في اضطرابات سجن كوبر، حيث نُفي إلى مصر، ومن ثمّ رحلت معه أسرتُه الصّغيرة (زوجته وابنتُه الوحيدة "شريفة"). هناك عمل في بناء خزّان أسوان، وفيها قدّم نبوءته بغرق حلفا. وقد مات بمصر شابّاً [أنظر مقابلة الأسرة في جريدة الخرطوم، 26/8/2006]. وفي سبب وتاريخ وفاته تختلف الأسرة عمّا هو شائع، إذ تزعم أسرتُه أنّه مات مقتولاً في السّجن بمصر عندما تمّ الاعتداء عليه بجردل. وهذه واقعة إن صحّت تحتاج منّا إلى تحقيق. فقد أوردت السّلطات المصريّة أنّ سبب وفاة البطل علي عبد اللطيف بمصر نجمت عن اعتداء بجردل قام به أحد رفاقه السّابقين ممّن عّرفوا بالعنف الجسدي [أنظر تفصيل ذلك في: يوشيكو كوريتا، 1997]. فهل يمكن أن تكون هذه مصادفة؟ ولكن بينما تنفي أسرة علي عبد اللطيف أن تكون تلك الواقعة سبباً في وفته، تُصرّ أسرة محمّد سرّ الختم في أنّها السّبب في مقتله. من جانب آخر تزعم أسرة الأخير أنّ وفاته كانت في عام 1937م، وهذا في رأينا خطأ بيّن لا يجوز. فالخليل توفّي في الثّلاثين من يونيو من عام 1932م، وبالتّالي كان رثاؤه لمحمّد سرّ الختم قبل ذلك بالتّأكيد. عليه، من المؤكّد أنّ وفاة محمّد سرّ الختم كانت قبل عام يونيو 1932م، ربّما بشهر أو بشهور أو بأعوام قليلة. فيما بعد، عندما استلم محمّد نجيب خكم مصر قام بتكريم البطل محمّد سرّ الختم، ونقل رفاته إلى صحن المقبرة التي دُفن فيها أبو الأبطال علي عبد اللطيف [أنظر مقابلة الأسرة في جريدة الخرطوم، مرجع سبق ذكره].

ونعود إلى الخليل، ونٌشير إلى أنّه يخاطب محمّد سرّ الختم في مثيّته باسمه الذي عرفه به أهله وخاصّة أصدقائه "سرّي":

آهِ ... آهِ وا حســرتا يـا سـرّي

يا اْخوي، يا رفيقي، يا صديقي وسرّي

أحداثِك جِسامْ يا دنيـا ما بِتْسُـرّي

نادر نلقى فيك اْلْلي همومـنا بِسَرّي

ثمّ يتعرّض الخليل لأثر وعمق الفقد الذي رُزئ به بموت صديقه، ولكن في السّياق التّاريخي/الاجتماعي النّوبي:

صيصاب والدّغيم، دار المحس لي قرّي

لابسة عليك سـواد يا مفخرتنا الحُرِّ

ولنا أن نلاحظ أنّه في هذا السّياق التّاريخي/الاجتماعي النّوبي لا يني يذكر ويشير إلى قريته صيصاب واضعاً إيّاها على قدم المساواة مع المناطق النّوبيّة الكبرى مثل المحس، أرقو والسّكوت ودغيم، ناهيك عن محس أواسط السّودان الذين يشير إليهم باسم عاصمة إقليمهم "قرّي" إبّان عهد الفونج.

ثمّ فلنتأمّل قوله:

أبـتي أذّن الأذانُ وراحا ** ودنا الفجرُ منك فانْعِمْ صباحا

أبتي هبّتِ الطّيورُ وصاح الدّيكُ واستقبل النّخيلُ الرّياحا

يا ابنتي قد تنفّس اليمُّ والحقلُُ وصاحت بنا السّواقي صياحا

أوقدي يا نفيسةُ النّارَ للشّايِ وأَحْيي ـ فديتُكِ ـ المصباحا

واحلبي الشّاةَ واملئي معكِ الإبريقَ واستعجلي الأقداحا

وقد صدق ابنه فرح خليل فرح [1999: 153[ عندما قال: "هنا يصف الرّيف، ولعلّه تذكّر البلد وأهلها، وقد تنفّس خليل فرح في هذه الأبيات القرويّة الخالصة حتّى اختار اسم (نفيسة) الذي يصبح وقعه جميلاً مع السّواقي والتّرابلة ...". فالخليل بالفعل يستذكر هنا حياة القرية، بل ويستعيد حيثيّات أحد أيّامها. ثمّ فلنتأمّل قوله:

يا صايـد الأنام المولى عاطينـا

طبيـعة غنيّـة فـي بـواطينـا

ما أخصب جزايرنا وشـواطينـا

وخيرات الجزيرة الدّافقة من طينا

وبقدر ما صدق فرح خليل في إحالة الأبيات أعلاه للقرية، وهي هنا قطعاً صاي، جانبه الصّواب [1999: 187] عندما أحال الأبيات التّالية إلى غابة السّنط بالخرطوم:

أيّاماً مضت ساعةْ ندخل الغابه

في ضلّ الأراك نرعى البهم نشّابى

لي وقت العِصَِير نتفاوت الجلاّبه

نغشى الحلّة سامعين لي نبيح كلاّبه

إذ كيف فات عليه قول الخليل (نرعى البهم)؟ فتُرى هل كان هذا من ضمن نشاطات الخليل اليوميّة وهو بالخرطوم، أم كان ذلك بالقرية، وفي سنّ مبكّرة؟ وهل القريةُ هنا غير صاي ترجيحاً؟ تُرى ما هي المصادر الشّعوريّة لهذه الأخيلة إن لم تكن صاي؟ فكأنّنا بالخليل هنا يسترجع في ذاكرته يوماً من أيّام صباه أو شبابه الباكر بصاي. وهل الأقداح هنا غير أقداح الشّاي؟ ثمّ فلننظر كيف يُعاملها الخليل كما لو كانت أقداحاً للرّاح ـ والكلام فيه كلام، فتأمّل! ثمّ فلننظر إلى وصفه للنّيل ولشواطئه وجزره؛ فكأنّه هنا يصف جزيرة صاي، وهي الجزيرة التي عاش فيها وتشرّب منها جمال الطّبيعة وهو إذّاك غضّ الإهاب.

هذا ما كان من ذكر الخليل لاسم قريته الصّغيرة "صيصاب"، وهو ذكرٌ وإن جاء في بعضه مباشراً إلاّ أنّه يشتمل على رمزيّة الخليل التي قلّما تفارقه. إنّها رمز للأصول والمنبت وطيب المحتد. ولا أرى في هذا ما يدعو إلى الدّهشة والاستغراب. فذكر الخليل لقريته صاي ينبغي أن يُنظر إليه من باب الشّيء العادي، وعدم ذكره لها هو الذي ينبغي أن يُثير الاستغراب. فالخليل عاش في صاي أجمل أيّامه، وهل أجمل من أن يغنّي العصفور على فَنَنٍ لا تقيّده القيود؟ فمثلاً قريبه الشّاعر محمّد علي الأمّي ذكر صاي في شعره وذلك في رثائه لأمّه [رواية ابن أخته محمّد يعقوب وابن الشّاعر علي محمّد علي]:

بكاكِ الجميع البابو والغلمان

من صاي لي عبري لامدرمان

ويرد هذا البيت في قصيدة (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) من ديوان الأمّي [بدون تاريخ، ط 3: 82] بقراءة مختلفة:

يا فقـد الجميـع البابو والغلمان

من السّكّوت إلى عبري إلى أمدرمان

وهذا جائز، فقد عُرف عن محمّد علي الأمّي مداومته على مراجعة شعره حتّى بعد أن يُطبع. ونلاحظ ضعف السّبك في شطرة (من السّكّوت إلى عبري إلى أمدرمان)؛ فجانباً عن الخلل الذي يُحدثه استخدام (إلى)، نلفت نظر القارئ إلى أنّ عبري آنذاك لم تكن أكثر من قرية كبيرة تقع داخل إقليم السّكّوت مثلها في ذلك كمثل صاي. لهذا لا يجوز أن نقول من (السّكّوت إلى عبري)، فهو كأن نقول (من السّودان إلى الخرطوم). لهذا نرى أنّ شطرة (من صاي لي عبري لامدرمان) تبدو أكثر سبكاً وتماسكاً وأكثر شاعريّةً. وترجيحنا للصّيغة التي يرد فيها ذكر صاي سببه أنّها أُثرت عن أسرة الأمّي؛ إذ من المستبعد أن تكون مختلقة، إذ هم أبعد صلةً منه لصاي. والمهمّ في المسألة أنّ صاي بقيت حيّة في ذائقة وواعية الأمّي وهو الذي لم يرَها في حياته. فكيف لا يكون لها نفس الوقع عند الخليل وهو الذي عاش فيها طفولته وشطراً من شبابه الأوّل؟

ثمّ فلننظر إلى ما قاله الشّاعر جيلي عبد الرّحمن عن حنينه الجارف إلى صاي وإلى مرتع الطّفولة والصّبا:

أنـا ظمآنُ يـا قـلبى إلى صـايَ إلى عـبرى

إلى عـنْزاتيَ الصُّغرى إلـى لـيـلاتيَ الـغُـرِّ

أقـضِّـيها بـلا قـيدٍ مـع الأطفـالِ والـبدر

سـذاجـاتٌ وأخـيلـةٌ تـظـلِّلُها يـدُ الـطُّـهر

نـشـاوى مثـلَ أسماكٍ تعـومُ بـرائـقِ النّـهر

حنـيـنى جارفٌ عاتٍ بـرغم المسـلكِ الوّعْـرِ

تراثى كـيـف أنـساه وقـد أودعـتُـه عـبرى

هذا مع أنّ جيلي، مثلُه في ذلك كمثل الخليل، لم يقضِ بصاي إلاّ سنوات طفولته الباكرة، حيث رحل مع أسرته إلى مصر. ويكمن الاختلاف بينهما في أنّ الخليل ظلّ بالسّودان وداوم على زيارة جزيرة صاي، بينما جيلي عبد الرّحمن لم تكتحل عيناه برؤية صاي إلى أن وافته المنيّة بالقاهرة.

جنّة بلال وملعب الشّباب فوق التّلال

هناك أوجه أخرى أكثر عمقاً ورمزيّة يشير فيها الخليل إلى صيصاب (وصاي) في شعره. من ذلك قوله في أشهر أغانيه (عزّة في هواك):

عزّة ما نسيت جنّة بلال وملعب الشّباب تحت الظّلال

ونحن كالزّّهور فوق التّلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال

تُرى ما هي "جنّة بلال" هذه، وأي ملعب للشباب هذا الذي تحت الظّلال؟ ثمّ ماذا يقصد بقوله (كالزّهور فوق التّلال)، وكيف كانوا يشبّون للنجوم تطلّعاً بينما يتزيّن الشّاعر بالهلال؟ هذه الأبيات تبيّن بوضوح ما نعنيه بالبعد الخاصّ والبعد العام في شعر الخليل. فعلى كثرة معجبي شعره، وباستثناء معميّة (جنّة بلال) التي أثارت بعض التّساؤلات، لم يؤثر عن أحد إحساسه بحاجة ماسّة إلى طرح مثل هذه الأسئلة مجتمعة. فكيفما كانت (جنّة بلال) التي يعنيها الخليل، يبدو المعنى واضحاً لا يحتاج إلى شرح. وهذا صحيح إذا ما أُخذت الأبيات في بعدها العام؛ أمّا إذا أُخذت في بعدها الخاصّ، فإنّنا نحتاج إلى إيراد قصّة بشأن طقس احتفالي مرتبط بالزّواج قد اندثر في صيصاب، وهو ما يعنيه الخليل. وتدليلاً على أهمّيّة البعد الخاصّ في استكناه الدّلالات البعيدة التي يحتملها شعر الخليل، نورد اللبس الذي أشار إليه الشّاعر مبارك المغربي في كتابه روّاد شعراء الأغنية السّودانيّة [2002: 96 ـ 97]، فقد أورد الشّطرة التّالية على أنّها (نشابّي للنجوم ونضافر الهلال)، أي على وزن (نُفاعِل)، قائلاً: "فقد سمعت بعض الفنّانين يغنّونها: (نشابّي للنجوم وانا ضافر الهلال) واعتقد أنّ الخليل غنّاها كما أوردناها". وفي رأينا أنّ المغربي جانبه الصّواب، وإن بدا له حقّاً أنّ الخليل قد غنّاها (ونضافر الهلال)، فربّما اختفت أصوات اللين في (وانا) جرّاء الأداء اللحني للأغنية. هذا اللبس سينجلي أمره تماماً عندما نتعرّض أدناه للدلالات الخاصّة في شعر الخليل.

ترتفع غرب صيصاب كثبان الرّمال كالجبال منهالةً على النّيل ومغطّية أغلب أشجار النّخيل إلاّ ما سمق منها فتغطّي أجذاعه. وجبال الرّمال هذه قديمة، فقد حكى عنها الرّحالة الذين زأُوروا المنطقة قبل أكثر من قرنين على أقلّ تقدير. فمثلاً بيركهاردت حكى عنها مع أنّه لم يتمكّن من دخول الجزيرة، إذ رآها من جهة ألبلي وعبري بالضّفة الشّرقيّة. لانهيالها على النّيل من الضّفة الغربيّة، وبسبب ارتفاع أشجار النّخيل داخل صيصاب، تبدو كثبان الرّمال للناظر من داخل الجزيرة وكأنّها تقع داخل حدود صيصاب. وكما هو الحال في شواهق المرتفعات، يظنّ النّاظر إليها من داخل صيصاب وكأنّها قريبة جدّاً.

هذه نفس كثبان الرّمال التي عناها جيلي عبد الرّحمن في قصيدته "أحنٌّ إليك يا عبري":

أحنُّ إليكِ يا عَبْـرِى حـنيناً ماج فى صدرى

وأذكر عهدَكِ البسّـامَ عهدَ الظلِّ فى عمـرى

تطوف بخاطرى الذكرى من الأعماق من غورى

وتبدو فى بهاتتـــها كطيـف خالـد يسرى

عليه غلالـةٌ سوداءُ ذابت فى رؤى الـفجر

طيوفٌ لستُ أنساها ورُبّ يعافُـها غيـرى

إلى أن يقول في القصيدة:

أنـا ظمآنُ يا عبـرى إلى الأمواهِ والطّير

إلى كثبانِـك الغرقـى هناك بحافّة النّهـر

يذهِّبُـها سنـا الشّمسِ بأكوامٍ مـن التِّبـر

ونخلٍ رامقِ النَّظَراتِ ملءَ السّفحِ والجسر

يطلُّ على رُبى النّيلِ ويحمل أطيب الثمر

على هذه الكثبان التي ترتفع كالجبال كان يجري ذلك الطّقس الاحتفالي الذي كان يقام كختام لاحتفالات الزّواج. منذ أزمان سحيقة وإلى وقت قريب كان يوقّت لليلة العرس في صاي ومجمل بلاد النّوبة باكتمال البدر (ليلة قمر 14) لما للبدر من دلالات مرتبطة بالخصوبة، فضلاً عن الإنارة المجانيّة التي يشعّها البدر بسخاء. بعد انقضاء تلك الليلة بشهر كامل (ولنلاحظ ارتباط الشّهر القمري بمفهوم الخصوبة) كان الشّباب من الجنسين في صيصاب يجتمعون على هذه الكثبان كختام لاحتفالات العرس، فيغنّون ويرقصون حتّى الصّبح، بينما أهلهم الكبار يراقبون كلّ ذلك وهم جلوس في باحة منازلهم بداخل الجزيرة بصيصاب، خاصّةً سوكري.

الذين عاشوا تلك اللحظات ممّن التّقيت بهم (ووالدي كان واحداً منهم) سلخوا العمر وهم على استعداد لبيع جزء منه لو أنّ ذلك كان سيعيد لهم فرحة ليلتهم تلك. وهذا ما يعنيه خليل فرح بقوله:

ونحن كالزّهور فوق التّلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال

بيد أنّ الخليل لم تُجْرَ له هذه الاحتفالات، ذلك لأنّه تزوّج بأرملة شقيقه بدري في حفل زواج صامت خيّمت عليه فاجعة فقد زين شباب العائلة وفارس حوبتها. فهل قال ذلك تمنّياً على الماضي، أم أنّه تماهي في أخيه بدري والذي فعلاً أُجريت له تلك الاحتفالات؟ في رأينا أنّه قال ذلك نُشداناً واستحضاراً وجدانيّاً لماضٍ طفولي لا يزال حيّاً ينبض بالصّور والأخيلة في مخيّلة الشّاعر؛ فالخليل في لحظات إبداعه كأنّما يريد أن يمسك بتلابيب الحاضر والماضي والمستقبل، ليكثّف وجوده في المطلق حيث يتحوّل الزّمان إلى لحظة لا تنقضي ولذّةٍ لا تنتهي، حيث لا بداية ولا نهاية، إذ يصبح الزّمن كله حاضراً سرمديّاً. وهذا ما نقصد بالبعد الوجودي الخاصّ في شعره.

