Thursday, June 25, 2009

السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين: المشروع الثقافي لعبدالله على إبراهيم في السودان


محمّد جلال أحمد هاشم

مقدمة

يهدف هذا المقال إلى ترسم أبعاد اتجاه جديد في قضايا الثقافة والهوية في السودان. هذا الإتجاه يقوم ـ كما نرى ـ على سودنة الإسلام والعروبة، وبالتالي رسم حدود هوية إسلاموعروبية خاصة بالسودان دونما عداه من دول أخرى ضمن المنظومة الإسلامية عامة، وتلك الناطقة بالعربية خاصة. ولهذا أطلقنا على هذا الاتجاه مصطلح "السودانوعروبية"، على أن "العروبية" تستبطن في داخلها الإسلام. إذ عندما نتحدث عن دخول العرب إلى السودان، إنما نستضمن في ذلك دخول الإسلام إلى السودان بالضرورة.

تأتي أهمية هذا الموضوع من كونه حاسماً في تحديد مسار السودان اجتماعياً، وسياسياً وحضارياً. فقد كانت إشكالية هوية السودان ـ ولا زالت ـ من حيث عروبته أو أفريقيته، هي القضية الشاغلة بصورة مباشرة للطبقة المثقفة، وبصورة أخرى غير مباشرة للقطاعات العامة للشعب السوداني. ونستطيع أن نقول بحق، إن قضية الهوية هي مأزق الفكر الاجتماعي ـ السياسي السوداني طوال عقود هذا القرن. والآن تشغل هذه القضية كافة جنبات المسرح السياسي السوداني، خاصة مع اشتداد حدة الصراع حول السلطة إلى درجة الحرب الأهلية، وضلوع الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في هذا الصراع بكل ثقلها وبشكل سافر عبر مؤسسة الدولة ومشروع أسلمتها.

فيما يختص بالبيانات والبينات مناط التحليل والاحتجاج في هذا المقال، فقد عمدنا إلى الأدبيات الخاصة بالموضوع بقدر ما وقعنا عليها، فأوردناها، مع حرصٍ، في اقتباسات موثقة، ومن ثم تصدينا لتحليلها. عليه، فإن المنهج الذي اتبعناه هو وصفي تحليلي.

تستند الورقة في قوامها المنهجي على تحليلنا لثلاثة مقالات كتبها عبدالله علي إبراهيم خلال عقد الثمانينات. وحتى عنوان مقالنا هذا نفسه مصاغ ومنحوت على غرار عنوان واحد من المقالات الثلاثة. ولكن، حريٌّ بنا أن نذكر أن بحثنا هذا ليس عن عبدالله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند على تحليل لمقالاته في هذا الشأن. بخصوص عبدالله علي إبراهيم فإن أهميّته تأتي من كونه أكاديمياً ضليعاً، وسياسياً نبيهاً، خرج من أروقة الحزب الشيوعي السوداني بعد علاقة استشارية لصيقة بالمرحوم عبد الخالق محجوب (السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي السوداني، الذي أعدمه نميري عقب انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971م)، مسنوداً بخبرة مشهودة، ومَكِنةٍ فكرية غير منكورة. وقد وظف جهوده منذئذٍ لتكريس الهوية العربية الإسلامية دون أن يدور في فلك أي حزب سياسي. وقد أدت به مواقفه هذي إلى مناورات تشهد له بالذكاء، واتبع في ذلك حيلاً أعانته عليها ألمعيته الأكاديمية الفذة.

لا نزعم أن عبدالله على إبراهيم يتفق معنا في الرأي، وربما كنا على يقين من أنه يختلف معنا أيما اختلاف فيما ذهبنا إليه. والأمر كهذا، فحريٌّ بنا ألاّ نزعم بأن الذين سندخلهم ضمن هذا الاتجاه الجديد ينظرون إلى أنفسهم من خلال منظورنا لهم.

بقي أن نقول إن أهم محدوديات هذا المقال هو انحصاره في الحركة الفكرية والسياسية بين من ينتمون للثقافة العربية الإسلامية أو ما يعرف تقليدياً بشمال السودان، الذي يُنظر إليه على أنه تغلب عليه الثقافة العربية الإسلامية. ولهذا عدة أسباب؛ أهمها أن المقال يتناول اتجاهاً إسلامياً عربياً يسعى لاستيعاب الاتجاه الأفريقي في هوية السودان.

إشكالية هويّة السودان

هذه الإشكالية لها ثلاثة محاور هي: العروبية، الآفروعروبية، والأفريقية. وقد نتجت عنها ثلاث مدارس في مجال الدراسات السودانية. سنتعرض للمدرستين العربية والأفريقية، ثم نركز تحليلنا على المدرسة الآفروعروبية. وسبب هذا أن السودانوعروبية ـ فيما نرى ـ هي بنت الآفروعروبية، أو على وجه التحقيق، هي الاتجاه الجديد الذي بدأت الآفروعروبية في التحول إليه والتشكل به، بعد نجاحها في استيعاب المدرسة العروبية. والآن جاء دور استيعاب كل عناصر التمرد فيها.

المدرسة العروبية

قامت هذه المدرسة في أدبياتها على ما كتبه عبد الرحمن الضرير في أوائل القرن العشرين في كتابه العربية في السودان، بدافع إثبات عروبة السودان دون الالتفات البتة إلى العناصر غير العربية التي تشكل قوام الأطراف في الشرق والغرب، الشمال والجنوب ـ هذا الأخير خاصة ـ فكأنها غير موجودة [أحمد عبد الرحيم نصر، 1985: 15]. وتبعه في ذلك محمد عبد الرحيم في كتابه نفثات اليراع في الأدب والتاريخ والاجتماع، حيث دافع عن عروبة السودان وعن إسلاميته [المرجع نفسه: 16-15].