ونشير إلى أنّ هذا الطّقس مارسه أهل صيصاب حتّى منتصف العقد الخامس من القرن العشرين، ثمّ شرع المتعلمون (خاصّةً المعلمون من أبناء بابا شيخ أحمد بقيادة محمود وحسن) على محاربته بوصفه مفسدة للشباب ولهو قد لا تحمد عقباه. بعد ذلك بخمسين عاماً (حوالي عام 1995م) سيتمّ منع إقامة حفلات الأعراس ليلاً بصاي ثمّ بكل السّكّوت بحجّة منع الرّزيلة والإباحيّة بين الشّباب، وسيقود تلك الحملة التّتريّة أحد المعلّمين الأفضال بالجزيرة، لكن بمساعدة السّلطات الرّسميّة في هذه المرّة (راجع ذلك في الفصل السّابع). ولعمري هذا حصاد الأسلمة والاستعراب، فتأمّل! ويحكي عبد الفتاح محمّد حسن في ذكرياته [2005] أنّهم في اتّحاد طلاب صيصاب قاموا في عام 1967م برحلة كهذه، دون أن يشير إلى أنّ ذلك كان تتبّعاً لهذا الطّقس: "ومن الذكريات غير الرّسميّة للاتّحاد ليلتان علي الرّمال قضاهما أعضاء الاتّحاد، وهما ليلتان نقيضتان لبعضهما؛ أمّا إحداهما فكانت علي رمال الغرب وبأحلام الغزلان. وأمّا الثّانية فعلي رمال الشّرق (ألبلي) علي هواجس الضّباع". ثمّ يستطرد في ذكر ليلة الغرب قائلاً: "ذلك أنّه في عام 1967م اتّفقنا علي عمل رحلة لقضاء ليلة علي رمال غرب صيصاب فحملنا كلّ ما استطعنا من مأكولات ومشروبات لطهي وتحضير العشاء في الغرب وطبعاً فيها ذبيحة وانطلقنا بمركب محمّد علي غنيم الذي اتّفقنا معه أن نأخذ المركب بعد غروب الشّمس إلي الغرب ونعود إلي الشّرق قبل بزوغ شمس اليوم التّالي، وكانت ليلة مقمرة وكنا علي أعلي تلّ رمل قبالة سكري وكانت ليلة ما تركنا من شئ نترنّم به إلاّ وطرقناه، وما تركنا من رقص إلاّ ومارسناه، وما تركنا من أكل إلاّ والتهمناه؛ ذلك الأكل الذي تمّ تحضيره بين النّخيل قريبا من مصدر الماء، ثمّ تمّ نقله إلي أعلي حيث كنّا. المهم أنّنا ما تركنا شيئا، حتي المدائح. شيئان إثنان تركناهما في تلك الليلة هما النّوم والمنكر، وهذه شهادة لله والتّاريخ. وعندما حان موعد الرّجوع بعد فلق الصّباح لممنا حوائجنا وعدنا إلي الشّرق مع طلوع الشّمس حسب الاتّفاق. والذي فاجأنا في اليوم التّالي أن النّاس نزلوا علي الشّاطئ يسهرون بين النّخيل من ساب إلي حمر يستمتعون ...".

هذا ما كان بشأن التّلال والهلال، ولكن ماذا عن جنّة بلال؟ هو بلال بن بيرم دُكّو، وبيرم اسم أمه، ودُكّو حبّوبته، وينحدر من أحمد بن علي أغا (راجع ذلك في الفصل السّادس). ولا يزال هناك مكان صغير في صيصاب باسم أمه (بيرم ـ ن ـ أُتّي)، ما يعني بالنّوبيّة "مشرع بيرم". في هذا المكان أقام بلال حديقة (جنينة) زرع بها من الفاكهة والخضروات أصنافاً. وكانت تُروى بساقية ترفع الماء من النّيل، فيمتدّ منها جدول إلى داخل الجنينة أسفل سورها. درج الأطفال من قبل زمن خليل فرح وإلى زمن جلال أحمد هاشم (أي في عشرينات القرن العشرين) على التّسلّل في طريق العودة من الخلوة إلى داخل الجنينة من خلال فتحة الجدول أسفل السّور ومن ثمّ التّمتّع بأكل فاكهتها وخضرواتها من ليمون وبطّيخ وبرتقال دونما إذنٍ من صاحبها. وتعتبر تلك المغامرات من أحلى أيّام الصّبا لمن قضوا طفولتهم بصيصاب. وكأنّي بالشّاعر النّوبي الرّقيق محمّد فضل السّيد بُكّاب (ابن سركيمّتّو) يحكي عن حالنا عندما قال في رائعته (قريتي) [محمّد فضل السّيد بُكّاب ومحمود خليل محمّد، 1961: 38]:

وفي خطىً كئيبةٍ ..

نسير للكُتّاب

وفي طريقنا .. نشنُّها الحروب

وبالصّراخ نملأُ الدّروب

ونوقدُ النّيرانَ في الأعشاب

ونلعنُ الآباءَ والأنساب

ونحفظُ القرآنْ

ونسرقُ البطّيخ

تلكم هي جنّة بلال التي قصدها الخليل بقوله:

عزّة ما نسيت جنّة بلال وملعب الشّباب تحت الظّلال

وما الظّلال هنا إلاّ ظلال سوكري وساب وهيباب ومجمل ضفاف صيصاب على الجانب الغربي. في زمننا (أي في ستينات القرن العشرين) كنّا نفعل ذات الشّيئ، لكن في جنينة حفيده محمّد إبراهيم بلال (1896م ـ 1973م). وكان ظنّي قد ذهب أوّلاً إلى هذه الجنينة، حتّى نبّهني الهادي حسن أحمد هاشم إلى أنّ جنينة بلال الحقيقيّة تقع في الحيّ المسمّى بيرم ـ ن ـ أُتّي.

بعد هذا يصبح من اليسير أن نفهم شعر الخليل في بعده الخاصّ، مثل قوله في قصيدة (نيل الحياة):

بالله يا وطن الصِّبا بالعافية يا روح الصِّبا

بفداك من قلبي الصَّبا بي مالي بي دمّي الصِّبا

***

يا نيلنا يا بحر الجلال يا ابشامة في صدرك هلال

قول للسلف خلفاً حلال نتلاقى في جنّة بلال

في شرح هذه الأبيات يقول علي المك [1977: 198]: "أبشامة هو النّيل والهلال يدلّ على العلم المصري بهلاله ونجومه الثّلاث. وقيل (السّلف) هم من استشهدوا إبّان أحداث 1924م. والإشارة هنا إلى أنّ (الخلف) سيواصلون النّضال حتّى النّصر". ولكن ماذا عن دلالة "نتلاقى في جنّة بلال"؟ في الواقع يمكن النّظر إلى ما قاله علي المكّ على أنّه تفسير مقبول، برغم ما فيه من تقعّر، طالما كانت المسألة قائمة على التّأويل. لهذا يمكن أن ننظر هنا إلى هذا الشّعر على أنّه قيل في ثورة 1924م، والتي يُشار إليها بالهلال، وكان يُزيّن علم اللواء الأبيض، وما الشّامات إلاّ الأنجم التي أحاطت بالهلال. كما يمكن لهذا الشّعر ـ مقروناً مع كلّ ما سبق ـ أن يُقرأ على أنّه يصف لنا النّيل (بحر الجلال)، ومن ثمّ ينتقل إلى مخايل الفرح المتمثّلة في مراسم الزّواج (الهلال الذي يزيّن الجبهة)، ثمّ ربط كلّ ذلك بالسّلف، مع الوعد باللقيا في جنّة بلال والتي هي قطعاً إشارة لصاي، بوصفها مباءة الرّوح الأخيرة. وقراءة الأبيات باعتبار الدّلالة الخطابيّة لكلمة "بلال" تُضفي بعداً خاصّاً لا أرى كيف يمكن استجلاؤه خارج سياق قريته صاي. فهنا نكاد نلمس هذه الرّغبة الجامحة في أن يلتقي بأسلافه في صاي. ولا يلتقي المرء بأسلافه إلاّ في عالم ما بعد الموت. ولنرى كيف يعبّر الخليل بصورة مباشرة عن رغبته هذه؛ فكأنّه يريد أن يُدفن في صاي. ولنتذكّر هذا لأننا سنتوقّف عنده بعد قليل.

استناداً على هذه البيّنات، يمكن أن نصل إلى استنتاجات يجوز أن تركن لها النّفس باطمئنان كبير. تمثّل صاي بؤرة وجدانيّة في وعي الخليل الوجودي، فإذا ما ذكر الصّبا، أو جمال الطّبيعة، أو النّيل، أو أيّ إشارة من قبيل تذكّر أسلافه، ممّا يستثير هذا الحنين الوجودي، فمردّ ذلك إلى صاي. بالضّبط مثلما لو ذكر النّجوم والبدر والليل والسّرى وركوب المطايا، فذلك مرَدُّه إلى تجاريب سفره الأولى في باكر صباه، والتي أصبحت أيضاً بؤرة وجدانيّة في وعيه.

صاي ما بين المَدَن وود مدني

على هذا سنقوم هنا بإعادة استقراء لواحدة من أشهر أغانيه، وهي تلك التي ـ فيما أرى ـ تُنسب حصراً إلى مدينة ود مدني والتي يقول فيها:

مالُو أعياهو النّضـال بدني

وروحي ليـه مشتهية ود مدني

ليـت حظّي سمح وأسعدني

طوفة فد يوم في ربوع مدني

كنت أزورو أبوي ود مدني

واْشكي ليهُو الحضري والمدني

في البدء أخذتُ هذه الأغنية على أنّها لا تعني غير مدينة ود مدني. ولكن بعد قليل من التّأمّل بدت لى احتمالات وجيهة لاستقراء آخر قد لا يتعارض مع ما أُشيع عنها. ما دفعني إلى هذا إلاستقراء بادئ ذي بدءٍ الأبيات التّالية:

آهِ على حشاشتي وْدَجَـني

وحنيني وْلوعتي وْشجَـني

دار أبويَ وْمتعتي وْعجَـني

يا سعادتي وْثروتي وْمجَـني

فكلمات مثل (دجني) و(عجني) و(مجني) استوقفتني كثيراً، إذ لا يستقيم لها معنى إذا ما قُرئت في سياق مدينة ود مدني. فالأولى، ولا ترد في عون الشّريف [2002]، من التّدجين بمعنى التّربية في الطّفولة؛ والثّانية، وترد في عون الشّريف [2002: 734] بمعنى التّدليل، أي "الدّلع"، ترتبط أيضاً بالتّربية في الطّفولة. إذن فكلاهما تشيران بوضوح إلى مراحل طفولته ونشأته، وهي قطعاً لم تكن مدينة ود مدني، والتي لم يرد عن علاقة الخليل بها أكثر من أنّه زارها في بعض مناسبات عابرة. أكثر من ذلك نجده يتكلّم هنا عن (دار أبوي ومتعتي وعجني) ثمّ (يا سعادتي وثروتي ومجني). فدار أبيه في صاي وهناك في صباه كانت متعة حياته، بدليل أنّه يردف بقوله (وعجني)، أي مرتع ودلّ طفولته. ثمّ أين كانت ثروة أهله إن لم تكن في صاي ودنقلا المدينة ثمّ جزيرة مقاصر وحفير مشّو. ولكن ما يجعلنا نركّز على صاي هنا ذكره لأيّام لهوه (مَجَنِي)، وهو اللهو والمجون البرئ الذي أُثر عن الخليل في باكر شبابه عندما كان يتغزّل مغنّياً بالنّوبيّة في بعض بنات أهله الوردياب، فبعد ذلك لم يشدُ الخليل بألحانه للعامّة أبداً.

في الحقيقة لم يزر الخليل ود مدني إلاّ زياراتٍ عابرة، أشهرها تلك التي كان من المقرّر أن يذهب فيها إلى رفاعة لحضور حفل زفاف صديقه كشّة، فإذا بالمقام ينتهي بهم في ود مدني. وقد كان من أثر تلك السّفريّة "المقلب" أن ظفرنا بواحدة من أجمل أغانيه، ألا وهي التي يوق فيها:

قوم نادي عنان واتباعا ** وقفّل حوانيت الباعة

نزلت للدّنيا شفاعة ** وسعت أمدرمان لرفاعة

إلى أن يقول:

هنا الخُلُق الأعرابي ** لا خوف لا ضيم لا مرابي

ضلّ الشّكريّة الكابي ** والشّرف الأصلو رِكابي

وكم احتفى السّادة الجمهوريّون كثيراً بهذه الإشارة إلى أنّ أهلنا الرّكابيّة (ومنهم الأستاذ محمود محمّد طه، شهيد الفكر) أصلهم من الأشراف. فعلى قدر ما حوت رفاعة من أكارم النّاس وسَراتها، اصطفى منهم الخليل هاتين الطّائفتين من القوم الطّيّبين، فاختصّهم بالذّكر والتّنويه. ولأهلنا الصّوفيّة، من قبيل السّادة الجمهوريّين نظر في إتيان الخليل بهذه الإشارة اللطيفة. وفي الحقِّ، قلّما يقرأ المرءُ شعر الخليل دون أن تبلّ صداه مثل هذه اللطائف الذّكيّة التي تُنبي عن روحٍ شفّافة، ترى ما لا يراه الآخرون، حتّى إذا ما اشارت إلى خفايا النّفس وطواياها، تعجّب النّاسُ كيف فاتهم ملاحظة هذا.

ولكن ماذا عن ورود اسم مدينة ود مدني بطريقة يبدو أن ليس فيها لبس أو غموض، ممّا يمكن أن يؤخذ كبيّنة على أنّ الأغنية فعلاً قيلت فيها؟ ثمّ ماذا عن رواية أحمد الطّريفي الزّبير باشا وتوفيق أحمد البكري اللذين ذكرا أنّهما كانا مع الخليل بمصر في المستشفى عندما قامت ثلاث فتيات من مدينة ود مدني بزيارته ممارضةً له، فكان أن أنشد على شرفهنّ الأغنية، وهي فعلاً آخر أغانيه؟ بعيداً عن إثارة أسئلة من قبيل (من هنّ تلك الفتيات، وبنات من هُنّ؟ وما هي ظروف ذهابهنّ إلى القاهرة، ألوحدهنّ أم بمعيّة ذويهنّ، أم كُنّ يعشن بالقاهرة؟)، ونأياً بأنفسنا عن التّشكيك فيما رواه هؤلاء الرّجال، نصدع برأيٍ لا ينهض على نقض ما ورد إلينا من رواية، وذلك اتّكاءً على نظريتنا فيما يتعلّق بالبعد الخاصّ والبعد العام في شعر الخليل. ونبدأ باسم (ود مدني)، فنكشف عن أوجه أخرى جائزة لنطق الكلمة.

أنغام اللسان: بين شَرْ وشرْرْ

وفي هذا نكتة متعلّقة بمسألة اللغات الأفريقيّة النّغميّة، والنّوبيّة واحدة منها. وكنّا أشرنا إلى هذه المسألة عندما ذكرنا اسم عبد الكريم خيري وردي، وكيف أنّه كان يجري عليه لقبه "أوشّي" (Óshshì)، والتي تستخدم كمقابل لاسم "عبده" بالنّوبيّة. كما أشرنا إلى كلمة العبد بالنّوبيّة (òshshí). ونلاحظ أن كلا الكلمتين تكتبان بنفس الطّريقة من حيث الأحرف، بينما كلّ واحدة منهما تُنطق بطريقة مختلفة، وهذا ما استدعى إدخال العلامات النّغميّة. من جانب آخر نجد علماء اللسانيّات وكأنّهم متّفقون في أنّ اللغة العربيّة ليست نغميّة. هذا ربّما كان صحيحاً، وربّما كانت الخصائص النّغميّة موجودة في تصويتاتها دون أن يكون لها دور في إحداث أيّ تمايزات دلاليّة. هذا عن العربيّة الفصحى، ولكن ماذا عن اللهجة العربيّة العاميّة بوسط السّودان، وهي الوسيط الذي عبره كتب الخليل أغلب شعره؟ في رأينا أنّها قد تبنّت بعض الخصائص النّغميّة الممايِزة دلاليّاً، وسنسوق بعض الدّلائل التي نأمل أن يتوسّع فيها الباحثون دعماً أو نقضاً.