وعندما استشرف السودان إستقلاله، كتب بعض السودانيين في الصحف مثيرين موضوع العروبة والأفريقية. وبدلاً من انتهاز الفرصة، وإجراء حوار حول هذه المسألة، تصدى لهم أكاديمي مصري الجنسية هو عبد المجيد عابدين، فاتّهم أول ما اتهمهم بأنهم عنصريون [نفسه: 18]. ثم ذهب إلى التصريح والتأكيد إلى أن اللغة العربية وثقافتها تتقدم في السودان، ولا شيء سيوقفها. كما إنه لم يذكر شيئاً عن الكيانات مشهودة التأفرق ـ مثل الجنوب ـ وكأنها لا توجد، حاله في ذلك حال الضرير وحند عبد الرحيم [نفسه]. وبالرغم من أنه دافع عن العروبة كهوية ثقافية لاعرقية، إلاّ أن حديثه استبطن نعرة عرقية لا تخفى [راجع في ذلك كتبه: 1967: 108ـ109؛ 1972: 73ـ78.]

من الواضح أن هذه المدرسة كان محتوماً عليها التراجع عن ريادة الحركة الفكرية والعلمية في السودان، ذلك لأنها لا تحسّ ولا تقرُّ أصلاً بوجود سودان خارج خيمة الثقافة الإسلاموعروبية. فهي لا تشعر بوجود المكوّن الأفريقي [حسبما فهموا] في هوية أولئك الذين يجلسون القرفصاء في دار الندوة الإسلاموعروبية في السودان، الأمر الذي يجعلها لا تقرُّ بسودانية من هو ليس بعربي.

المدرسة الأفريقية

في رأينا أن وجود هذه المدرسة نظري افتراضي، أي لحفظ ميزان الصراع من حيث ثنائيته القطبية: عربي ـ أفريقي. فالحديث عن الأفريقانية في السودان يأتي دائماً تعبيراً عن الكيانات مشهودة التأفرق من لغة وعرق … إلخ، واستبعاداً للعناصر المستعربة. ولكن لا توجد كتابات عن سودان أفريقي الثقافة مع اشتمال شمالي الوسط المستعرب المسلم فيه. وقد قام أحمد عبد الرحيم نصر بالتصنيف لهذه المدرسة مستنداً في ذلك على بحث قدمه أحمد المعتصم الشيخ - الطالب آنذاك بشعبة الفولكلور، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم - لنيل درجة الدبلوم [نصر، 1985].

اعتمد أحمد عبد الرحيم نصر في تقويمه وتصنيفه لهذه المدرسة على تركيز أحمد المعتصم على أن أسماء الناس والأماكن ـ في منطقة يُنظر إليها كمنطقة عرب مسلمين ـ كلها نوبية الأصل. كما إن الابطال الأساسيين الذين يردون في الحكايات الشعبية من الذين ينتظمهم المضمار الأمومي، مثل: الأم، الأخت، الخال، ابن الخال، ابن الأخت…إلخ. وفي هذا ما يشهد ـ حسبما يرى البحث ـ بمخلفاتsurvivals للنظام الأمومي matrilineal system الذي كان سائداً في سودان ما قبل العرب، مضافاً إلى كل ذلك المعتقدات الدينية التي ـ حسب رأي الباحث ـ لا تتوافق مع تعاليم الإسلام [ أحمد المعتصم الشيخ، 1975م]. على أيٍّ، ما كان لهذا البحث أن يكون معلماً لمدرسة قائمة بذاتها في الدراسات السودانية لو لم يصنفه أحمد عبد الرحيم نصر هذا التصنيف، ولو لم يقوّمه هذا التقويم. ولا نعني بقولنا هذا إن البحث ضعيف في تكوينه، أو أي شيء من هذا القبيل؛ ولكن نقصد إلى القول بأن الكاتب نفسه لا يذهب هذا المذهب في بحثه، والعنوان يشي بذلك. فأحمد المعتصم يتحدث عن "عناصر أفريقية في الأحاجي السودانية" وهذا شيء بعيد ـ فيما نرى ـ عن التحدث عن هوية أفريقية للسودان ككل.

وعلى أيٍّ، هذا الاتجاه عموماً لم يُشهد له بفاعلية في تشكيل المواقف وبنائها في السودان. بالطبع كانت هنالك وعلى الدوام أصوات ترتفع مطالبة بحقوق الكيانات الأفريقية في السودان، أو تتحدث عن رد الاعتبار للمكون الأفريقي في ثقافة شمالي السودان العربي المسلم؛ ولكن لم تكن هنالك أصوات ترتفع منادية بأن السودان بمستعربيه ومسلميه ـ بعيداً عن الإطار الجغرافي ـ هو أفريقي الهوية. فدعوى أفريقية السودان كانت بوصلتها دائماً ـ ولا زالت ـ تتجه جنوباً وغرباً وشمالاً وشرقاً نحو الهامش و الأطراف بعيداً عن الوسط والمركز وشمال الوسط.

المدرسة الآفروعروبية

بواكير الدعوة وروادها

يمكننا أن نرتد ببواكير هذه المدرسة إلى بدايات القرن العشرين ودعوة قومية الأدب والاقتصار على ما هو سوداني السمات، أو ما يسمى بمدرسة الفجر. لقد كانت جرثومة ذلك الوعي تكمن في إحساسهم بحوجتهم إلى أدب يعبر عن واقعهم. وقد بدأ هذه الدعوة الشاعر حمزة الملك طمبل، وتبعه في ذلك الكثيرون منهم محمد أحمد محجوب، محمد عشري الصديق، وأخوه عبدالله [محمد عبد الحي، 1976: 7-11]. ولكن محمد عبد الحي يأخذ عليهم أن دعوتهم لم تكن واضحة الرؤية. فمفهوم ما هو سوداني لم يكن واضحا لدى طمبل [المرجع نفسه: 9]. كما إن العمق الأفريقي للسودان كان غائباً عنهم بالمرة [نفسه: 23]. لقد مسّوا أفريقية بالسودان مسّاً بينما تجاهلوا كينونته الأفريقية من حيث تأفرقهم هم أنفسم، وبالتالي سقط عنهم الوعي بأطروحة التمازج والتفاعل الثقافي الذي انتظم الثقافة العربية في السودان [نفسه].