في اللغة العربيّة نجد الجذر (شرّ) لعديدٍ من الكلمات والأسماء، ومنها "تأبطّ شرّا"، و"رجلٌ شِرّيرٌ"، إلخ. ثمّ نجد الكلمة (شَرْ)، والتي تُقال للصوت الخافت يُحدثه الماء وما جرى مجراه منسرباً. ما نريد أن نلفت النّظر إليه أنّ الرّاء الواردة في الكلمة الأولى تختلف عن تلك الواردة في الكلمة الثّانية. فالرّنين الوارد في كليهما من حيث عدد الرّأْرَآت (واسمحوا لي بنحت هذه الكلمة واستخدامها تبسيطاً) ليس واحداً. فعلى سبيل المثال، ولتبسيط المسألة، إذا شبّهنا عدد الرّأرآت الكامنة في الرّنين الذي يحدثه نطق حرف الرّاء بأسنان المشط، سنلاحظ أن عدد أسنان الرّاء في كلمة (شَرّ) الأولى أقلّ من عدد أسنان الرّاء الواردة في كلمة (شَرْ) الثّانية. بهذا يجوز لنا أن نكتب الأخيرة على النّحو التّالي (شَرْرْ) تمييزاً لها عن (شَرّ) الأولى. والرّاء الزّّائدة هنا مسكينة ومظلومة، فهي أشبه بالواو الواردة في (عَمْرو). والاختلاف بين الكلمتين ليس في الأحرف (أو الأصوات)، فكلاهما راء لا غبار عليهما؛ إلاّ أنّ نغمة الرّاء الواردة في كلمة (شَرّ) تختلف عن نغمة الرّاء الواردة في كلمة (شَرْ) والتي ميّزناها بكتابتها على النّحو التّالي (شَرْرْ). ما يهمّ هنا أنّ اختلاف نغمة الرّاء في الكلمتين يفضي إلى اختلاف في المعنى واضح. هذا مثال تشترك فيه اللغة العربيّة بمستوييها، العامي والفصيح. لذا سندعم ما ذهبنا إليه بمثال آخر تشترك فيه العاميّة العربيّة بلغةٍ سودانيّة هي النّوبيّة (وربّما توجد نفس الكلمة التي سنتخذها مثلاً في لغات سودانيّة أخرى، والله أعلم). وسنعاني بعض الشّيئ في سبيل كتابة الكلمة التي سنتّخذها مثالاً، ذلك لأن الحرف الذي تبدأ به (أي الصّوت بلغة اللسانيِّين) ممّا لا قبل للعربيّة به، وبالتّالي ليس له مقابل أبجدي في الكتابة العربيّة. هذا الصّوت مزيج بين صوتي الجيم والنّون، وقد تصالح اللسانيّون ممّن استخدموا الحرف اللاتيني على كتابته بالحرفين التّاليين (ny)، وفي اللغة النّوبيّة القديمة كُتب هذا الصّوت بالشّكل الكتابي التّالي (v). الكلمة محلّ البحث والتّقصّي هنا يمكن كتابتها باستخدام الحروف اللاتينيّة على النّحو التّالي (nyar)، وباستخدام الحروف النّوبيّة القديمة يمكن كتابتها على النّحو التّالي (var). ولكنّا نشير إلى أنّ نطق هذه الكلمة في اللغة النّوبيّة الحاليّة ليس بالفتح على هذا النّحو، بل بالضّمّ، على النّحو التّالي (vur) وبالحرف اللاتيني (nyur)، ثمّ إنّها لا ترد في اللغة النّوبيّة إلاّ مكرّرة على النّحو التّالي (nyurnyur)، أي باللاتيني أيضاً (nyurnyur). أمّا في العاميّة العربيّة، فترد بكلا الوجهين، أي مفردة (nyar) ومكرّرة (nyarnyar)، ثمّ بصيغةٍ ثالثة مفردة سنتعرّض لها لاحقاً. وقد أورد أستاذنا عون الشّريف هذه الكلمة في قاموسه [2002: 967] في صيغتها المفردة وفي باب النّون، أي (نَرْ)، ذاكراً أنّها سودانيّة وشارحاً لمعناها على أنّه الصّوت تخرجه القطط أو الكلاب إذا هرّت: "هرّ وصوّت كالهرّ الغاضب"، ومشيراً إلى أنّ النّون هنا ليست النّون العاديّة بل تشوبها وتخالطها جيم: "النّون بين الجيم والنّون". ولكن هذه الكلمة لا ترد في صيغتها المكرّرة في قاموس اللهجة العاميّة لأستاذنا الجليل عون الشّريف. هذه الكلمة تعني في اللغة النّوبيّة الغمغمة والهمهمة بما يشير إلى أنّ الشّخص المعني غير راضٍ بأمر ما، ولكنّه بدلاً من المجاهرة برأيه إن سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً، تراه يغمغم ويهمهم. مثل هذا الشّخص يُواجهُ بصيغة الاستنكار التّالية: (ir minga nyurnyuri?)، أي (بماذا تغمغم أنت؟). أمّا في العاميّة العربيّة فتعني في صيغتها المكرّرة (فيما تعني) الإلحاف في السّؤال إلى درجة إحداث "النّرفزة" دونما غضب بحيث ينال مُلحفُ السّؤال سُؤله في نهاية المطاف. يقولون في مثل هذه المواقف (وسنكتب هذا الصّوت المُشْكِل بحرف جيم ذات أربع نقط): "والله َـرْـَرْناهو ليك جِِنِس َـرَْـرَة!". وهذا التّفسير لا يرد في عون الشّريف. أمّا الكلمة في صيغتها المفردة (َـرّّ ـ ولتسمحوا لنا أن نكتبها بشدّتين ريثما نشرح السّبب لذلك)، فلها معنى آخر بالإضافة لذلك الذي أورده عون الشّريف. فهي تعني صوت صغار القطط والكلاب حديثي الولادة عندما تنادي أمّهاتها، وهذا أيضاً لا يرد في عون الشّريف. وهنا يأتي حديثنا عن هذه الصّيغة الأخيرة التي أشرنا لها أعلاه، وهي (جَرّّ) وبذات المعنى أعلاه، لكن بصوت الجيم فقط دونما اشتباك مع النّون مع شدّتين أيضاً. هذه الكلمة بصيغتها هذه تختلف تماماً، نغماً ومعنىً، عن الكلمتين (جَرْ) لانتهار الكلاب، والكلمة العربيّة الأخرى (جَرَّ يجُرُّ جَرّاً) واللتين تردان في عون الشّريف [2002: 190]. قالت النّائحة ترثي الشّيخ النّاصر بن محمّد أبو لكيلك:

يا عيش الصُّبَر لمّا اليتامى يَجُرُّوا

وفي الرّواية الأخرى:

يا عيش الصُّبَر لمّا اليتامى ـَـُرُّوا

الرّاء الواردة في هاتين الكلمتين (َـرّّ، جَرّّ) في صيغها الإثنتين (واحدة بجيم رباعيّة التّنقيط مع تكرار التّشديد، والأخرى بجيم عاديّة مع تكرار التّشديد) تختلف نغمياً عن الرّاء العاديّة التي نألفها في تصويتات اللغة العربيّة، عاميّة وفصحى. ولنلاحظ أنّ ما يميّز (جَرْ) لانتهار الكلاب مقرونةً مع الفعل (جَرَّ يجُرّ) عن هذه الكلمة في أيٍّ من الصّيغتين أعلاه (دون التفات إلى الجيم رباعيّة التّنقيط)، هو النّغم المتعلّق بالرّاء فحسب. بالضّبط كما في حالة الكلمتين (شرّ، جذر شرّير) و(شرّّ) لصوت الماء الخافت يجري منسرباً. وهذه ـ فيما يبدو لنا غير جازمين ـ خصائص نغميّة، وعسى أن نتفرّغ لها في مقبل الأيّام، أو أن يتصدّى لها أحد الشّباب فيميط لثامها.

والآن فلننظر في أمر الكلمة محلّ النّقاش في سياقها المعجمي، أي دون إدخالها في جملة: (مدني)؛ حتماً سينطقها كلّ واحد من القراء السّودانيين النّاطقين بعاميّة وسط السّودان حسبما يتّفق لهم من مزاج نفسي. لكن فلنتأمّل الكلمة التّالية التي تشبهها في الرّسم والنّغم (بلدي)، وذلك في سياق الجملتين التّاليتين: الأولى: (السّودان بَلَدِي) بمعني أنّه وطني؛ والثّانية: (مُلاح بَلَدِي) بمعنى طعام شعبي. هنا يتضح الفرق وهو نغمي وذو أثر كبير لأنّه يمايز بين معنيين. ويكون الفرق أكثر وضوحاً إذا ما كتبنا الكلمتين بالأحرف اللاتينيّة مع إدخال العلامات النّغميّة: الأولى (bàlàdí)، والثّانية (báládì).

بالعودة إلى (ود مدني)، وبتطبيق نظريّة الخصائص النّغميّة للعاميّة العربيّة، نصل إلى ملاحظات جدّ مفيدة. فإذا نطقناها على طريقة (مُلاح بلدي)، ستكون على النّحو التّالي: (Mádánì)، وهي اسم مدينة ود مدني نسبةً إلى ولّيها المدفون بها السّنّي المدني؛ أمّا إذا نطقناها بطريقة (السّودان بلدي)، فستكون على النّحو التّالي: (màdàní)، أي من (المَدَن) وهنا تعني (البلد). ورد في عون الشّريف قاسم [2002: 917] قول الشّاعرة الشّايقيّة:

وكِتْ جانا الزّمان المدّن النّاس

خلّينا الْمَدَن ما عِنْدُه قانون

والمعنى واضح، فهي تقول ما معناه: (خلّينا البلد ما عندو قانون). على هذا يمكنني أن أقول بأن البيت التّالي:

كنت أزورو أبوي ود مدني

يمكن أن يُقرأ على النّحو التّالي: كنت أزورو أبوي [و] ود مدني

أي أن أزور أبي المدفون بصاي كما أقوم بزيارة ابن بلدي، كناية عن الأهل.

صاي أم مدني! ما الفرق؟

إذن دعونا الآن نقرأ الأغنية في سياق جزيرة صاي وحنين الخليل الجارف لها:

صنفه بعدها قالن إن تُصِبِ

تربِط الأحلام مع الخَصَبِ

كان حبيبنا وحاشى ما نُصَبي

ومن زمان فارقنا وهو صَبي

***

تاني ما سمعنا انقطع خبرُه

يا حليلكم طشّوا ما انخبروا

واحده فيهِن قالوا انجبروا

فقْر أبونا وخدمـة النّبروا

***

الكنانة أكرمـت نُزُلـي

وأغدقت من خيرَه كُلِّ زِلِي

إن حِييت أو مُتَّ في الأزلِ

ده مقدّر طبعه في الأزَلِ

بهذا الفهم يكون الخليل قد غنّى لبلده صاي في مستوى البعد الخاصّ لشعره، في الوقت الذي ربّما أشار فيه لود مدني مجاملةً لممارضيه من حسان وكعاب ود مدني، وذلك في مستوى البعد العام لشعره. إذ إنّ إحالة هذه الأغنية إلى مدينة ود مدني تجعلها معلّقة في الهواء لا يستقيم لها معنى ولا يتّفق لها سياق. بينما إعادة قراءتها في سياق جزيرة صاي تجعلها تقف بقدميها مفصحةً عن حقيقة دلالاتها ولواعجها. فذا رجلٌ على فراش الموت وقد ضعف منه الجسد فلا يقوى على حمل الرّوح، فكان أن حنّت نفسه لأيّام صباه وطفولته عندما كان جسده يضجّ بالحياة والأمّل.

ولكن ربّما يقول قائل: ماذا عن قصيدة (سقى الحيا ود مدني) [الدّيوان: 184]، والتي يقول فيها:

سقى الحيا ود مدني

صوب الغمام يا السّني

مقصدي ومرادي في مدني

حضري ومتْهادي ومدني

جنّـة بـلالي وعدنـي

راحـة فـؤادي وبدني

***

أباري الرّيـل واستَـغَـني

وللاّ أجاري النّيل وابْقى غني

كدي طول يا ليل وزيل ضَغَني

الجزيرة تشيل تكيل تَغَني

فهو هنا كمن لا يشير فقط إلى مدينة ود مدني بالاسم، بل يرفق ذلك بذكر وليّها المدني السُّنّي. دون أن ندخل في أيّ شكل من أشكال المماحكة، كأن نتغالط في كيفيّة نطق "السّني"، إذا ما كانت "السُّنّي" (بحيث ينكسر الوزن والقافية)، أم السَّنِي" (بما يستقيم معه الوزن والقافية)، مع كلّ هذا، لا أرى ما يمنع قراءة هذه القصيدة في سياق جزيرة صاي بنفس القدر الذي تقبل فيه أن تُقرأ في سياق مدينة ود مدني، وربّما في أسيقة أخرى لم نطّلع عليها بعد. وهذا لعمري ما يجعل الخليل شاعراً فذّاً سابقاً لأوانه، وربّما لا يزال، فانظر في هذا وتأمّل!

صاي المباءةُ الأخيرة: مرضُ الأشدّاء ورجعةُ الواهنين

لا يخالجني شك في أنّ الخليل تحرّى خطوات أهل صاي ممّن أصيبوا بذات الرّئة، فضلاً عن حبيبه وخدن روحه أخيه بدري، والذي مات بذات الرّئة أيضاً. فقد عاد بدري إلى الخرطوم من تلودي وهو يشتكي المرض فتوجّه إلى وادي حلفا ولا ندري إن كان قد ذهب إلى مصر للاستشفاء. ولكن عندما استوثق من أنّ معركته مع المرض ليست في صالحه، طلب من أهله أن يعودوا به إلى جزيرة صاي، مع ما في ذلك من مشقّة عليهم وعليه، فقد كان السّفر بالجمال ويمتدّ لأيّام وأيّام. في هذا كان بدري نفسه يتحرّى طقساً رجولياً خاصّاً بأهل صاي ممّن أصيبوا بمرض السّلّ. فأهل صاي يطلقون على مرض السّلّ اسم "مرض الأشدّاء"، ولهم في ذلك جملة بالنّوبيّة مأثورة، وهي (kurkedyn odde)، وهي شدّة روحيّة وليست جسديّة. فقد جرت عندهم العادة أن يعود مرضى السّلّ إلى الجزيرة ليقضوا نحبهم فيها. ولعلّ أصل التّسمية تعود إلى قدرة هذا المرض في إضعاف الأشدّاء، حيث لا تبقى لهم غير الشّدّة الرّوحيّة. فقد اقتضت تلك العادة شيئاً آخر؛ فبما أنّ هؤلاء المرضى كان محكوماً عليهم بالموت نسبةً لأن السّلّ كان حينها مرضاً قاتلاً لا علاج له، كان عليهم أن يظهروا شجاعتهم وعدم جذعهم من الموت بأن يعودوا إلى صاي وهم في حالات نفسيّة طيّبة، تعلو محيّاهم البسمة وسيماء الفرح وكأنّهم موعودون بالخلود في الدّنيا والآخرة. وكان عليهم أن يستمتعوا بآخر أيّام عمرهم في حبور وسعادة، مستخفّين بالموت، دون أن يسمحوا للحزن أن يعكّر صفو لحظاتهم الأخيرة مع أهلهم وذويهم وأطفالهم.

مات بدري فرح ودُفن في صاي، وجاء الخليل يبكي أخاه الحبيب، وكان أثيراً لديه. ثمّ لمّا انتهت أيّام العزاء عاد إلى الخرطوم ليرجع بعد عام فيتزوّج بأرملة أخيه (سلامة أغا إبراهيم والتي عُرفت بشلاّليّة) في عام 1923م، ومنها انتقل ميكروب المرض إلى الخليل، بينما لم تُصب به سلامة حتّى مماتها. فكيف لا نتوقّع من الخليل أن يفعل كما فعل أخوه بدري فرح، عندما طلب أن يموت ويدفن بصاي، أي أن يموت ميتة الرّجال الأشدّاء من أهل صاي. وإلاّ فيم قوله:

يا نيلنا يا بحر الجلال يا ابشامة في صدرك هلال

قول للسلف خلفاً حلال نتلاقى في جنّة بلال

ولنا أن نراجع الحكايات التي تروي كيف أنّ الخليل تحدّث مستخفّاً بالمرض واستعداده لملاقاته على أن يكون ذلك في سياق الاستمتاع المطلق بآخر لحظات العمر. فقد حكى أحمد الطّريفي الزّبير باشا [علي المك، 1977: 12] عن الخليل قوله: "إيه يعني مدّة طويلة ومدّة قصيرة، خلّينا نشرب عشان ننتهي بسرعة". وإلاّ كيف يمكن أن نفهم قوله:

إن حيِيت أو مُتَّ في الأزلِ

ده مقدّر طبعه في الأزَلِ

ثمّ فلنقرأ مع هذا قوله في نفس القصيدة:

كان حبيبنا وحاشى ما نُصَبي

ومن زمان فارقنا وهو صَبي

***

تاني ما سمعنا انقطع خبرُه

يا حليلكم طشّوا ما انخبروا

وأقول ـ غير جازم ـ كأنّني سمعت في منتصف السّبعينات من أخيه علي فرح بدري كلاماً من قبيل رغبة الخليل في العودة إلى صاي ليموت فيها وهو عائد من رحلته الأخيرة من مصر، ولكن حال دون ذلك اعتلال صحّته الشّديد ـ أو تُراها كانت تلك رغبة أهله وذويه؟

في هذا لن يكون الخليل أوّل ولا آخر نوبي هجر قريته في رحلة الاستعراب الخاسرة حتّى إذا امتدّ به العمر ووهن منه العظم، شدّ الرّكاب في رحلة يبغي بها الرّجْعَى، ولات حينة رجعى. وكنت أشرت قبل سنيّن لحالةٍ مماثلة بطلها الشّاعر النّوبي محي الدّين فارس، وذلك عندما ظهر ديوانه صهيل النّهر [1990م]؛ فالرّجل كان يبكي في أغلب قصائد الدّيوان طفولته المنسيّة تحت ظلال النّخيل والأشجار على ضفاف النّيل بقريّة نوبيّة اسمها أرقو لم تنل حتّى شرف أن يذكرها من قبل ولو بعدد المرّات القليلة التي ذكر فيها الخليل قريته؛ والخليل ضاع أغلب شعره فلم نقع عليه، والفارس المحي الدّين جمع بنفسه شعره دون شاردة أو واردة. وقبل ذلك بكثير ذكر الشّاعر العملاق ابن صاي (صيصاب) جيلي عبد الرّحمن قريته صاي ولكن بطريقة غير مباشرة، وذلك في قصيدته (أحِنُّ إليكِ يا عَبري):

أحِنُّ إليكِ يا عبري حنيناً ماج في صدري

وأذكرُ عهْدَكِ البسّــامَ عهدَ الظّلِّ في عمري

وربّما دفعه إلى وسم القصيدة باسم عبري انتهاء اسم صاي بياء عصيّة على القافية، فلا هي منقوصة ولا هي مقصورة. وقد أسبغت تلك القصيدة غُلالةً من الرّومانسيّة على عبري، خاصّةً وأنّها كانت من القصائد المقرّرة على تلاميذ المدارس طيلة عقد السّبعينات، وربّما لا تزال. فهنا جيلي يذكر عبري، بينما هو في الواقع يحكي عن قريته صاي. وقد مرّ بعد ذلك بعبري الأستاذ المربي عوض عبد القادر فقير (من عرب حاج بغرب دنقلا العجوز)، وكان قد سلخ بعضاً من عمره يدرّس تلاميذ المدارس قصيدة (أحِنُّ إليكِ يا عبري) شرحاً وتلحيناً وأداءً، فعلقت نفسه بالبلدة الطّيّبة دون أن يراها. ولكن عندما رآها رؤيا العين، هاله أمرها، فعارض قصيدة جيلي بقصيدة أخرى من جياد الشّعر، نذكر منها الأبيات التّالية:

معاذ اللهِ يا عبري أهـذي بلـدةُ الشّـعرِ؟

أللجدبِ وللصخرِ حنينٌ ماج في صدري؟

فليته زار عبري الضّفاف لا عبري فوق حيث المدرسة والمستشفى والمجلس البلدي، وليته، قبل ذلك وبعده، زار صاي نفسها، لرَأى حينها ما عناه شاعر القصيدة، جيلانيُّنا.

الوطن بين الرّمز والإشارة

عودٌ على بدء

أشرنا إلى أنّ الرّمزيّة في شعر الخليل تكمن في احتمال شعره استقراءً جديداً يأتي في سياق البعد الخاصّ، فكأنّه هنا يخاطب ذاته، مستثيراً في ذلك وجوده، وليس ذكريات طفولته فحسب. وهو إذ يقوم بهذا لا يسلب عامّة جمهوره في نفس الوقت من حقّهم في استقراء شعره وفق سياقٍ عام، له بعده الجغرافي والاجتماعي الخاصّ بأمدرمان والخرطوم وما جاورها (أو ود مدني)، كما له بعده الوطنيٍّ العام. فشعر الخليل كالفنّ التّشكيلي، لا تكتمل حلقة إبداعه إلاّ بإسقاطات الجمهور المتلقّي لمعاني جماليّة خاصّة به دون أن ينحصر في أيّ دلالات عناها المبدع؛ وهذا مكمن الحريّة في الإبداع. بهذا يتجاوز شعر الخليل الدّلالات المعجميّة للغة، ليختطّ لغته الخاصّة. فشعره لا تحمله اللغة، بل هو الذي يحمل اللغة، وهي في ذلك لغة خاصّة به، أي خطاب شعري خاص به، لا يُفسّر شعره بدونه، ولا يجوز أن يُستخدم في تفسير شعرٍ آخر.

من أمثلة البعد الخاصّ في شعر الخليل ـ كأن يقول شيئاً يفهمه النّاس على شكل، بينما يقبل قراءةً أخرى أقرب إلى الخليل للعارفين من ذوي قرباه الرّوحيّة والاجتماعيّة ـ ما قاله مبارك المغربي [2002: 99] في تفسير:

في يمين النّيل حيث سابق كنّا فوق أعراف السّوابق

الضّريح الفاح طيبو عابق السّلام يا المهدي الإمام

فقد قال المغربي: "(أعراف السّوابق) أعراف جمع عُرف وهو شعر عنق الفرس، والسّوابق جمع سابق وهو أوّل الخيل، معناه كان يمتطي مع رفاقه صهوات الجياد." وتعليقاً على هذا كتب حبر أغنية الحقيبة الأستاذ عوض بابكر (وقد زيّن كتاب مبارك المغربي بتعليقات هامشيّة زادته عمقاً على عمق، هذا بالرّغم من أن اسم أستاذنا عوض بابكر قد سقط من الطّبعة، إذ لم يشر إليه النّاشر فيما جاء سهواً حسب علمنا) على هامش الصّفحة تحت الرّقم (1): "في رأينا المقصود بـ (كنّا) هم أنصار الإمام المهدي، وهم الذين كانوا يعلون أعراف الخيول. ويقصد بيمين النّيل الجهة التي بها الطّابيّة التي أقامها أنصار المهدي، ويمينها يقع ضريح الإمام. لذا قال الشّاعر (في يمين النّيل حيث سابق) يقصد معسكر الأنصار، و(سابق ) إشارة إلى الماضي وهو فترة الثّورة المهديّة" [المرجع السّابق]. ودون أن نعلّق على مسألة أنّ الطّابية لا تقع يمين النّيل، بل تقع شمالَه، نُشير إلى أنّ الفرق بين هذين التّفسيرين، والذي يبدو كأنْ لا شيئ يجمع بينهما، يتمثّل في أنّ أحدهما ـ وهو تفسير المغربي ـ يعتمد على اللغة في دلالاتها القاموسيّة، بينما الثّاني ـ وهو تفسير عوض بابكر ـ يعتمد على اللغة في دلالاتها الخطابيّة المتعلّقة بكلام قاله شخص معيّن هو خليل فرح. ونجد نفس البيت الأوّل من الشّطرة قد فسّره ابن الشّاعر، فرح خليل فرح [1999: 18] بقوله: "يصف الشّاعر هنا دخول المهدي الخرطوم من غرب النّيل جهة الفتيحاب بجيشه لجرّار فوق ظهور الخيل"، وهذ شرح ربّما يرفضه البعض بحكم أنّ الفتيحاب ـ أيضاً ـ لا تقع يمين النّيل بل شمالَه. ومع ذلك تبقى حقيقة أنّ الـفسير يقوم على الاستقراء، وليس على تفاسير اللغة قاموسيّاً، وهذا ما نعنيه بالبعد الخاصّ والبعد العامّ في شعر الخليل.

في هذا الخصوص، أشير إلى ما قاله لي ابنه فرح خليل في تفسير أبيات بعينها من أغنية "ما هو عارف قدمو المفارق" حيث ذكر أنّها قيلت في ابنته عائشة خليل، وذلك عندما أزفت لحظة الوداع في رحلته الأخيرة إلى مصر، والتي سيعود منها ليموت. فقد قال بأنّ أخته عائشة تعلّقت بأزيال والدها وهي تجهش بالبكاء حتّى شرِقت. تقول الأبيات:

أين منّي الودّعتو شاهق باكي ناهد لسّع مراهق

عيني ما بتشوف إلاّ شاهق أين وجه البدر التّمام

إذ شرح قوله (... شاهق باكي ناهد، لسّع مراهق) على أنّها قيلت في ابنة الشّاعر عائشة خليل، وهذا لا يصّح في رأينا إلاّ باعتباره جزءاً من المعنى. فعندما تُوفّي الخليل كان عمر ابنته عائشة لا يتجاوز الثّالثة من العمر، فكيف توصف طفلة في هذا العمر على أنّها ناهد، ثمّ في سن المراهقة؟ فماذا يا تُراه يقصد الخليل؟ في رأينا أن ما يخصّ ابنته من البيت ينحصر في الشّطرة الأولى، في (شاهق)، أي أن يشهق المرء من شدّة البكاء والنّحيب، وهذا ما ينطبق على الحالة التي حُكيت عن الطّفلة الصّغيرة. أمّا الشّطرة الثّانية فتختصّ فعلاً بفتاة ناهد في سن المراهقة. فمن هي يا تُرى؟ إنّها قطعاً أخته فاطمة والتي كانت تعيش معهم في الخرطوم لتساعد سلامة شلاّليّة في العناية بالطّفلين، فرح وعائشة، ولم تغادر قافلةً إلى صاي إلاّ بعد وفاة الخليل. حينها كانت فاطمة فرح (أو بابّا ييّا كما تُعرف بالنّوبيّة) فعلاً في سن المراهقة.

وحكت مرّةً (عليها رحمة الله) إحدى الطّرائف التي كثيراً ما أُثر مثلها عن النّوبيّين الذين لا يعرفون العربيّة، إذ طلب منهما الخليل بصرامته الأسريّة المعهودة أن يفتحا الدّيوان لضيف كان يتوقّعه في يوم جمعة ما وذلك إذا ما حضر في فترة غيابه لأنّه كان خارجاً في مشوار قصير ولن يطول. وبالفعل ما إن خرج الخليل حتّى طرق طارقٌ الباب، دون أن تجرؤ سلامة شلاّليّة أو بابّا ييّا على فتح الباب وذلك لجهلهما المطلق باللغة العربيّة؛ فبالإضافة إلى كونهما غير قادرتين على التّحدّث بأي كلمة باللغة العربيّة، لم تكونا قادرتين أيضاً على فهم ما يُقال لهما. وهكذا طرق الطّارق الباب حتّى كلّمته يداه، ثمّ نادى على الخليل باسمه، وعندما لم يلقَ مجيباً من ساكني الدّار، غادر إلى حال سبيله. بعد ذلك بدقائق عاد الخليل، فكان أن استفسر أوّل شيئ عمّا إذا كان الضّيف قد أتى. فقالتا له بأنّه لم يأتِ، دون أن تذكرا له أمر الذي طرق الباب ثمّ مضى عندما لم يُفتح له بعد أن نادى اسم الخليل مرّتين. للمرّة الثّانية شدّد عليهما الخليل أن تفتحا الباب لأنّه يتوقّع هذا الضّيف الذي أكّد له أنّه سيحضر ظهر الجمعة لتناول الغداء معه ومن ثمّ المضي معاً في بعض شئونهما. ثمّ خرج الخليل في مشوار قصير كالأوّل. بعد ذلك بدقائق تكرّر الطّرق على الباب من نفس الشّخص وقد نادى اسم الخليل مرّتين، ثمّ مضى. في كلّ هذا كانت سلامة شلاّليّة وبابّا ييّا تلتزمان الصّمت المطبق. بعد قليل عاد الخليل وبدا عليه الانزعاج الشّديد عندما قالتا له بأنّ أحداً لم يحضر، فقرّر أن يخرج باحثاً عن صديقه متمنّياً ألاّ يكون قد حدث له مكروه. هنا فقط حكت له سلامة شلاّليّة حقيقة ما جرى وسبب امتناعهما عن فتح الباب له. فخرج الخليل وهو غاضب، لكن دون أن ينبس ببنت شفة.

هذه هي الشّخصيّة المعنيّة بالشّطّرة الثّانية التي تقول: (باكي ناهد لسّع مراهق). ونلفت نظر القارئ إلى أسلوب الخليل في الانتقال من "ثيمة" (theme) ابنته إلى "ثيمة" أخته دون أن يمدّ القارئ بأيّ مؤشّرات قد تساعده في ابتناء فهم كهذا؛ فكأنّه يكتب لذات نفسه. لكن الحقيقة أنّه يكتب في مستويين، خاصّ يخاطب به ذات نفسه، وعامّ يخاطب به الآخرين.

كما نرى بعض النّقّاد عادةً ما يفسّرون قوله:

عيني ما بتشوف إلاّ شاهق أين وجه البدر التّمام

على أنّه قاله إشارةً لعلوّ العمارات والبنايات بمصر، حاجبةً بذلك القمر والبدر والنّجوم، ثمّ السّماء (راجع ذلك في بدري كاشف، 2000: 9]. وهذا جائز في البعد العام؛ لكن ماذا عن احتمال أن تكون ذات الشّاعر هي المعنيّة بذلك في جموحها الطّمّاح للمعالي والجمال؟ ولنقارن ذلك بقوله:

عزّة ما سليت وطن الجمال ولا ابتغيت بديل غير الكمال

لذا لا نظنّ أننا نجافي الحقيقة إذا ما زعمنا أنّ الوطن عند الخليل يبدأ بصاي أو أمدرمان، مرموزاً إليه باسم "عزّة"، لينتشر متمددّاً حتّى يشمل كلّ السّودان. وبهذا يجوز لنا أن نقرأ أبياته التّالية وما جرى مجراها في شعره باعتبار أنّه يخاطب فيها وطنه الصّغير "صاي"، وذلك في إطار البُعْد الخاصّ من إبداعه، مثلما يمكن أن يخاطب بها وطنه الكبير ممثّلاً في "السّودان":

عزّة ما سليت وطن الجمـال ولا ابتغيت بديل غير الكمال

وقلبي لي سواك ما شفتُو مال خُذيني باليمين واْنا راقد شمال

فكأنّه يتحدث هنا عن كشف حساب ذاتي وموضوعي؛ ذاتي بامتداد أربعين عاماً سلخها الخليل كالشّهاب في قبة السّماء، صنع فيها على قصرها المجد والتّاريخ؛ وموضوعي فيما يتعلّق برحلة تمتدّ بعمر التّاريخ، بدءاً بتاريخ الممالك السّودانيّة القديمة، مروراً بالفترة النّوبيّة المسيحيّة، ثمّ الفونج، متزامناً معها تاريخ أجداده التّركُمان الذين جاؤوا في معيّة السّلطان سليم الثّاني، انتهاءً بالتّركيّة، فالمهديّة، ثمّ ثورة 1924م. ولكن في كلّ هذا تبقى صاي هي نقطة الانطلاقة في مشيمة اللاوعي الإبداعي عند خليل فرح؛ فإذا ما خاطب أمّته في مستوى الوعي المباشر متّخذاً من "عزّة" رمزاً للوطن، كانت صاي نفسها هي "عَزّة" في مستوى الوعي غير المباشر وأعماق لاشعوره. وكم صدق الهادي الصّديق [1974] عندما قال: "كان ذلك في جزيرة صاي أرض المعابد والمدافن ...، هناك يفتح التّاريخ كنزاً جديداً ويرسل من بلاد طيرها أعجمي لساناً محسياً فصيحاً وشاعراً وفنّاناً يزن اللحظة من التّاريخ بفنّه، واضعاً صوته من صوت الجماهير، وحاملاً وطنه في قلبه حتّى استطاع بحكم التصاقه بهموم الشّعب أن يعرف جوهره ويكشف معدنه، فكان العمل الفنّي أكثر قبولاً وهذا ما جعل الخليل أباً شرعيّاً للشعراء الوطنيّين لكونه أباً شرعيّاً لتاريخ النّضال الطّويل".