إذن فقد كانت المطالبة بأدب سوداني السمات بمثابة حوار عربي ـ عربي. فتلك المدرسة (الفجر) سعت إلى سودنة الأدب الذي كان يهيم في مفازة الشعر العربي الآبد. وعليه، لقد كانت تلك الدعوة تتحرك داخل خباء الثقافة العربية الإسلامية [ محمد فوزي مصطفى عبد الرحمن، 1972: 226-228].

ردّ الاعتبار للمكون الأفريقي

في أواخر أربعينات القرن العشرين وخلال خمسيناته، ومع اشتداد حدة الخطاب العروبي على المستوى الرسمي جرّاء كتابات أمثال عبد المجيد عابدين وآخرين، ارتفعت أصوات تنبّه للعنصر الأفريقي وتنحاز إليه كردّ فعل لانحياز السواد الأعظم للعروبة. وقد كان محمد المهدي المجذوب رائد هذا الإتجاه حيث تغنّي بجنوب السودان وسعي في بوهيمية آسرة للتماهي فيه. ولكن، كان المجذوب في أعماقه عربياً نَزَا في سورة شبابه فأُعجب بأفريقيا. فهو يقول في قصيدته (انطلاقة) والتي ألفها بمدينة واو 1954م [ محمد المهدي المجذوب، 1982: 20]:

فليتِي في الزنوج ولـي ربـابٌ تميـلُ به خطاي وتستقيــمُ

أُجشِّمه فيجفلُ وهـــو يشكـو كما يشكو من الحُمَةِ السليـم

وفي حِقْـوَيَّ من خـرزٍ حـزامٌ وفي صَدُغَيّ من وَدَعٍ نظيـم

وأجتـرع المريسةَ فـي الحواني وأهْــذِرُ لا أُلام ولا ألــوم

طليـقٌ لا تقيـّدني قريـــشٌ بأحساب الكــرام ولا تميـم

وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السُّكْرِ والطّربِ الغَشوم

في هذا الفضاء ظهر شعر الفيتوري الذي فاخر بسواد لونه، بل ودعا إلى أن نُعلن عن زنوجتنا بالصوت العالي [أنظر نص القصيدة في: فتح الرحمن حسن التني، 1990م: 327]:

قلها لا تجبن… لا تجبن

قلها في وجه البشريه

أنا زنجيٌّ..

وأبي زنجي الجدِّ

وأمي زنجيه

أنا أسودْ … أسودْ

لكني حرٌ أمتلك الحريه

أرضي أفريقيه

عاشت أرضي

عاشت أفريقيه

هنا يتضح الفرق بين المجذوب والفيتوري. فالثاني يحمل في دواخله أزمة أفريقيته من حيث الواقع المزري، بينما الأول معفي من تبعة ذلك بحكم وعيه بعروبته، ولكنه يسعى للتماهي في صورة ذهنية كوّنها عن أفريقيا ربما كانت لا تمت إلى الواقع بصلة.

عليه، نخلص إلى أن الفيتوري جاء تعبيراً عن وعي سوداني لم يجد لنفسه موضع قدم في الواقع العروبي. وقد كان الفيتوري بحق ترجماناً لهذا التيار، فجاءت أغلب قصائده عن أفريقيا حتى تمخضت عن أربعة دواوين تحمل اسم أفريقيا [1956؛ 1964؛ 1966؛ 1967].

الآفروعروبية والحل الوسط

إذن، فقد جاء شعر الفيتوري ترجمةً لحركة استقطاب جديدة تدور رحاها حول الزنوجة والأفريقانية الطاغية على الملامح السودانية، وذلك في مقابل الاستقطاب العروبي. بيد أن هذا الوعي الأفريقي الصاعد جاء عبر خطاب عربي؛ وهنا كانت مفارقته، فكأنما جاء مخرجاً من مأزق.

كان في مقدور هذا الطرف الاستقطابي الجديد أن ينضج ويتبلور في نظرية معرفية يمكنها أن تنسف بناء الاستقطاب العروبي الهش لولا أن ظهر تيار الآفروعروبية كحل وسط يُخرج العروبية من مأزقها. لهذا فإننا ننظر إلى الآفروعروبية لا على أنها ناتج جدلي من صراع الأفريقانية والعروبية، بل على أنها جاءت كحل توفيقي منحاز لصالح التيار العروبي، ولاستيعاب عناصر الثورة الأفريقية المضادة. وقد نجح هذا التيار في مسعاه، وليس أدلّ على ذلك من استيعاب الفيتوري نفسه وتخصيص دكة مريحة له داخل خباء العروبة.

أنظر مثلا إلى قصيدته (مقام في مقام العراق) التي ألقاها ببغداد في مهرجان المربد التاسع حيث يقول [أنظر نص القصيدة في مجلة الدستور، الإثنين، (19ـ26)، 1988م، ص 43]:

غيـرُ تلك البلادِ بلادُك لولا اليقينُ ولـولا شمـوخُ العراق

العـراقُ الأيادي التي غسلت جبْهةَ الشرق بالـدّمِ حتّى أفاق

العراقُ الصحائفُ مُذْهَبةُ النقشِ في زمن العجـزِ والانسحاق

العراقُ المــلاحمُ لا تنتهي والرؤى ثورةٌ والحضورُ ائتلاق

ويظلُّ العــراقُ مداراً وبغدادُ شمساً تُضيءُ مـدارَ الرفاق

فالتماهي العروبي هنا كأوضح ما يكون، في مقابل تماهٍ أفريقي سابق. ليس هذا فحسب، بل إن الفيتوري يتماهي حتى تركبه العنجهية العربية فلا يتمالك من أن يعرّض بالعجم من المغول والمماليك والأغوات مختزلاً فيهم الصفات السالبة ودامغاً بها متخاذلي العرب:

كلُّ ما كان بالأمس أن المغولَ أَتَوْا في الدجى ومَضَوْا في المحاق

وتقيمُ المقـــاديرُ فيــك احتجاجاً على وطنٍ أبدي الوثــاق

ضــاع بين صراع المماليك والأَغَوَات وفرسان عصر الوفاق

أيّاً كانت الجهة التي يعرض بها الفيتوري، واصفاً إيّاها (بالأغوات)، وكيفما كانت الدلالات التشريفية لهذه اللفظة قابلة للتداعي، الا أن الفرصة للتداعي تبقى أكبر حيال الدلالات السالبة لها، ونعني بذلك طائفة الخصيان الذين كانوا يقومون بخدمة الحرم المكي والمسجد النبوي بالمدينة. وفي هذا ما يضع الفيتوري ـ كأفريقي سوداني أسود ـ في موضع لا يحسد عليه. فعندما كانوا يستقدمون هؤلاء الخصيان إلى تلك الأماكن المقدسة، كان من ضمن ما يشترطون عليه أولاً أن يكونوا من أفريقيا ومن أجناس بعينها. وبحلول 1814م كان معظم الأغوات من الأحباش والسودانيين. وأصل أكثر الاغوات حينها كان من منطقة ولّو (Wallo) بأثيوبيا ومديرية دارفور بالسودان [لمزيد من التفاصيل في ذلك أنظر: أحمد عبد الرحيم نصر، 1986م، ص ص 11،12،16،17]. ولا نملك إلاّ أن نشير إلى أن الفيتوري يرجع في أصوله إلى دارفور.

ثم يتباكى الفيتوري على هذا الوطن العربي الكبير:

جـــزّأوه وقـد كان شعباً، فأضحى شعوبـاً مُعبّأةً في زقــاق

ثم يختم قصيدته قائلا:

يــا بلادي التـي حملتني بعيـداً إلى عُرسها يا بلادي العــراق

وهنا يكون الفيتوري قد سلا عشقه الأول الكبير، أفريقيا، ليدلج بعد ذلك في ليل القضية العربية.

الأكاديمية: حصان طُروادة

نهضت الآفروعروبية على أساسٍ متين وعلمية صارمة، فقد أرساها أحبارٌ نهدوا إلى العلم بوثبة شابة، وألمعية نافذة. وقد خلص ذلك الجيل إلى أن السودان هو مزيج من العروبة والأفريقية. فيوسف فضل في دراسته عن العرب في السودان يخلص إلى أنهم نوبة استعربوا [1973: 153-158]. ويذهب حريز في دراسته لطقوس العبور ودورة الحياة عند الجعليين [1969] ثم في دراسته لأدب الجعليين الشعبي (الحكاية) [1977] إلى وصف ثقافتهم بأنها آفروعروبية. وعلى صعيد علم السياسة تناول هذه الإشكالية أيضا مدثر عبد الرحيم متحدثاً عن مشاكل ومزايا الهوية الآفروعروبية للسودان [1969؛ 1970].

لقد كانت تلك الكتابات رصينة، وقد استندت على قدم راسخة في العلم، كما قامت على وقائعية تاريخية وجدلية مؤدّاها أن سودان اليوم هو ناتج تلاقح ثقافي نهدت فيه العروبة والأفريقية برفدهما ثم كان أن وسمته أفريقيا بميسمها. وهذا حق! الا أن مشكلة الآفروعروبية تكمن في أنها رفعت شعاراً لم تعمل بمقتضاه، فقد كانت الأكاديمية العلمية بمثابة حصان طُروادة ركبها ذلك الجيل الألمعي كيما يستأنس الغابة، فيما سنرى لاحقاً.

مدرسة الغابة والصحراء

تولدت الآفروعروبية أول أمرها كاتجاه فكري سوداني داخل الحقل العلمي الأكاديمي، وفي هذا لبس نود إجلاءه. فبالرغم من أن بذرة هذه المدرسة قد نشأت داخل المدرسة الأكاديمية، إلاّ أن الإصدارات العلمية الأكاديمية ـ كتلك التي رفد بها أمثال يوسف فضل وسيد حريز وفرانسيس دينق ـ لم تظهر إلاّ بين منتصف الستينات ومنتصف السبعينات من القرن العشرين. هذا بينما الكتابات الأدبية من شعر وقصة التي تنتمي إلى الآفروعروبية قد ظهرت منذ أوائل الستينات، ولذا تبدو دعوة الآفروعروبية وكأنها قد ظهرت أول أمرها كتيار أدبي فحسب. وما ذلك إلاّ لأنها قد خرجت في تجلّياتها الأدبية قبل أن تخرج من أروقتها الأكاديمية إلى الشارع السوداني. وتتمثّل تجلياتها الأدبية في مدرسة الغابة والصحراء، حيث ترمز الغابة إلى أفريقيا والصحراء إلى العروبة. وقد بدأ ذلك في أوائل الستينات من خلال مقالات في الصحف رادها كل من محمد عبد الحي، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر، أدانوا فيها ثقافة الكف والصرامة التي تتسم بها العروبة، ومجدوا في المقابل الطابع الانفلاتي ـ فيما رأوه هكذا ـ الذي تتسم به الثقافة الأفريقية [عبدالله علي إبراهيم، 1988: 119].

هذه التيارات المناهضة للخطاب العروبي ـ في مرحلة ما قبل التبلور والاستقطاب ـ كان لابدّ للعمل على استيعابها في خطاب يجعلهم يصطلحون عبره مع العروبة. وما كان هذا ليتأتّى إلاّ بالاعتراف بالمكون الأفريقي في ثقافة شماليي السودان. وهذا ما تم إرساء قواعده علمياً من خلال الرفد العلمي الذي ظهر في أروقته الأكاديمية مبكراً، رغماً عن تأخر ظهوره للعامة عبر النشر. لقد كانت تلك أرضية صلبة روّج لها دعاة الغابة والصحراء يحدوهم عميدهم محمد عبد الحي. فكان بالتالي أن أرسوا اتجاهاً جديداً يعترف بالمكون الأفريقي ويضعه ـ نظرياً ـ على قدم المساواة مع المكون العربي، وذلك من خلال توازي وتساوي الغابة والصحراء.