عزّة في هواك: الإشارات والتّنبيهات

قد يتّفق أغلب الباحثين في الإحالات الدّلاليّة والرّمزيّة التي ينطوي عليها اسم "عزّة" عند الخليل. فاسم "عزّة" إشارة ورمز للوطن الكبير، فضلاً عن كونه إشارة للوطنيّة السّودانيّة ممثّلة في أمدرمان، ثمّ إمكانيّة أن ينطوي على إشارة جوّانيّة للوطن الأصغر، جزيرة صاي. ثمّ اسم "عزّة" هو رمز للمرأة السّودانيّة في حال كونها نفسها رمزاً للوطن. وهذا لعمري منحى صوفي في شعر الخليل فيه تصبح المرأة (عزّة) شوقاً وطنيّاً مثلما أصبحت المرأة (ليلى) عند الصّوفيّة شوقاً إلهيّاً. كلّ هذا متّفق عليه في أغلب وجوهه العامّة. لكن، ومع كلّ هذا، هل يمكن أن يكون للمسألة وجه آخر لم نطّلع عليه؟ والسّؤال بصيغة أكثر وضوحاً هو: هل كانت هناك امرأة حقيقيّة لحماً ودماً اسمها "عزّة" أعلاها الخليل وأسمى من قدرها بتجريدها حتّى تكون رمزاً لكلّ هذا؟ في هذا الجزء سنحاول أن نُجيب على هذا السّؤال، متلمّسين لاحتمالات المصادر الحياتيّة اليوميّة التي يمكن أن تكون قد دفعت بالخليل إلى أن يتّخذ من اسم "عزّة" بالذّات دونما عداه من أسماء رمزاً لكلّ هذا. ويستند كلامنا على فرضيّة أساسيّة تذهب إلى أنّ الخليل ربّما علِق بالاسم جرّاء ملابسة واقعيّة ضلعت فيها شخصيّة نسائيّة تحمل اسم "عزّة". وتمتدّ بنا الفرضيّة لتزعم بترجيح أنّ هذه المرأة الحقيقيّة ربّما كانت العازّة (عزّة محمّد علي) زوجة علي عبد اللطيف ببيّنة كونها أوّل امرأة تخرج في المظاهرات، ثمّ تقودها، حسبما سيرد لاحقاً.

نبدأ بقولنا إنّ اسم "عزّة"، كيفما كانت إمكانيّات تأويله، ذو ارتباط أوّلي بالمرأة السّودانيّة، وذلك ببيّنة كونه اسماً أنثويّاً. ولعلّ أوّل ارتباط لمفهوم "العزّة" بالمرأة ما ورد في قصيدته (المدرسة) والتي نُظمت عام 1919م [علي المك: 136-137] والتي يقول في مطلعها:

يللاّ نمشي المدرسة ** سادة غير أساور غير رسا

ففي هذه القصيدة يرد:

دارسة ماك جاهله مُحنّسه ** قادله بي كتابه مؤنّسه

حاشا ما اتّربّيتي مُدنّسه ** لسّه لسّه عزّك ما اتنسى

ولكن ليس في هذا ما يمكن أخذه كبيّنة دالّة على الاسم "عزّة"، إذ يبدو كما لو كان استخداماً عفويّاً سابقاً لاستخدامات الخليل الموحية لاسم "عزّة" كما أُثر عنه فيما بعد. ولكن ما يجعلنا نُشير إلى هذا ما ورد في أغنية (فلق الصّباح ـ المرجع السّابق: 146) من ارتباط بين اسم "عزّة" ومفهوم العزّة والفخار:

عزّة شوفي شباب قومِكْ ** سبقوكِ على كومِكْ

بـت رجـال ولْـدوكْ ** للقبيـلة هـدوك

إنتِ عز وفخار

إذن استخدام الاسم "عزّة" في أغلب الظّنّ قد استدعته دواعي وظيفيّة واقعيّة بجانب الدّواعي الشّاعريّة. واسم "عزّة" ذو شاعريّة لا تخفى في الأدب العربي القديم والحديث، وذلك منذ أن شبّب الشّاعر الأمويّ كُثيّر بامرأة يُقال لها "عزّة" حتّى لُقّب بها. ولكن برغم كلّ هذه الشّاعريّة لم يُؤثر عن الخليل تغنّيه بأيٍّ من قصائد كُثيّر عزّة؛ هذا بافتراض أنّه علق بالاسم جرّاء هذه الشّاعريّة الأخّاذة فحسب. فالخليل، مثلاً، تغنّى للشّاعر عمر بن أبي ربيعة قصيدته التي يقول مطلعها:

أعبدةُ ما ينسى مودّتَك القلبُ

ولا هُوَ يُسليـه رخـاءٌ ولا كـربُ

قُطوفٌ من الحور الأوانس بالضّحى

متى تمشِ قَيْسَ الباع من بُهرِها تربو

ولا يفوتني هنا أن أُشير إلى ما أشار لي به أستاذي الهادي حسن هاشم (وهو الذي أفنى سنيًّ شبابه الأوّل دارساً وجامعاً لأدب الخليل) من أنّ الخليل قد أدخل بعض التّعديلات على قصيدة عمر بن أبي ربيعة لتذليلها غنائيّاً. ففي ديوان الأخير تبدأ القصيدة بقوله:

أعاتِكَ ما ينسى مودَّتك القلبُ

فغيّرها الخليل إلى "أعبدةُ" [ينطقها بالفتح في الإسطوانة]، وكان في إمكانه أن يقول: "أعزّةُ" لو أنّ تعلّقه بالاسم كان لمغزىً شاعريٍّ فحسب. ثمّ يقول ابن أبي ربيعة في ديوانه:

قطوفٌ من الحور الجآذر بالضّحى

فجعلها الخليل:

قطوفٌ من الحور الأوانس بالضّحى

وهذه لعمري أجمل وأجرى لساناً عند حال الغناء ـ كما يقول الهادي. ثمّ ليس أيسر للخليل من أن يتغنّى بإحدى قصائد كُثيّر عزّة، إن كان تعلّقُه بالاسم ناجماً عن حالة تماهٍ شاعريٍّ فيه فحسب. كما لم يستخدم الخليل اسم "عزّة" في أيٍّ من أشعاره العاطفيّة، من ذلك، مثلاً، قصيدة (هجرك يا سعاد ـ علي المك: 36-39):

هجرك يا سُعاد مرّر علينا حُلانا

بي مُرواد مكاحيل السّهر كاحلانا

إذن في تلمّسنا للأسباب التي تكمن وراء اصطفائه للاسم "عزّة" كيما يكون رمزاً جامعاً لأشواق الوطن والرّوح علينا أن نبحث ونُنقّب في تلافيف الظّروف الموضوعيّة التي أحاطت به وبالوطن في فضاء زَمَكاني بعينه. فماذا يا تُرى ينتظرنا هناك من آفاق ورؤى؟

أوّل ما يلفت نظرنا هنا احتمال أنّ الخليل لم يستخدم اسم "عزّة" في أيٍّ من القصائد التي سبقت ثورة 1924م. فجميع القصائد التي يرد فيها الاسم قام بتأليفها ترجيحاً بعد ذلك التّاريخ. ليس هذا فحسب، بل حتّى القصائد التي قام بتأليفها قبل أو إبّان ثورة 1924م لا يرد فيها اسم "عزّة". من القصائد التي سبقت الثّورة، مثلاً، قصيدة (تعليم المرأة ـ المرجع السّابق: 73-74)، والتي يذكر علي المك [المرجع نفسه: 192] أنّها نُشرت في جريدة حضارة السّودان يوم 27/1/1921م، ويقول فيها مشبّباً بسُليمى دون عزّة:

أترى يا دهرُ يُخطي الآملُ

ومحالٌ من سُليمى نائلُ

وفي إحدى قصائده الوطنيّة الرّمزيّة وتحمل اسم (وطني ـ نفسه: 86-89) يبدأ مشبّباً بعاتكة دون عزّة:

وقفاً عليكٍ وإن نأيتُ فؤادي

سِيّان قربي في الهوى وبِعادي

يا دارَ عاتكتي ومهدَ صبابتي

ومثارَ أهوائي وأصلَ رشادي

ولنأخذ من القصائد التي تزامن تأليفها مع ثورة 1924م (وربّما أُلّفت خصّيصاً لإلهاب الثّورة) قصيدة (الشّرف الباذخ)، والتي يقول عنها علي المك [نفسه: 198]: "كانت ما يشبه نشيد ثورة 1924م وكان يردّدها طلاّب الكلّيّة إبّان الحوادث المعروفة"؛ ويقول بدري كاشف عنها [2000: 11]: "وقد اتّخذها ثوّار 1924م شعاراً لهم في كفاحهم بقيادة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وزملائهما العسكريّين". ومع هذا لا يرد فيها اسم "عزّة" بوصفه رمزاً للوطن. وحتّى القصيدة الأشهر (عزّة في هواك) نظمها الخليل أخريات العشرينات وهو بمصر للاستشفاء [علي المك: 202]، أي بعد أحداث ثورة 1924م. ثمّ هناك قصيدة (ماك غلطان ـ المرجع السّابق: 129-130)، والتي يقول في مطلعها:

ماك غلطان ** ده هوى الأوطان ** نوح يا حمام

ويقول عنها علي المك [المرجع نفسه: 195]: "نُظمت عام 1925م وصارت إلى نشيد وطني ذاع شأنه وكان يغنّيه كثير من المطربين". ومع هذا لا نجد ذكراً لاسم "عزّة" فيها.

هناك رأي صدع به إبراهيم محمّد إبراهيم بلال [بدون تاريخ] فحواه أنّ الخليل استمدّ الرّمزيّة في اسم "عزّة" من المصريّين: "إذا راجعنا الرّمز للوطن في الشّعر المصري نجد أنّهم يرمزون له بـ (عزّة) أو (بهيّة)، وهذا ما لا نجده قبل الخليل إلاّ عند الخليل. وهذا أثر مصر الذي جمعته بها نوبيّته". ولكن إبراهيم محمّد إبراهيم لا يورد لنا أمثلة بعينها. وفي حديث شخصي لي معه، أشار إلى أشعار بيرم التّونسي وبعده حاليّاً أشعار أحمد فؤاد نجم. ولكن، هذا الرّأي، وإن لم نقع على مصدرٍ محدّدٍ له، فضلاً عن أنّ الاستوثاق عنه في مظانّه ربّما بُعد بنا عن مرافي بحثنا الرّئيسي، إلا أنّه رأيٌ وجيه قد يجعلنا نخلص إلى أنّ "عزّة" هنا لا تعدو كونها استخداماً رمزيّاً بحتاً تأثّر فيه الخليل بالحركة الأدبيّة في مصر. والخليل ذهب إلى مصر مرّتين، كلاهما بعد ثورة 1924م، وفي هذا ما يدعم هذا الرّأي. ولعلّ ممّا يدعم هذا الرّأي أكثر عدم استخدام الخليل لاسم عزّة لا قبل ولا أثناء الثّورة، الأمر الذي يقرّب احتمال أن يكون ذلك قد حدث أثناء وبعيد زيارته لمصر. خذ مثلاً عدم استخدامه لاسم "عزّة" في أغنية (الشّرف الباذخ)، وهي من قصائد الثّورة خاصّةً عندما يقول:

مـن تبّينـا ** قمـنا ربيـنا ** ما اتفاسلنا لو في قليل

ما فيش تاني ** مصري سوداني ** نحن الكلّ وِلاد النّيل

فالمقام هنا كأكثر ما يكون ملاءمةً لاستخدام اسم "عزّة" كرمز للوطن الكبير، وادي النّيل. ويبدو أنّنا كي نجزم بهذا نحتاج قبل ذلك أن نجزم بأنّ جميع القصائد التي يأتي فيها الخليل باسم "عزّة" ممّا قام بتأليفها أثناء أو بعد إقامته الوجيزة بمصر في المرّتين اللتين قام فيهما بزيارتها. من ذلك، مثلاً، أغنية (فلق الصّباح ـ نفسه: 142-145) والتي يقول عنها علي المكّ [نفسه: 197]: "قصيدة عن الوطن كما يراه خليل ...". وفيها يقول الخليل:

عزّة شوفي الحوش نوّر ** بي نجوم الليل غوّر

يا صبـاح النّـــور ** على العيون الحور

والخديد الحار

فنحن لا نعلم متى كان تأليفها، قبل، أم أثناء، أم بعد ثورة 1924م؛ قبل، أم أثناء، أم بعد زيارتَيْ الخليل لمصر. ومثلها أيضاً قول الخليل في قصيدة (ذكِّرَنْ محبوبنا) [فرح خليل، 1999: 220-222]:

عَدْ ما كون ذرّه ربّي جلّ وعزّه ** السّلام آلاف يرتضيك يا عزّه

إنتِ كالعـافية للعليـل واللـذّه ** عِلاّ بي قبولـه الحلـف ينْعَزّ

يا نسايم الليل ذكّرن محبوبنا

وهنا ينهض السّؤال التّالي: هل كان الخليل يحتاج إلى أن يُسافر بجسده وروحه إلى مصر كيما يتأثّر بها؟ فإذا كان المصريّون يرمزون لوطنهم باسم "عزّة"، وكان ذلك شائعاً، إذن لكان الخليل قد تأثّر بذلك قبل ثورة 1924م، وهو الذي لم يني يذكر ويُشير إلى وطنه مُكنّياً مرّة، ورامزاً إليه مرّة أخرى. إذن عدم ذكر الخليل لاسم "عزّة" إلاّ بعد 1924م ينبغي أن يُنظر إليه في سياق الثّورة ومضمار التّأثير والتّأثّر بها من قبل اللاعبين الأساسيّين فيها، والخليل من ضمنهم. فإذا كان المصريّون يستخدمون اسم "عزّة" كرمز للوطن، فنحن غير أكيدين من أنّ الخليل قد تأثّر بذلك قبل أو أثناء أو بعد الثّورة ـ إن كان قد تأثّر بها أصلاً. لكنّا، في المقابل، حسبما أوردنا من استقراء، شبه أكيدين من أنّ خروج امرأة باسم "عزّة" إلى الشّارع وقيادتها للمظاهرات كان ممّا ألمّ به الخليل وتأثّر به مثلُه في ذلك كمثل باقي أهل العاصمة المثلّثة الذين تابعوا وشاركوا في تلك الأحداث. وهكذا نرى أنّنا بين خيارين: أحدهما غير أكيد، وإن كان مرجّحاً؛ والثّاني شبه أكيد، وهو الأرجح. ثمّ إنّ الاحتمالين ليسا بنقيضين؛ إذ يجوز أن يكون الخليل قد ألمّ بما عليه المصريون من ترميزٍ للوطن باسم "عزّة"، فلم يتأثّر بذلك إلاّ بعد أن خرجت امرأة في السّودان تحمل اسم "عزّة" وهي تقود المظاهرات، فجعل من ذلك نقطة انطلاق لاستخدام اسم "عزّة" كرمزٍ للوطن مدعوماً في ذلك ببعض أثرٍ ممّا عليه المصريون. إن كان هذا كهذا، فمرتكز الرّمز إذن هو عزّة محمّد علي (زوجة علي عبد اللطيف)، وما أثرُ مصر إلاّ من حواشيه. وهكذا نرى في جميع الأحوال أنّ البحث في تلافيف الظّروف الموضوعيّة بالخرطوم التي عاش الخليل في سياقها هو الأهدى في بحثنا وتنقيبنا عن المصادر الرّمزيّة لاسم "عزّة".

لكن، وما أدراك ما لكن!

هل يا تُرى ليس هناك أيّ إفادات للذين عاصروا الخليل بشأن المصادر الجماليّة التي استند عليها الرّجل في ترفيع وإعلاء اسم "عزّة" من مجرّد اسمٍ نسائيٍّ ذي شاعريّة، إلى رمزٍ للوطن؟ هذا ما كان عليه رأيُنا إلى أن قيّض الرّحمنُ لنا يوما مباركاً ميموناً فيه التقينا الشّاعر، الباحث والسّياسي كمال الجزولي [21/3/2007]، فعنّ لنا، مثلما درجنا حينها ولا نزال مع كلّ من توسّمنا فيه عرفان العلم، أن نرفع إليه سؤالَنا بخصوص ما سمعناه من أنّ المصريّين ربّما كانوا المصادر التي استقى منها الخليل تراميزه لاسم "عزّة"، فانتفض الرّجلُ كما لو لدغته عقرب، نافياً ذلك بقولةٍ حادّة: "لا! استقى ذلك من اسم "العازّة" زوجة علي عبد اللطيف"! فنزل علينا قولُه كما لو كان صاعقة. حكى كمال الجزولي أنّه في ما بين منتصف 1973م إلى أوائل 1974م كان يُقدّم برنامجاً إذاعيّاً بإذاعة أمدرمان بعنوان "مشاوير". في إحدى تلك الحلقات المخصّصة لثورة 1924م استضاف العازّة محمّد علي (أرملة علي عبد اللطيف)، فذكرت أنّ الخليل استخدم اسمها كرمز للوطن الأم وللمرأة الوطن، وذلك جرّاء بلائها الحسن في الثّورة وفي المظاهرات، وذلك عندما اتّخذ المتظاهرون من بيتها رمزاً للوطن والثّورة ثمّ منطلقاً يوميّا لمظاهراتهم. ثمّ استضاف الشّاب كمال الجزولي، بعد ذلك في حلقة أخرى، حدباي أحمد عبد المطّلب، بوصفه صديق الخليل وراوي معظم شعره، فسأله، فيما سأله، عن جزئيّة اسم "عزّة" في شعر الخليل، فإذا بحدباي أيضاً يذهب إلى ما كانت العازّة محمّد علي قد ذكرته من قبل. إذن فقد صحصح الحقُّ وانبلج نورُه. وقد سعينا للاستوثاق من هذا في مكتبة الإذاعة الصّوتيّة، دون أن تُكلّل هذه المساعي بالنّجاح حتّى كتابة هذه الأسطر. فقد ضاعت يا سادتي هذه الأشرطة، أو أُتلفت، والله أعلم. يا خسارة!