لقد جعلت مدرسة الغابة والصحراء من إنسان سنار نموذجاً للإنسان السوداني، وقدمته كمشروع. وفي ذلك يقول عبدالله علي إبراهيم [المرجع السابق: 107]:

"أمل الآفروعروبيين في تمازج الثقافات في السودان معلق بحركة التصنيع التي بوسعها أن تزيل البقية الباقية من العوائق بين الجنوب والشمال.. وعليه يكون ناتج الامتزاج بين الجنوب والشمال إعادة إنتاج لإنسان سنار، الذي هو أساس التركيبة الهجين للسودانيين الشماليين. فمحصلة الامتزاج بين الجنوب والشمال في نظر الآفروعروبيين ستكون بمثابة طبعة لاحقة للسوداني الشمالي الذي لا عيب فيه حالياً سوى تجاهله لتراثه الأفريقي".

العروبية والآفروعروبية: برنامج موحد

كان للعروبية برنامجها السياسي الاجتماعي والثقافي متمثلاً في ميكانيزمات التمدد والاندياح الاستعرابي الذي نشهده في سودان اليوم، والذي جرت سيرورته منذ قيام دولة الفونج. وهذا البرنامج يترسم خطواته وفق خطاب يتسم بالتماسك والثبات. وفي المقابل نجد أن الآفروعروبية لا تقدم لنا أي برنامج له شكله التخطيطي وبعده التنفيذي فيما يختص بإشكالية الهوية. فهي لا تطالب بأن يكون التعليم على طريقة بعينها ـ مثلا إدخال اللغات السودانية في المدارس ـ أو أن تأتي البرامج الاقتصادية والسياسية على شكلٍ بعينه بحيث تحقق جوهر الفهم الآفروعروبي في فكرهم، والصورة التي يترسمونها لما ينبغي أن يكون عليه السودان.

فإذا كانت هناك تيارات رافضة للعروبة فإن الآفروعروبية جاءت وهي تستبطن في تلافيف ميزانها اعترافاً بالعروبة. وهكذا أصبحنا في السودان ـ خاصّةً منذ السبعينات ـ نشهد الخطاب الرسمي والشعبي يلهجان بالآفروعروبية، بينما تتحكم ميكانيزمات الاستعراب على كل أصعدة البرامج السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه هي ذات ميكانيزمات الاستعراب التي شكلت إنسان سنار (أي نموذج الآفروعروبية للإنسان السوداني). فإذا علمنا أن هذا هو ذات برنامج المدرسة العروبية، وصلنا إلى أن العروبية والآفروعروبية عبارة عن برنامج واحد يقوم على تكريس الاستعراب. وما حديث الآفروعروبية عن المكون الأفريقي ـ على وجه التحقيق ـ إلاّ من قبيل الاستهلاك الشفاهي والتخدير كتكتيك استيعابي.

وهكذا نتفق مع عبدالله على إبراهيم [المرجع نفسه: 119] عندما يقول: "وصفوة القول إن الآفروعروبية هي صورة أخرى للخطاب العربي الإسلامي الغالب في السودان".

ميكانيزم الاستعراب وثقافة أمدرمان

نعني بذلك العملية التي يبدو أن كل الكيانات السودانية ذات الثقافة واللغة الأفريقيتين معرضة كيما تمر بمراحلها .هذا بالطبع ما لم نتحسب لذلك حتى لا تندثر هذه اللغات.

ويمكن تلخيص ميكانيزم الاستعراب في الاتي:

أب وأم يتحدثان لغة سودانية كلغة أم ولا يعرفان من اللغة العربية إلاّ بضع كلمات لا يحسنان نطقها؛ ثم أبناء يبدأون بلغة الأم، فتجبرهم ظروف الحياة على تعلم العربية مع "لكنة" واضحة؛ ثم أبناء يبدأون بالعربية كلغة أولى، وتصبح لغة الأم هامشية، يفهمونها ولكن لا يجيدون التحدث بها. وأخيراً يجيء أحفاد لا يعرفون غير العربية مع تأفّف وتبرؤ من لغة الجد والحبوبة. تتجلى هذه العملية بصورة واضحة في طبقة الأفندية، أي رعيل الموظفين الحكوميين، عندما كانت تمثل طبقة متميزة منذ أول نشوئها إبّان عهد التركية حتى سبعينات القرن العشرين. ويعرف عن هذه الطبقة استلابها واغترابها عن واقع المجتمعات التي صدرت منها [راجع حريز، 1988: 40-43].

هذا هو ميكانيزم الاستعراب. فالفونج تحولوا ـ كمجتمع ـ إلى الإسلام بعد قيام مملكتهم [يوسف فضل، 1973: 144]. وروبيني عندما زار سنار لم يجد دولة إسلامية عربية، بل وجد دولة أفريقية الثقافة واللون. بينما سنار اليوم لا تعرف من "تلك الفونج" غير الاسم.

إن المراكز الحضرية تقوم بدور المعمل لهذا الميكانيزم. كتب أبو منقة وميلر [1992: 12] عن هذه الظاهرة فقالا:

"تشير كل الدراسات التي أجريت ضمن (مشروع المسح اللغوي في السودان) إلى ازدياد وتيرة انتشار اللغة العربية منذ الاستقلال. وهذا يعزى إلى الاعتماد المتزايد للأقاليم والأطراف على منطقة الوسط؛ حيث تقوم الأخيرة باحتكار السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية. إن التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي للأطراف (تكوينها لمراكز حضرية صغيرة، وتطور التجارة، والمدارس والعيادات والمشاريع الزراعية…) والهجرة إلى المدن وانسياح النماذج الثقافية لشمال الوسط عبر وسائل الاتصال والتعليم والتجار والخدمة المدنية…، كل ذلك ينحو لتقوية أثر اللغة العربية على كل مستويات ومناحي الحياة اليومية. نتيجة لهذا بدأت العربية تصبح اللغة الأولى (إن لم تكن اللغة الأم) لعدد متزايد من الناس في مناطق الثنائية اللغوية بالشمال بما في ذلك المناطق الريفية".