ومسألة أن تكون هناك شخصيّة نسائيّة بعينها تقف وراء اسم "عزّة" شيء تناقلته الشّائعات إثر ترداد الخليل لهذا الاسم في أغانيه وقصائده المتأخّرة. ففي تعليقه على قصيدة (الدّاء العُضال ـ علي المك: 111] يقول علي المكّ [المرجع السّابق: 192]: "نُظمت حين بلغ الشّاعر أنّ نفراً قد اجتمعوا وتحدّثوا عن إصابته بذات الرّئة وألاّ شفاء له فيُرجى، وأنّه متيّم بحبّ حسناء اسمها ’عزّة‘ جاء ذكرها في شعره كثيراً". في هذه القصيدة يسرد الخليل تفاصيل هذه الشّائعة، ليخلص إلى أنّ "عزّة" ما هي إلاّ الوطن، مخاطباً من يروّج لهذه الشّائعة بصفة "الفاو"، أي الأخرق والعبيط. ويقول مطلعها:

قالوا صابُه الدّاء العُضالْ

ضحيّة نايـر الوِجَـنْ

ثمّ يستمرّ الخليل في التّغنّي ببلواه، منافحاً عن "عزّة" التي يتغنّى بها، فيقول:

قالوا كلّ واعياه النّضالْ

وانتهك لقـواه الشّـجنْ

أصلُه تايِهْ ومن يومو ضالْ

في خيالو طيور بِلْهَجَنْ

***

قالوا هام في الغادة ام حجالْ

عزّة ذات التّيه والعَجَنْ

نافره مِنّو وضاق بو المجالْ

وين يِقَبِّـلْ دهْ ليلو جَنْ

***

قالوا والقال أعيا المقالْ

وقد تصدّى لِجَـرّ المِحَـنْ

ظلّ ينهش دون انتقالْ

في الأواخر فضّى الصّحنْ

***

لو تفكِّـر يا ذا الفِضالْ

أو تُصيب بعض الفِطَـنْ

هُوْ ما تايه ومن يومو ضالْ

وعزّة يا فاوْ هِي الوطنْ

ولنلاحظ هنا تفريقه بين عزّتين: الأولى "عزّة" الأنثى (الغادة أم حجال، ذات التّيه والعجن، أي الدّلال)، ثمّ "عزّة" الرّمز والوطن. وفي هذا يؤكّد أنّه ليس تائهاً ضلّيلاً (كحال الشّعراء العذريّين قديماً)، بل هو عاشق للوطن، وهذا ممّا يحتاج إلى الفطانة للتّفريق بين العزّتين. ومع هذا فكثيراً ما تتداخل العزّتين وتتماهيان في بعضهما، فانظر في ذلك وتأمّل.

بالرّجوع إلى حركة اللواء الأبيض وما قامت به في ثورة 1924م، وجب القول بأنّها كانت حدثاً غير مسبوق في تاريخ السّودان، وذلك من عدّة وجوه. أوّلها أنّها كانت أوّل عملٍ وطنيّ منظّم ضدّ الاستعمار بعد هزيمة الدّولة المهديّة وذلك في ظلّ مهادنة عامّة من باقي القوى التّقليديّة؛ وثانيها أنّها كانت أوّل حركة لتنظيم وطني تقوم به الطّبقة الحديثة التي أفرزتها أعلى مؤسّسات الدّولة والتّعليم النّظامي حينها، وهي إذّاك لم يكن قد مضى على تشكّلها أكثر من عقدين؛ ثالثها أنّها كانت تدشيناً لمشروع الحداثة في بعده الوطني والقومي، وذلك بالنّظر إلى الإثنيّات السّودانيّة بوصفها شعباً ذا حقّ أصيل في الحياة كأمّة مستقلّة؛ رابعاً، قامت الحركة بتدشين تكتيكات في العمل الثّوري قابلة لأن تُحتذى حتّى يومنا الرّاهن، وربّما لم تبلغ شأوها القوى التي جاءت بعدها إلى اليوم؛ خامساً، دشّنت حركة اللواء الأبيض مشاركة النّساء في العمل العام من تجهيز للبيانات وتستّر على المنشورات ثمّ المشاركة في المظاهرات، بوصف كلّ ذلك فعلاً حداثويّاً يكسر القيود المفروضة على المرأة حينها وهي التي كان قد حُجر عليها؛ سادساً، وهو الأهمّ، كانت حركة اللواء الأبيض ثمّ ثورة 1924م أهمّ عمل رادته المجموعات السّودانيّة التي انحدر أغلبها من مؤسّسة الرّق، والتي كان من المفترض فيها أن تقبع في أدنى سلّم المجتمع قانعة راضية، وهي ذات الأسباب التي جعلت المستعمر البريطاني ينظر إليها على أنّها مدينة له بالحريّة والكرامة، الأمر الذي لم يكن يتوقّع منها أن تقود حركة التّحرّر الوطني. ومنذ تلك اللحظة سيقوم المستعمر باتّباع سياسة إقصائيّة لهذه المجموعات السّودانيّة، حتّى انتهى بها الأمر إلى درجة من الإزراء كادت أن تعود بهم إلى حالات العبوديّة لولا شدّة مراسها إذ قاومت ذلك ولا تزال. ومنذ ذلك التّاريخ لم يُعهد لها بلعب أيّ دور أساسي إلى أن أطلّ عهد الحركة الشّعبيّة وقائدها الفذّ الشّهيد جون قرنق [لمزيد من التّفاصيل حول كلّ ذلك يراجع: جلال هاشم، السّودان على مفترق الطّرق].

وتحكي العازّة (عزّة) محمّد عبدالله (أرملة علي عبد اللطيف) في الإفادات الشّفاهيّة لثوّار 1924م [الكتاب الثّاني: الجزء الثّاني: 375] كيف طلب الإنكليز من علي عبد اللطيف التّخلّي عن مواقفه السّياسيّة الوطنيّة، مذكّرينه بما ظنّوه أفضالاً لهم عليه وعلى بني جلدته من الذين انحدروا من مؤسّسة الرّق، فامتنع في إباءّ وشمم: "قال ليهم: ’لا! ما ممكن، السّودان ده وطني، وانا تراب السّودان‘؛ ’نحن ربّيناكم فيه ولبّسناكم‘؛ قال ليهم: ’خلّيني أقعد عريان في وطني، أكون جيعان في وطني لمّن أموت". ويُجسّد هذا قول عبيد عبد النّور، مؤلّف نشيد الثّورة (يا ام ضفاير قودي الرّسن)، على لسان المستعمر [حسن نجيلة، 1965: 220]:

نحن أهل الشّرف التّليد

وانتو نوبة وعيلة عبيد

البخالف راينا السّديد

أمانة يشبع غلبة ويزيد

كلّ هذا من شأنه أن يرفع أحداث 1924م من مصافّ "الأحداث" إلى مصافّ "الثّورات". هناك بعض الباحثين الذين ذهبوا إلى غير ذلك في رؤيتهم لتلك الثّورة، منهم، مثلاً، أستاذنا عبد الوهاب أحمد عبد الرّحمن [1992: 11-84] إذ يُطلق على ما جرى في 1924م مصطلح "أحداث" أو "حوادث"، ليخلص إلى أنّها لم تكن ثورة، كما تقاصرت عن أن تكون "انتفاضة شعبيّة"، وذلك مع كونها حلقة من حلقات النّضال الوطني وحركات التّحرّر. و هذا، في رأينا، فيه ظلم كبير لثورة حقيقيّة. ففي كتابنا ["أن يكون أو لا يكون"، مرجع سابق] نذهب إلى أنّ أثر ثورة 1924م امتدّ إلى يومنا الحاضر، وأنّ خطّة نيل الاستقلال القائمة بشقّ صفوف المستعمرين (المصري والبريطاني) لا يمكن أن يُنظر إليها بمعزل عن ثورة 1924م [أنظر تفصيل ذلك في يوشيكا كوريتا، 1997]. كما ذهبنا إلى أنّ إدخال مفهوم "الأمّة" في خطاب الوطنيّة السّودانيّة لا يمكن أن يُعزى إلاّ لعلي عبد اللطيف وثورة 1924م؛ ثمّ تدشين النّضال الوطني عبر تنظيمات حداثويّة وعلمانيّة، أي غير دينيّة، لا يمكن أن يُفهم بعمق إلاّ في إطار دراسة حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م. وقد ساقنا جميع ذلك إلى الزّعم وباطمئنان كبير بأنّ حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م تمثّلان نقطة انعطاف غير مسبوقة بالمرّة وذلك منذ تكوين دولة الفونج.

إذن بجانب الأحداث السّياسيّة والتّنظيميّة، كانت هناك العديد من الرّموز والمفاتيح القيميّة والجماليّة التي لعبت في خلفيّة مسرح ثورة 1924م، وهي الثّورة التي لم يكن الخليل ببعيدٍ عنها بل كان غارقاً في لجّتها، يدبّج لها الأغاني والأناشيد. إذن فقد كان الخليل نفسه محرّكاً ومُشَغِّلاً لأحد أهمّ آليّاتها الجماليّة والأخلاقيّة. إذن فمسألة انفعاله بها ممّا لا ينبغي أن نسعى إلى توكيده، بل ما نسعى لتوكيده أنّ أثرها فيه كان أكبر ممّا يتوارد على الخاطر حسبما رشح (أكرّر: رشح) فيما أُثر عن كتاباتٍ تاريخيّة أقرب إلى كتابات النُّتَف الصّحفيّة منها إلى التّسجيل الحيّ المدعوم بالرّصد العلميّ. من ذلك بوجهٍ خاصّ خروج امرأة بسيطة إلى الشّارع وهي تقود المظاهرات التي استقبلت منزلها وقامت بإزجاء التّحيّة، تحيّة الثورة، إليها بوصفها رمزاً لزوجها الذي كان يقبع حينها في غياهب السّجون. تُرى كيف يكون انفعال الرّجل الذي غنّى للمرأة قبل ذلك بسنوات داعياً لها كيما تخرج إلى الشّارع بلا رسن أو حجل، مدشّنةً بذلك مشروع الحداثة؟

إذن فقد خرجت العازّة في المظاهرات، وكانت بذلك حسب إفادتها [الإفادات الشّفاهيّة، الكتاب الثّاني: الجزء الثّاني، مرجع سابق: 416] أوّل امرأة تشارك في المظاهرات. ومع أنّ هناك إفادات لأبطال ثورة 1924م [مثلاً إفادة الحاجّة نفيسة سرور أحمد، المرجع نفسه: 467-468] تُشير إلى بعض الحالات التي شارك فيها عدد محدود من النّساء في المظاهرات، إلاّ أنّ ذلك لا يتعارض مع ما قالته العازّة. فهي بالفعل كان أوّل امرأة تشارك لوحدها في المظاهرات التي انطلقت شرارتها عقب اعتقال أبطال الثّورة، ثمّ بعد ذلك تبعتها بعض نساء أخريات. وبذلك كانت العازّة قطعاً أوّل امرأة تُشارك في المظاهرات ذات الغرض السّياسي المدني على النّحو الذي نعرفه الآن ممّا يُؤثر عن منظّمات المجتمع المدني. ولم يكن الخليل بعيداً عن هذه الأحداث، وهو حينها، كم أشرنا،شاعر الثّورة ومغنّيها. ليس ذلك فقط، بل كان الخليل قريباً من علي عبد اللطيف، لا ببيّنّة الانتماء إلى التّنظيم والثّورة اللذين كان يقودهما علي عبد اللطيف فحسب، بل ببيّنّة حميميّة قرب الأخير من زين العابدين عبد التّام، وزين العابدين هو قريب الخليل. ثمّ فوق كلّ هذا فقد كانوا جميعهم يسكنون الخرطوم وفي نفس الحيّ، والخرطوم حينها ليست سوى حيٍّ كبير.

ولتقدير أثر خروج تلك المرأة البسيطة في المظاهرات لا نحتاج إلى قدرٍ وافر من التّمثّل والخيال. فأبسط هذه الخطوات أن نتمثّل أنفسنا في خضمّ إحدى المظاهرات التي شاركنا فيها بعنف وعنفوان، مستعديّن فيها لتقديم كلّ غالٍ ونفيس، بما في ذلك الرّوح. في هذا تحكي العازّة عن قوّة ما اعتراها من انفعال وتأثّر جرّاء المشاركة في المظاهرة [المرجع نفسه: 388]، ممّا لا يمكن أن يكون قد فات علي شخص قريب من الأحداث كالخليل:

قدرة إلهيّة .. آي! قدرة إلهيّة .. والله! بالله شوف أقول ليك، لأنّو وجدت الحاجة دي قدرة إلهيّة .. لمّن بقيت أطلع مع الأعمال دي [تعني المظاهرات] أشعر بي نفسي كأنّو مش واحدة نفر، جسمي ده زايد، وتقول جسمي أحسّ أنا ما بعرفو. قدرة إلهيّة! وأمشي .. أصلو ما مشي! مشي أصلو ... ما مشي مَرَهْ تمشيه في الأرض. فضلوا هم يكوركوا ويقولوا، وأنا معاهم.

وعندما وصل المتظاهرون إلى سجن كوبر حيث كان علي عبد اللطيف معتقلاً، طالبوا بأن يُسمح لهم برؤيته، فاعتذر عن ذلك الضّابط المصري بلباقة قبلها المتظاهرون. إلاّ أنّه ربّما سُمح له بأن يُطلّ عليهم من إحدى نوافذ السّجن دون أن يروه ـ وذلك بعكس جميع الإفادات المتعلّقة بهذه الجزئيّة. فالعازّة تحكي بوضوح عن كيف فُتح الشّباك [نفسه: 392]:

فتح الشّباك .. وبس هنا .. وعلي عبد اللطيف، وهم يكوركوا ويهلّلوا، وهو من جوّه يقول معاهم. هم قالوا في السّاعة ديك وكِتْ فُتنا، هو غِمِر، داخ. شافهم قال ليهم: ’عازّة معاكم؟ سبحان الله!‘. والله أنا ما وعيت بي نفسي! والله أنا ما وعيت بي نفسي! والله أنا ما واعية بي نفسي في الحالة دي! قلت ليهم: ’علي عبد اللطيف كان مات، ليهو حقّ. أنا المَرَهْ، أنا ما وعيت بي نفسي‘. جينا راجعين تاني من كوبر بي كرعينّا، لمّن جينا بقَى تحت الكوبري، لقينا الجيش الإنكليزي؛ واحد هنا، وواحد هناك، وواحد هناك.

ولكن بساطة الموقف لا تلغي عمقه؛ فلتكوين صورة مقرّبة لما قامت به العازّة محمّد علي نحتاج إلى قدرٍ كبير من العاطفة والشّفافيّة والخيال. بقدر ما يحتاج الواحد منّا إلى أن يضع نفسه في مكان العازّة، يحتاج كلٌّ منّا أيضاً إلى أن يضع نفسه في مكان علي عبد اللطيف، وقد زُجّ به في السّجن، ثمّ خرج النّاس في المظاهرات تنديداً وتحريضاً، فإذا بزوجته التي لم يكن لها من قبل علاقة بكلّ ذلك تخرج في المظاهرات، بل وتقودها. يا سادتي خروج المرأة في المظاهرات حينها، وربّما لا يزال، يعني بالنّسبة إلى المرأة التّقليديّة شيئاً أقرب إلى "البهدلة"، ذلك لأنّه شيء يتناقض كلّيّاً مع مفاهيم الأنوثة. إذ ليس من الواقعيّة أن ننتظر من المرأة المتظاهرة أن تحافظ على مخايل الأنوثة من نظراتٍ والتفاتاتٍ أو أن تمشي فيها كما يمشي الوجي الوحِلُ. ولهذا تُشير العازّة إلى أنّ مشيتها في المظاهرات لم تكن ممّا تمشيه امرأة. ولعلّ هذا ما جعل الكثيرين يظنّون أنّ بالعازّة مسّاً من الجنون وأنّها فقدت عقلها عندما زُجّ بزوجها في السّجن، وذلك عندما شرعت تشارك في المظاهرات اليوم تلو الآخر. فذلك ممّا يصعب على المرء أن يتوقّعه من امرأة في ذلك الزّمان وفي ذلك المكان. حتّى علي عبد اللطيف، والذي ذكرت عنه زوجته تمتّعه بقدرة كبيرة في التّخاطر والجلاء البصري [نفسه: 405-407]، لم يتصوّر خروج العازّة في المظاهرات، فقال مشدوهاً: "عازّة معاكم؟ سبحان الله!".

والسّؤال هو: كيف يمكن لإنسان شفيف الأحاسيس كالخليل ألاّ ينفعل بهذا المشهد، دع عنك أن يكون هو نفسه من رموز تلك الحركة التي خرجت تلك المرأة البسيطة إلى الشّارع في عفويّة، منعتقةً من كلّ قيود الأنوثة المكبّلة؟ وإلاّ ففيم كان نشيد الثّورة (يا ام ضفاير قودي الرّسن). هذا الأغنية كانت من "... في مقدّمة أغاني الثّورة ذيوعاً وانتشاراً، وزاد من ذيوعها وانتشارها أنذ طلبة الحربيّة [كانوا] يتغنّون بها في حماس بالغ في وهم يشقّون شوارع العاصمة والجماهير تُحيط بهم تبادلهم الشّعور وتشاركهم التّرنّم. [والأغنية قام بتأليفها] عبيد عبد النّور ... في مستهلّ حوادث 24 عندما كان مدرّساً بمدرسة أم درمان الابتدائيّة ... إنّه يهتف في مطلعها بالفتاة السّودانيّة (أم ضفاير) أن تقود الثّورة مع أخيها وأن تهتف معه يحيا الوطن" [حسن نجيلة، 1965: 217]. وتقول بعض أبياتها:

يا ام ضفاير قودي الرّسـن

واهتـفي فليحـيا الوطـن

أصلو موتاً فـوق الرّقـاب

كان رصاص أو كان بالحراب

البِـدور عنـد الله الثّـواب

اليضَحّي ويـاخُد الثّـواب

يالشّبـاب النّاهض صباح

ودّع اهلك وامشي الكفـاح

قوّي زِندك وفوت بارتياح

فوق ضريحك تبكي الملاح

إذن فمسألة مشاركة المرأة في تلك الثّورة، ينبغي النّظر إليها باعتبارها حجر الرّحى بالنّسبة لأشواق الثّوار. ومثل هذه الأبيات أعلاه إمّا أنّها جاءت ترجماناً لتلك الأشواق، أو أثارت قريحتها المشاركة الفعليّة للمرأة ممثّلة في الدّور الرّائد الذي لعبته العازّة زوجة علي عبد اللطيف. وكيفما كان الأمر، إنْ هذا أو هذا، ما كان لخروج العازّة في مقدّمة المظاهرات أن يمرّ على القوم الثّائرين هكذا مرور الكرام. وفي رأينا أنّ الأبيات التّالية من أغنية (عزّة في هواك ـ علي المك: 185-186) تكون أشدّ وقعاً وأقوى أثراً إذا ما قُرئت في سياق كلامنا أعلاه:

عزّة ما اشتهـت نوم الحجـال

ولا السّوار بكى وفي يمينا جال

وعزّة في الفريق للضيق مجال

قبيلة بت قبيل ملا الكون رجال

***

عزّة شفتِ كيف نهضوا العيال

جدّدوا القديـم تركـوا الخيـال

روحك ام سماح سرى كالسيال

شجوا الفؤاد أحيوا محسور الليال

هكذا نرى كيف ناضلت تلك المرأة البسيطة التي وجدت نفسها دون أن تدري تصارع أنواء السّياسة وسط بحر متلاطم الأمواج لإمبراطوريّة تعيش خريف العمر. خرجت العازّة في المظاهرات وهي لا تعرف حتّى اسمها، إذ تارّةً تسمّيها الأعمال، وتارّةً تسمّي الهتافات بالكواريك (أي الصّراخ). خرجت العازّة وحدها إلى عُفار المظاهرات وغبارها ممّا نعرفه جيّداً الآن، بينما المرأة حينها يجري عليها حكم الجواري الخُنّس، نؤوماتِ الضّحى، لا هَمّ لهنّ غير الحِنّاء والدّلكة والدّخان و"الكبرتة". وكأنّي بالخليل قد عنى هذا عندما خاطبها في أغنية (فلق الصّباح) قائلاً:

عزّة قومي كفاك نومِكْ ** وكفانا دلال يومِكْ

إنـتِ يا الكبـرتـوكْ ** البنـات فاتـوكْ

في القطار الطّارْ

خليل فرح: النّوبيّ الذي ضاع منّا

الخليل والتّعدّديّة اللغويّة

كان الخليل يجيد اللغتين النّوبيّتين، المحسيّة والدنقلاويّة إجادة تامة. أمّا معرفته باللغة المحسيّة (أو النّوبين Nobíin) فممّا لا شكّ فيه؛ أمّا أن يكون ملمّاً بالنّوبيّة الدّنقلاويّة فممّا يحتاج إلى بيّنات وأدلّة. من النّادر أن تجد مغنّياً نوبيّاً من جيل الرّواد لا يعرف الدّنقلاويّة؛ فأغلب غناء السّكوت قديماً كان بالدّنقلاويّة. وهذا ممّا يحتاج إلى مزيدٍ من الدّراسة والتّمحيص، وهو أمر لا مجال للخوض فيه هنا، لكن يمكن للقرّاء أن يراجعوا الباب الخاصّ بالغناء عند السّكوت في سيد مُسُل [1974]، وكذلك آرتور سايمون [1980]. على هذا ما كان يمكن لشاعرٍ ومغنٍّ مطبوع كالخليل ألاّ ينهل من المعين الإبداعي الذي كانت تتيحه اللغة الدّنقلاويّة. الشّيئ الآخر الذي ننوّه له أن الخليل كان دنقلاويّاً في بعض نشأته وفي علاقات أسرته بمنطقة دنقلا واستقرارهم بها منذ منتصف القرن التّاسع عشر (بجزيرة مقاصر حيث يوجد بها فرع من آل بدري). ثمّ هناك أخواله لأمّه من آل بِرْكِيّة بحفير مشّو. لكلّ هذا كان من الطّبيعي للخليل أن يكون ناطقاً بالنّوبيّة الدّنقلاويّة ومجيداً لها كإجادته للنّوبين.

وكنتُ جمعت إبّان عملي بالمسح اللغوي لمنطقة المحس من الإفادات الشّفاهيّة ما يدلّل على صدق هذا. فقد ذكر لي العمدة الزّبير حمد الملك بمنزله في دِبَلا، أرقو، عام 2001م أنّ والده اصطحبه معه، وهو آنذاك ابن ستّ سنوات تزيد أو تنقص قليلاً، إلى القاهرة عام 1928م لمرض مستفحل في العيون كان قد أُصيب به. هناك نزلوا في منزل رجل يُدعى فرح هندي، فوجدوا عنده الخليل. ويذكر عن فرح هندي هذا أنّه كان صديقاً مقرّباً من الخليل، وهو أصلاً من جزيرة آرتي قاشا بدنقلا، مع علاقات قرابة قويّة بأهل نُلْوَا بالسّكّوت وعقولة بالمحس. وقد توفّي ودفن بآرتي قاشا في الثّمّانينات بعد أن بلغ من العمر عتيّا. في منزل فرح هندي استقرّ المقام بالعمدة الكبير وابنه الصّبي، حيث تُرك الأخير بإحدى الغرف وانغمس الجميع في القصف واللهو والخليل يغنّي لهم. مع تقدّم الليل ازدادت وطأة المرض على الغلام، ولا أحد يعبأ به، فأجهش في البكاء الذي بدأ مكتوماً ثمّ ارتفع أنيناً خافتاً ولكن بصوت حاد. عندها سمعه أبوه، فانتهره مهدّداً، فغالب الصّبي نحيبه، ومسح دموعه. بعد قليل لم يشعر الغلام إلاّ بالخليل يقف فوق فراشه مستفسراً ومطيّباً لخاطره. ثمّ جلس الخليل على حافة الفراش وشرع يهدهد الصّبي مغنّياً له بالدّنقلاويّة التي لم يكن الصّبي يفهم غيرها. استمرّ الخليل على ذلك النّحو حتّى نام الطّفل، رافضاً دعوة رفاق الأنس لترك الصّبي في حاله "ياكُل نأُورو". ماهي طبيعة تلك الأغاني يا ترى؟ قال العمدة الزّبير حمد الملك بأنّها كانت أغاني اللولاي المعروفة، بالإضافة إلى الأناشيد الملكيّة الخاصّة بمملكة أرقو، والتي شرع الخليل يعدّل في كلماتها، مدخلاً لاسم الصّبي وحالة مرضه وكيف أنّه سيبلى ويشفى عمّا قريب، وكيف أنّه (أي الصّبي) سيكون شجاعاً فيتحمّل وطأة المرض ... إلخ.

أمّا إذا جئنا إلى لغة النّوبين، فالأمر مختلف تماماً، وذلك لأنّ الخليل بدأ الكلام بها، فهي لغة الأمّ بالنّسبة له. فضلاً عن ذلك فهذه هي اللغة التي بدأ بها الخليل إبداعه الشّعري والغنائي. لكن السّؤال هو: أين ذهب ذلك الشّعر والغناء؟ بكل أسف ضاع إلاّ شطرتين أو ثلاث أو أربع يتناقلها النّاس هنا وهناك. من ذلك الأبيات التي قالها في إحدى بنات أهله الوردياب وتُدعى "سكينة". ونلاحظ هنا التزامه بأخلاق المجتمع المحلي، فهو لا يتغنّى إلاّ ببنات عشيرته وأسرته بحيث لا يسبّب له ذلك أي مشاكل، أي من قبيل (زيتنا في بيتنا). ولا يزال يتغالط النّاس من هي سكينة التي تغنّى بها الخليل: سكينة عبدالله أم سكينة صافي؟ ولكن ربّما تغنّى بكليهما، أم تراه اتّخذ اسم "سكينة" رمزاً للمرأة النّوبيّة. في رواية سعيد عثمان بدري (ابن عم خليل) للهادي حسن أحمد هاشم (تسجيل 1974م) ترد الأولى على أنّها المعنيّة بالقصيدة؛ هذا بينما هناك روايات أخرى بين الوردياب من آل أبراس تُشير إلى أنّ الثّانية هي المعنيّة بالقصيدة.

يقول الخليل في مطلع الشّطرتين:

Enna dum woo Sakiina deel inga

Sokka dum woo Sakiina deel inga

Samin gasko tollin deel inga

Iboon gurra hoon uru`l ollinani

بمعني:

فلتمسكي بأزيال ثوبك يا سكينة،

ولترفعي أزيال ثوبك يا سكينة،

ولتُجرجري أزيالَكِ وأنت بوسط الفِناء،

[ولترفعيه] كيلا تعلق به الأوساخُ [لدى عبورك] أراضي أبيك

وذكر سعيد عثمان بدري (ابن عم الخليل) للهادي حسن هاشم في مقابلة عام 1973م أنّه أنشد هذه القصيدة كاملة في لقاءٍ إذاعي عن الخليل بُثّ عام 1961م. وسعيد وشقيقه حسن وُلدا في أمدرمان ولم يزورا جزيرة صاي البتّة؛ ومع ذلك كانا يتحدّثان النّوبيّة بطلاقة من شبّ عليها. في هذا قال سعيد للهادي عندما استغرب الأخير طلاقة نوبيّته: "لم لا وجميع من بالبيت كان يتكلّم النّوبيّة دون العربيّة".

ما أحلى الغزل

ولنا وقفة في مسألة تغزّل الخليل ببنات أهله، ممّا أسماه بنفسه مجوناً (يا سعادتي وثروتي ومَجَنِي)، من باب التّجاوز. فقد كان الخليل رجلاً عفيفاً، ملتزماً بأخلاق مجتمعه. وفي ظنّنا أن ذلك التّغزّل كان يجيئ على مستويين: الأوّل من قبيل المداعبة لنساءٍ لا يمكن أن يُتّهم بهنّ الشّاعر، وذلك لأواصر القربى الشّديدة التي تضعهنّ في مقام الأخوات؛ أمّا المستوى الثّاني فهو من باب التّوسّل للإلهام بتوضيعه في شخصيّات متعيّنة. ومما يجدر ذكره أنّ الخليل اتّبع هذا الأسلوب في الخرطوم، كان ذلك في أغانيه أو في الاستشهاد بأغاني غيره. من ذلك تغزّله وترنّمه بأغنية "زاهي فرعك" [علي المك: 149]، وهي القصيدة التي ألّفها في زواج صديقه أحمد عبد السّلام [المرجع السّابق: 198]. ويقول مطلعها:

زاهي فرعك نما وسما

تشبهي القمرة في السّما

ونلمس فيها العديد من أوجه الغزل الصّريح مثل:

يا نسيم أمشي سالما

بي لُطُفْ شيشة حلِّما

بالعَلَيْ أبقى كلِّما

وهاك رويحتي سلِّما

***

شوف وريدا وسوالفا

شوف صديرا المُزالفا

شوف ضميرا المُوالفا

من كِفيلا المِخالفا

***

غصنُ بانٍ إذا مشى

لعِب الرّدفُ بالحشا

وإذا مال واختشى

فضح الغصنَ والرّشا

ثمّ يقول بعد كلّ هذا في خاتمتها:

إنت يا برُ يا سلام للجميع أكتِبْ سلام

واحفظُم في صلا وسلام متّع أحمد عبد السّلام

وأحمد هذا أصلاً من السّكّوت من قرية إرَوْ جنوبي عبري [رواية ابنه محمّد عثمان]، وقد وُلد بها عام 1886م، ثمّ قدم إلى حلفا للدّراسة في خلوة جدّه بأمّه محمّد نور، ومنها قدم إلى الخرطوم عام 1899م. وكان الخليل قد التقى به في حلفا، واختلف معه إلى خلوة محمّد نور لزمنٍ قصير ريثما غادرها إلى دنقلا مع عمّه لمواصلة تعليمه هناك حيث درس الكتّاب، ومنها قدم إلى الخرطوم عام 1908م للدّراسة في كلّيّة غردون. واسمه بالكامل: أحمد عبد السّلام مصطفى أحمد محمّد ترْيَل. واسم تريل هذا كان لأحد ضبّاط محمّد علي باشا، فدرج جنوده على إطلاق الاسم على أبنائهم من حبّهم له؛ ولهذا يُشير الخليل إلى أحمد عبد السّلام بالتّركي. ووالدة أحمد عبد السّلام هي زهرة محمّد نور، وأمّها فاطمة بنت حفصة بنت كيخا؛ وكيخا أصله من إرَوْ، وقد ذهب إلى حلفا للتّجارة، وهناك تزوّج عبد السّلام مصطفى من ابنته، وكان ذلك حوالي 1885م، فولد منها أحمد وعبده وعيشة (عائشة). وكان السّيّد عبدالله المحجوب (عمّ السّيّد علي الميرغني) السّبب في قدوم الشّيخ محمّد نور إلى حلفا من أُورو، إذ استدعاه لتعليم ابنه إبراهيم علوم الدّين. وإبراهيم هذا مات ودُفن بحلفا، ثمّ نُقلت رفاته لدى غرق حلفا [راجع قصّة ذلك في حسن دفع الله، 1975]. أمّا زوجة أحمد عبد السّلام التي قيلت فيها تلك القصيدة العامرة بالغزل، فاسمها "ملكة" وكانت صاعقة الجمال؛ واسمها بالكامل: ملكة حسن داؤود عيسى، وهي شلاّليّة من الكنوز ببحري، وخالُها أحمد محمّد إمام المشهور باسم "إمام"، وكان يسكن قريباً من منزل آل أحمد عبد السّلام. وفي زواج إمام نفسه عام 1923م بالخرطوم بحري أنشد الخليل قصيدة (الشّرق لاح نوره) [علي المك: 114-116]، وفيها أشار إلى كثرة أنوار الرّتاين المصاحبة لزفّة العريس، ويقول في مطلعها:

الشّرق لاح نوره وازدان

سرّ قلب القاصي والدّان

ويقول في مقطع منها:

حفلة زي الرّوضة ماهله

كلّها عيـون كاحـله

يا إلهي عقولنا ذاهله

سيرة أم دي سفينة راحله

ونُشير إلى أنّ الشّطرة الأخيرة ترد في تحقيق علي المك [المرجع السّابق] بقراءة مختلفة:

سيرة أم دي جنينة راحله

كما ترد بنفس القراءة في تحقيق فرح خليل [1999: 216]، ولكنّا نرجّح القراءة التي أثبتناها ("سفينة" دون "جنينة") وهي المأثورة عند أسرتي أحمد إمام وأحمد عبد السّلام. ولا نرى وجهاً للشّبه في جملة "جنينة راحله" في معنى الإشارة إلى "سيرة" عريس زُفّ ليلاً على أضواء الرّتاين الباهرة، وربّما أوقعهم في هذا التّصحيف بدء المقطع بتشبيه الحفلة بالرّوضة، والله أعلم. وهذا يعكس كيف أنّ ما تركه لنا جيل الرّوّاد من أمثال علي المك، فرح خليل فرح وبدري كاشف وآخرين قد يحتاج إلى مزيدٍ من الجهد والعمل المتواصل في سبيل الإحاطة بأدب الخليل، إن كان إلى الإحاطة من سبيل.