كما يضيفان [المرجع السابق: 13] أن هذا هو واقع الحال حتّى في جنوب السودان.

وبما أن المراكز الحضرية هي نفسها تتمركز حول المركز الأكبر (العاصمة المثلثة)، لذا أطلقنا على ذلك "ثقافة أمدرمان" كإشارة لمركز المراكز. ودمغُنا لهذه العملية باسم ’أمدرمان‘ له سبب: فأمدرمان من أحدث المدن السودانية تاريخاً وتمثل نموذجاً حيّاً لمنظور ’بوتقة الانصهار‘، بينما لا تقارب أبداً منظور ’الوحدة في التنوع‘ [وسنتعرّض لهذين المنظورين بشيءٍ من التفصيل لاحقاً لكونهما يلعبان دوراً فارقاً في الخطاب الفكري السياسي السوداني]. بالعودة إلى أمدرمان، نلاحظ أنه قلما نجد مجموعة ثقافية سودانية ليس لها أسر (قلّت أم كثُرت) ذابت في مجتمع أمدرمان. وفي الحق، فقد رادت مجموعات الهامش والسوداء منها خاصة (من الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ودارفور) حركة الحداثة في مجتمع أمدرمان، خاصةً بُعيد الدولة المهدية. لقد خضعت هذه المجموعات ـ عن سماحةٍ ـ لعملية إعادة الإنتاج فاستعربت تماماً، فضلا عن بادئ إسلامها؛ هذه هي المجموعات التي رادت فن الغناء عندما كانت الثقافة الإسلاموعروبية تحاربه في أمدرمان؛ وهي نفسها التي رادت التعليم عندما تحامته المجموعات الإسلاموعروبية؛ وهي نفسها التي رادت خروج المرأة للعمل، وعبر مهنٍ شريفة استعرّت منها المجموعات الإسلاموعروبية، كالتمريض وغيره. هذه هي المجموعات التي رادت عملية الحداثة في سودان القرن العشرين فما بعد. فإلى ماذا يا تُرى انتهى أمرها؟ لقد تم إيداعها في أدنى سُلّم المجتمع لا لشيئ إلاّ لسواد لونها وغلظة شفاهها وتفلفل شعرها وقلة حظها، نسبيا، مما نُظر إليه خطاً على أنه الدم العربي. إنها نفس المعاناة التي تعرّض لها عنترة في الجاهلية وبلال في الإسلام. إذن فعملية إعادة الإنتاج ليست جزءً من الحل، بل هي في الواقع جزء من المشكلة. هذا النموذج هو الذي يُرادُ له أن يعمّ السودان كله عبر ’منظور بوتقة الانصهار‘ وإعادة الإنتاج، فيما طرحته الآفروعروبية في نموذج إنسان سنار، باستخدام ألفاظ محمد عبد الحي، ونموذج إنسان أمدرمان، بلغة هذا البحث.

ظلت أطروحة الآفروعروبية ـ ولا زالت ـ تشكل الخطاب الرسمي والشعبي في السودان خلال العقود الثلاثة الماضية. واليوم تشير برامج ومشاريع المسح اللغوي إلى زيادة وتيرة الاستعراب وميكانيزماته منذ أن نال السودان إستقلاله. بمعنى آخر، لقد لعبت الآفروعروبية دورها في تكريس الاستعراب. وهذا بدوره يعكس ما نعنيه بمقولة إن الآفروعروبية ما هي إلاّ شكل آخر من أشكال الخطاب الإسلاموعروبي الغالب في السودان.

إذن كل الذي مثلته الآفروعروبية هو أنها كانت مشروعاً استيعابياً (assimilating project) طرحته العروبية لاستيعاب تيارات التمرد الأفريقية. فهل نجحت؟

الململة وفرفرة المثقفين

لم تنجح الآفروعروبية في استيعاب تجليات الوعي الأفريقي في الهوية السودانية، وإن كانت قد نجحت في تعويق نضج تبلوره وتشكله. فالآفروعروبية لم تختطّ لها برنامجاً يحقق ذاتية هذا "التأفرق". كما إنه لا ينبغي لنا أن نتوقع تلاشي إيقاع الطبول الأفريقية في "جُوّانيّاتِنا"؛ إذ إن الأفريقانية تنبثق عن أصالة، بينما لا يُعترف بها إلاّ من قبيل الاستهلاك الشفاهي.

لكل هذا كان لابدّ للوعي بالتأفرق أن يعبر عن نفسه بشكل من الأشكال. وما دعاوى انفصال جنوب السودان إلاّ تعبير عن هذا الوعي في أكثر صوره تطرفاً. كما إن هنالك جانباً آخر هو أن يسعى الوعي بهوية سودانية جدلية للتعبير عن نفسه بطريقة عملية من خلال برامج صادقة ذات بعد تنفيذي. فالعروبية تقوم على الاستبعاد والتصفية، والآفروعروبية ليست جدلية بل هي توفيقية منحازة، والأفريقية بدورها تقوم على الاستبعاد والتصفية.