ولننظر هنا إلى هذا الغزل الذي أتى به الخليل في قصيدته لأحمد عبد السّلام؛ فالخليل كأنّما يتغزّل في محبوبته لا في عروس صديقه الخلوص. فملكة هذه امرأة نوبيّة من الخرطوم بحري من شلالّيّة الكنوز وزوجها من كيخياب قرية أُورو بالسّكّوت، وكان الخليل صديقاً لأسرتها، ثمّ صديقاً خلوصاً لزوجها. وما كان الخليل يقضي يوماً بالخرطوم بحري إلاّ وتجده في منزل صديقه هذا. وقد أُثرت عنه مداعبته لها دائماً بأبياتٍ من الشّعر إمّا قالها هو فيها أو قالها شاعر آخر وذلك في حضور زوجها وأهلها. إذن فتغزّله هذا ليس ممّا يمكن أن يُتّهم فيه. وفي الحقيقة جاء تغزّل الخليل هذا بوصفه إذناً عامّاً للشّعراء كيما يستلهموا الشّعر من جمال هذه الملكة غير المتوّجة. وهكذا لم يمضِ غير زمن وجيز حتّى شرع باقي الشّعراء في تدبيج القصائد الجياد في هذه الملكة. في ذلك أنظر قول بطران [رواية ابنها محمّد عثمان أحمد عبد السّلام]:

ملكة جيلها حاكمـة عنانا بي سيف الرّمش طاعنانا

ولنلاحظ هذا الاستقواء بما أتى به الخليل. فمصطفى بطران ينتمي إلى أُورومة النّوبيّين ممّن ألقوا بعصا ترحالهم بالخرطوم وأمدرمان وبحري، ويقول عنه مبارك المغربي [2002: 309] "... محسي الأصل من جزيرة سكّوت"، وهذا قولٌ لا نعرف له وجهاً، فالوارد لدينا أنّه محسي من جزيرة بدين، وليس من سكّوت، فضلاً عن عدم وجود جزيرة باسم "سكّوت"، فهي منطقة وليس مكاناً بعينه، والأمر يحتاج إلى تحقّق. لكن الثّابت أنّ مصطفى بطران كان ينتمي إلى الأُورومة النّوبيّة البحراويّة، الأمر الذي يجعله أكثر قرباً من أهيل الملكة التي تغنّوا بها. هذا الاستقواء الإبداعي أخذ به مصطفى بطران في التّغنّي بملكة جيلها، فكان أن التقط القفاز منه أيضاً سيّد عبد العزيز، والذي لم يكن نوبيّاً، فقال:

ملكة الكامل جمالِك شلتِ النّوم من عيني مالِك

ويذهب بعضُ العارفين ببواطن أغاني الحقيبة إلى أنّ سيّد عبد العزيز قالها في امرأة من الخرطوم، ولكن الحقيقة أنّه قال هذه الأبيات في ذات الملكة غير المتوّجة، ولكن في مناسبة بالخرطوم. وقد تحقّقنا من كلّ ذلك من ابنها محمّد عثمان أحمد عبد السّلام ـ وكلاهما اسمّان مركّبان، وعاشت الأسماء. بعد زواجه، رُزق محمّد عثمان بابنته الكبرى، فأسماها على والدته الفضلى، فكان أن أصبح لدينا ملكة أخرى، فأنعم وبارك فيهم جميعاً.

هل فعلاً ضاعت أغاني الخليل النّوبيّة؟

بصدور ديوان الخليل عام 1977م، تساءل أحد قرّاء الصّحف عن مصير قضائد الخليل باللغة النّوبيّة [عبدالله علي إبراهيم، 1984: 46]. فقد أُثر عن الخليل غناؤه باللغة النّوبيّة، كما نجد أنّه حتّى في أمدرمان مع أصدقائه، كثيراً ما كان يترنّم بأغاني نوبيّة دون أن يتمكّنوا من فهمها. فقد ذكر صديقه وراوي شعره وغنائه حدباي في تسجيلاته للهادي حسن أحمد هاشم في مطلع السّبعينات، أنّ الخليل كان يغنّي لهم أغانيه النّوبيّة، فيطربهم اللحن دون فهم القصائد. ويؤكّد هذا ما قاله مبارك المغربي [2002: 85 ـ 86]: "والجدير بالذّكر أنّ للخليل أغنيات نظمها برطانة المحس وغناها بالرّبابة وكان لها صيت بعيد". وكان حدباي يحفظ ألحان بعض هذه الأغاني، فسجّل بصوته موسيقاها. فماذا يا ترى كانت كلمات تلك الأغاني؟ في عام 1989م قام كاتب هذه السّطور مع الهادي حسن أحمد هاشم ومكي علي إدريس ومحمّد مختار عبدون برحلة ميدانيّة شملت حلفا القديمة والسّكّوت وبعض أجزاء من المحس. في جزيرة سَرْقِد بمواجهة قرية مُقرَكّي شمال عبري أجرى الهادي حسن هاشم مقابلة مع واحد من أفراد من أسرة أحد أشهر المغنّين بالمنطقة، ألا وهو حسن خيري، وكان قدّ تُوفّي إلى رحمة مولاه قبل ذلك بقليل بعد أن طعن في السّن. ممّا يعرف عن حسن خيري أنّه ينتمي إلى أسرة ذات إرث وثقافة غنائيّة ضاربة في القدم؛ فأبوه وجدّه لأبيه وجدّ جدّه لأبيه كانوا من المغنّين. يومها كان الافتراض أنّ مثل هذه الثّقافة الغنائيّة المرتبطة بالأسرة ربّما كانت من مخلّفات العهد المسيحي من قبيل قيام أسرة معيّنة بأعباء جوقة الإنشاد، ومُقْركّي تعتبر من المراكز الدّينيّة المهمّة في العهد النّصراني، وكانت لا تزال جدران كنيستها قائمة عندما زرنا المنطقة. عندها سأل الهادي حسن هاشم أفراد أسرة المغنّي الرّاحل عن أقدم أغنية نمت إلى مسامعهم، فأنشد أحدهم (شقيق حسن خيري) الأغنية التّالية:

Woo nor uuga diinga idroojimii

Diin elmuslimiinga idroojimii

Faatnan iboon shefaal idroojimii

وترجمتها:

يا ربّي ألا فادخلنا في دينٍ ما،

ألا فادخلنا في دين المسلمين،

في شفاء أبي فاطمة، الا فادخلنا

ما استوقفني في هذه الأغنية، (أو الكلّكيّة كما سيتّضح لاحقاً)، أنّها وردت في تسجيلات سيد مُسُل بصاي [م.د.أ.أ. 1366]، تحديداً بصوت عثمان أمبي عندما طلب منه سيد مُسُل أن يذكر لهم أقدم ما ورد إلى مسامعه من غناء في الزّمن السّحيق. الملاحظ أنّ اللحن في كلا التّسجيلين كان واحداً، الأمر الذي يعكس استمراريّة تعود بنا إلى زمنٍ عتيق كما هو الحال في التّراث الشّفاهي.

بخصوص اللحن لاحظ الهادي حسن هاشم أنّه نفس اللحن الذي أسمعه له حدباي باعتبار أنّه لأغنية كثيراً ما كان الخليل يترنّم بها. ما يجعلنا نقف هنا أنّ الخليل، فيما رُوي عنه، كان منشداً مجيداً لهذا النّوع من الغناء، والذي يُطلق عليه بالنّوبيّة اسم "الكَلَّكِيّة". فهل يا تُرانا قد ظفرنا بأغنية نوبيّة كان الخليل يترنّم بها حتّى لو لم تكن من كلماته وألحانه باعتبار قدم الأغنية؟ ربّما، ويا حبّذا! وما يجدر ذكره أن ألحان أغاني "الكلّكيّة" تبدو جميعُها متشابهة ومتماثلة رغم الفروقات اللحنيّة التي قد لا يلحظُها إلاّ ذوو الدّربة الموسيقيّة. عليه، ربّما كان مردّ الشّبه إلى هذا والله أعلم. والكَلَّكِيّة (أو الكَلُّكِيّة) "... لون من الغناء عند النّوبة ..." [سيد مسل، 1974: 183]. ويظنّ البعض أن كلمة "كَلَّكِيّة" من "كَلو"، أي "الشّمال" بالنّوبيّة، وسيّد مُسُل من حملة هذا الرّأي، إذ يقول عنها: "... وترجمتها الحرفيّة هي (أغنية الشّمال)، ولا يعرف سبب واضح أدّى إلى تسميتها بهذا الاسم. [المرجع السّابق]. وهذا ربّما كان خطأً، فهي فيما أفادني به سيبويه اللغة النّوبيّة، الهادي حسن أحمد هاشم، تعني شيئاً أقرب إلى "الجرّاري". ويتميّز هذا النّوع من الغناء بأنّه يُنشد في مجالسّ الخمر مدحاً وهجاءً وممازحةً بين ندامى الكأس. وهذا ضربٌ من الحياة كان للخليل فيه باع طويل.

ونستطرد مع سيد مسل [المرجع نفسه] في وصف الكّلّكيّة: "... وهذا اللون يعتبر من أعرق وأعذب أنواع الغناء وأغناها بالمادّة، فهو يشمل المدح والهجاء، ويصوّر الحياة في البلد بما فيها من بؤس وشقاء ... هذا اللون من الغناء يمارس باللغة النّوبيّة الخالصّة [طبعاً يقصد النّوبين فقط هنا]، ولم تدخله كلمات كثيرة من لغة الدّناقلّة [على نوبيتها، وهذا ممّا يحتاج إلى تأمّل] واللغة العربيّة كما وجدنا في غناء الغزل. فقد كانت الكلّكيّة غناءً محليّاً معروفاً منذ أقدم الأزمان ممّا جعلها غناءً مصقولاً خالياً من الرّكاكة والسّطحيّة ...".

من المقاطع الشّعريّة والغنائيّة التي رُويت عن الخليل، ما قاله لي محمود صالح إبراهيم روايةً عن شخص من قبّة سليم يدعى فرح كان صديقاً مقرّباً لخليل فرح (هل هو فرح هندي؟ ربّما). حكى فرح هذا لمحمود صالح في أوائل السّبعينات أنّه زار صاي في زواج الخليل وسافر معه بعدها إلى وادي حلفا. من الأبيات التي رواها بالعربيّة العاميّة قوله:

البنات في مشرع عبدون يوم فراقِن دمّاعي عوم

كُر خشمِك ما بجيب لوم نبكي ونتّاي على اللوم

يبقى مالاً كان يبقى كوم إنتِ كومين والبنات كوم

أمّا من الشّعر النّوبي، فقد روى عن الخليل قوله:

Kalla shiira jer gasko

Agashla esmariin kojja

ثمّ روى عنه من إنشاده بالكلّكيّة إشارةً لشخصيّن من أصحاب الجمال كانا يرافقانهم واسمهما رفاعة وفرح:

Rufaaya Haseen toon kamillogo

Fareh wed Hiseen toon kamillogo

ورواية محمود صالح، نقلاً عن المدعو فرح، على بالغ أهمّيّتها، تعوزها الدّقّة في عدّة أشياء نعلم من أمرها الكثير الآن. فمثلاً إشارته إلى أنّ القائم بأمر المشرع كان شخص اسمه عبدون زهرة، أي عبدون هاشم، يمكن أن نأخذ به بالرّغم من أنّ الأمر لم يُحسم نهائيّاً إلاّ بعد معركة سوكري وأمبي حول أمر المعدّيّة بعيد عام 1925م، وزواج الخليل تمّ في عام 1923م، وذلك حسبما سيرد أدناه لدى الحديث عن الصّراع بين سوكري وأمبي في الفصل السّادس. فالمعديّة أصلاً كانت عند آل هاشم قبل الصّراع وكان عليها عبدون ثمّ أخذها عنه ابنه فرح بعد أن استتبّ الأمر لآل هاشم فيما بعد. وممّا لا يمكن قبوله الإشارة إلى أنّ المجموعة المصاحبة للخليل توقّفوا بقريّة عمارة عند بابّا ييّا أخت الخليل، ونحن نعلم أنّ عمرها آنذاك لم يكن قد تجاوز السّادسة بأي حال من الأحوال. وقد تمّ زواجها واستقرارها بقريّة عمارة بعد وفاة الخليل. السّبب الثّاني المناقض للأوّل هو التّدقيق فيما لا ينبغي من تفاصيل لا تؤثّر في القصّة، وعادةً ما ينتهي الأمر بالرّواة إلى نسيانها. من ذلك الإشارة إلى أنّ المرأة التي قال فيها خليل فرح تلك الأبيات هي سكينة عبدالله، وذلك عندما كانت بصحبة ابنها الصّبي محمّد (راويتنا محمّد عبّاس مصطفى، أي شيخ البلد فيما بعد). فجانباً عن أنّ مثل هذه التّفاصيل ممّا لا ينبغي أن يعلق بذاكرة رجل غريب عن صاي جاءها عابراً، نُشير إلى أنّ محمّد عبّاس كان حينها في مصر، إذ وصل إليها عام 1920م بمعيّة أخته الكبرى غير الشّقيقة "قبدة" للاستطباب، ليعود منها الأب في نفس السّنة بمعيّة "قبدة" دون الابن، والذي لم يعد منها إلاّ بعد سنوات طويلة. ثمّ الإشارة إلى أنّ المسئول عن المعدّيّة كان شخصاً اسمه عبدون، إذ ما هي أهمّيّة هذه المعلومة بالنّسبة لرجلٍ عابر، فضلاً عن أنّ ورودها في متن الأبيات قد أحدث خللاً في القافية لا يخفى؛ فكأنّها أٌُقحمت إقحاماً. فلو أنّه قال (البنات في مشرع أبدوم) لكان ذلك أقوم قيلاً لصدر البيت وقافيته. ولكن هذا لا ينفي أهمّيّة المعلومة في عموميّاتها لا في تفصيلاتها، والتي يبدو أن الخطوط الفاصلة بين الرّاوية المباشر لنا (محمود صالح إبراهيم) والرّاوية غير المباشر (المدعو فرح) لا تبدو واضحة. فعسى أن يدفع هذا بنا لمزيد من العمل الحقلي لجمع كلّ صغيرة وكبيرة ممّا تبقّى من أثرٍ للخليل باللغة النّوبيّة.

إذن فقد ضاع منّا الخليل النّوبي وضاعت أغانيه باللغة النّوبيّة. وهنا يوجد تناقض له صلة بالحراك الثّقافي ـ نوبيّاً وعربيّاً ـ لدى النّوبيّين. فخليل لم يغنّ أغانيه العربيّة لعامّة النّاس بأمدرمان. فوقتئذٍ كان الغناء عيبًا، لا يليق بأبناء القبائل أن يأتوا به (ويقصد بها القبائل ذات الأصول العربيّة أو المستعربة). إنّها ثقافة العيب والتّحريم الصّارمة التي عرفت بها الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة منذ تدشين مملكة الفونج. إلاّ أنّ الخليل تغنّى للعامّة بأغانيه النّوبيّة في جزيرة صاي. بل أكثر من ذلك تغزّل في بعض بنات صيصاب من أهله الوردياب، كما وردت الإشارة إلى ذلك. ويكمن التّناقض في أن يضيع غناء الثّقافة المتسامحة، بينما يبقى غناء الثّقافة المعاديّة للغناء. ويعكس لنا هذا الوجهة الثّقافيّة للأيديولوجيا السّائدة. فقد ضاع خليل فرح النّوبي، بينما بقي خليل فرح المستعرب، حتّى إذا اكتسبت مؤسّسة الغناء مشروعيتها الثّقافيّة فيما بعد، تمّ ترميز خليل فرح وتنصيبه شاعرًا للوطنيّة، عبر وسيط الثّقافة العربيّة. ويبقى السّؤال الأهمّ: هل من سبيلٍ إلى إحياء الخليل النّوبي؟ هذا ما سنتتطرّق له في الفصل السّابع، فليُراجع أدناه.