وقد بدأت الململة عندما احتكّ السودانيون ـ خاصة أهل الوسط والشمال الذين يصنفون في السودان كعرب مسلمين ـ بمن ظنّوهم عربًا عاربة في دول البترول. فقد صُدم مستعربو السودان عندما دمغتهم العرب العاربة بذات ألفاظ " العبودية" و"الرق" التي درج أهل وسط وشمال السودان أن يدمغوا بها من هم أشد منهم سواداً من أهل السودان [فرانسيس دينق، 1975: 61]. لقد ولدت عملية الاحتكاك، مع أنماط أخرى من الوعي العروبي، داخل المغتربين السودانيين (من أهل الشمال والوسط خاصة) بذرة الوعي بتأفرقهم . لقد كان ذلك مرتكز الزاوية والعمق النفسي للصراع، فالواحد منهم يعتلج في داخله وعيه العروبي بشدة، حتى إنه لَيُذْهلُ عن أفريقيته، بل وتركبه العنجهية فيتحامل على من هو أفريقي. فإذا به في مواجهة أناس لا يرون فيه عروبةً منهم بل أفريقياً مجللاً بالسواد. إن الأمر الذي جعله ينتبه بشدة إلى أفريقيته هي ذات اللفظة الشنيعة التي كان يدمغ بها إخوته من السودانيين.

إذن، فإن الجسم العروبي الديموغرافي هو نفسه يشتمل على عناصر ثورة أفريقية. فالآفروعروبية لم تنجح حتى في الاحتفاظ بالجسم الديموغرافي للعروبية متماسكاً. كما إن هناك بؤراً ثورية مضادة للخطاب العروبي.

تصدى لمعالجة هذه الاشكالية عبد الغفار محمد أحمد، ولكن على صعيد الصفوة والطبقة المثقفة من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية عليها، متبنّياً رؤية علي مزروعي [1971] بخصوص الحزام الهامشي للدول العربية (السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي). فهو يقول [1988: 119]: "فأقطار مثل السودان والصومال وجيبوتي وموريتانيا، التي يكاد الفرد وهو يلاحظ هذا النشاط يسقطها من خريطة الوطن العربي، تسجل غياباً تاماً أو حتى إذا ساهمت فإن صوتها يكاد يأتي همساً. وفي هذا خطورة على مستقبل تطور مفهوم الوطن العربي بحدوده السياسية اليوم". ويذكر عبد الغفار محمد أحمد أن هناك اتهاماً (صامتاً) فحواه.. "بأن هناك توجهاً بعدم الاهتمام، من جانب القيّمين على أمر الحوار العربي، بما يصدر من مثقفي هذه الأقطار الهامشية وتجاوزهم عند التخطيط للندوات التي تعقد…" [المرجع السابق: 120]

ولكنه في موقع آخر يحول الاتهام (الصامت) إلى إتهام (مسموع)، فيقول [المرجع نفسه: 128]: "من الواضح أن هناك هامشية تجعل للسودان وما يشبهه من الأقطار العربية وضعية خاصة. ولكن المؤسف حقا أن الذين يتصدون لإدارة الحوار حول مستقبل الوطن العربي ينكفئون على ذواتهم ويبعدون هذه المجموعات الهامشية. ذلك لأن وجودها يعقد بعض المواضيع التي يمكن أن تناقش في سلاسة لو أنهم كانوا غائبين". إذن، فإن السوداني متحاملٌ عليه ـ عربياً ـ على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي. الأمر الذي يمكن أن ينجم عنه اليأس من العرب، وبالتالي التبرؤ منهم، ومن ثم الاعتصام بعرى أفريقيته. وفي هذا خطورة على مستقبل تطور مفهوم الوطن العربي بحدوده السياسية اليوم، كما يقول عبد الغفار محمد أحمد. ولذلك يطرح مشروعه الاستيعابي لتوسيع مفهوم العروبة حتى يشتمل على الهامشيين.

إن هذا المشروع ـ فيما يمليه علينا الواقع ومنطق السياق ـ تقوم زاوية ارتكازه على اعتراف العرب بعروبة الهامشيين رغماً عن تأفرق سيماهم، ثم بعد ذلك جعلهم جسراً يعبر منه العرب إلى أفريقيا. ولكن عبد الغفار محمد أحمد يعبر عن هذا المشروع بطريقة لا تساعدنا على استجلاء أعمدته التي يقوم عليها. فهو يقول [نفسه: 127]: "هذه الهامشية اليوم تجعل المثقف السوداني من شمال القطر مشتتاً يود الانتماء لعروبته المكتسبة ولكنه يرى في الوقت نفسه أن يعترف له المثقفون العرب بدور خاص في تواصل الثقافة العربية مع ثقافات أفريقيا وفي المقدرة على إجراء الحوار بين هذه الثقافات، وهو في هذا المنطلق يريد أن يؤكد أنه مزيج من العروبة والأفريقية".

لقد اعتزل المثقفون العرب إخوتهم في الدول الهامشية إيماناً منهم بأفريقية هؤلاء دون عروبتهم. أي أن المثقفين العرب يفصلون بين العروبة والأفريقية، والمثقف السوداني يطالبهم بأن يعترفوا بالتقائهما فيه. وهذا طبعا دون مناقشة مفارقة أفريقية عرب الساحل الشمالي الأفريقي.

ولكن، هل حقيقة أن المثقف السوداني يطالب بهذا؟ إننا نرى أن منطق السياق البحثي الخاص بمثل هذه الدراسات والتوجّهات الأيديولوجية هو الذي يفرض هذا المشروع كحل ومخرج، بينما الواقع العملي يقول لنا إن هناك تياراً قد تولد وتتجه دالته نحو الاعتصام بالأفريقية مع التبرّؤ من العروبة. وما محاولة عبد الغفار محمد أحمد إلاّ من قبيل دق ناقوس الخطر وتحذير العرب قبل فوات الأوان.

وعلى أي حال فإن عبد الغفار محمد أحمد، مثله في ذلك كمثل علي مزروعي يعمل هنا على معالجة أزمة أهل السودان الشماليين في علاقتهم مع العرب. وهذه ـ في رأينا ـ من تفرعات المشكلة. فالمشكلة ـ فيما نرى ـ هي علاقة السودانيين ببعضهم البعض من حيث العروبة والأفريقية.

ونشير هنا إلى أن علي مزروعي [1971] هو أول من استخدم مصطلحي المركز والهامش في الدلالة على أوجه الصراع الثقافي في السودان. بيد أنه استخدمه لمعالجة الصراع الثقافي بين مستعربي السودان وما شاكله من دول ذات شعوب مستعربة أسماها الهامش، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. ولكن قام كاتب هذه السطور عام 1986م في الإصدارة الأولى لكتابه منهج التحليل الثقافي بتوطين هذه الرؤية النظرية لتحليل الصراع الثقافي في السودان بالنظر إليه على أنه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي المركز والهامش مفردتي الوسط والأطراف. فيما بعد سيتمّ تكريس هذا المصطلح عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.

المحك الاستقطابي

إذن فقد وصل السودانيون إلى مفترق الطرق بين العروبة والأفريقية، وتحركت ميكانيزمات الاستقطاب. المشروع العروبي يعاني من مشاكل جمة أولها تأسيس مشروعية له داخل خيمة العرب العاربة. وسعياً نحو هذا اندفع بعض الكتاب فقالوا إن الجعليين ليسوا عرباً اختلطوا مع الأفارقة، ولكنهم عرب خلّص. ولتأكيد هذا زعموا أن المنطقة التي تسكنها قبائل الجعليين كانت خالية من السكان عندما قدموا إليها. ولحل إشكالية اللون ذهبوا إلى كتب التراث العربي يجمعون كل الإشارات التي تفيد بتوافر الخُضرة والسُّمرة في لون العرب، وخلصوا إلى نتيجة مؤداها أن اللون الحالي لقبائل الجعليين هو اللون الأصلي للعرب. وذهبوا إلى أكثر من ذلك فزعموا أن من يسكنون العراق والشام والجزيرة العربية هم الذين فقدوا لونهم العروبي المائل للسمرة والخضرة جراء تهاجنهم مع الأعراق البيضاء [عباس محمد مالك؛ 1987]. وما كان ما ذهبوا إليه في الواقع إلاّ مذهب عبدالله الطيب خلال ستينات القرن العشرين حسبما سيأتي لاحقاً. وفي رأينا أن عباس محمد مالك قد تحرّى في عنوان كتابه تعريف العرب العباسيين الذين يعنيهم على أنهم "قبائل الجعليين"، وذلك سعياً منه لتمييزهم عن المجموعات الأخرى التي تتبنى النسب العباسي العربي خاصة في مناطق برنو ووداي مثل الصليحاب العبّاسيين.

بكل المسالك الوعرة التي يسلكها هذا المشروع وبكل القضايا الشائكة التي يحسمها ضربة لازب، فإن انهزامه يأتي من واقعة إثنوغرافية بسيطة ومتوافرة تشهد بأن الوعي اللوني لدى سودانيي الوسط والشمال تتجه دالتها إيجابياً نحو البياض وانفتاح اللون، شأنهم في ذلك شأن العرب قديماً وحديثاً. وكما ذكرنا أعلاه، فقد عانى عنترة من سواد لونه قبل الإسلام كما عانى بلال في الإسلام، ثم كما يعاني الآن السُّود في بلدٍ اسمه السودان من سواد لونهم.

وفي هذا الوقت أيضا بدأت ترتفع الأصوات المنادية بانفصال جنوب السودان من قبل جهات جنوبية ومركزية تحت لافتات تقرير المصير، فضلاً عن باقي مناطق الهامش في جبال النوبة والأنقسنا ودارفور والشرق والشمال. هذا يعني أن المرحلة الحالية هي مرحلة ما يمكن أن نسميه "بفرز الكيمان". بمعنى آخر، لا مجال للمشاريع الاستيعابية في هذه المرحلة. ولهذا نجد المشروع العروبي قد تم طرحه كاملا بطاقته القصوى من خلال الأسلمة والاستعراب.

إلى أين المفر؟

هذا هو ما وجد الآفروعروبيون أنفسم فيه. فهم في داخل المشروع العروبي يحاربون في جبهتين:

أ/ جبهة القومية العربية القائمة على فكرة أمة الدولة الواحدة one state nation والتي يمثلها البعثيون والناصريون. فالآفروعروبيون يرون هنا أن فكرة القومية العربية بهذا الفهم تنفي هوية السودان الحقيقية من المكون الأفريقي.

ب/ جبهة التيار الإسلامي الذي بدأ كافراً بفكرة القومية من أساسها، والذي لا يملك حلاًّ لمشاكل السودان إلاّ من خلال الأسلمة والتي بدورها لا تتم إلاّ من خلال بوابة الاستعراب في عملية يشتط القهر فيها ليعيد الزمن القهقرى.

في هذا الوضع الذي يماثل ما بين المطرقة والسندان يرى الآفروعروبيون أنفسهم أكثر تسودناً. كما يرون أن الاشتطاط إلى أحد الطرفين قد ينسف المشروع العروبي في السودان من أساسه. ولكن الموقف تأزّم أكثر فأكثر جراء اشتداد وتيرة الاستقطاب في المحيط العربي الكبير. فقد بدأت تلوح دلائل تقارب منهجي بين دعاة القومية العربية والتيارات الإسلامية الاصولية [أنظر: محسن عوض؛ 1989 . هذا فضلا عن الإشارة لما قام به الرئيس صدام حسين من وضع جملة "لا إله الا الله" على علم العراق وهو الأمر الذي عجز الأمريكان عن التخلّص منه]. بمعنى آخر بدأ يستعرب التيار الإسلامي من خلال الإقرار بمفهوم القومية العربية، بينما في المقابل، بدأ يتأسلم التيار القومي العربي العلماني. ففي السودان تسمّت حركة الإخوان المسلمين باسم "الجبهة القومية الإسلامية"، مقدمةً بذلك القومية التي كانت تكفر بها قبل عدة سنوات فقط على الإسلام.

فأين المفر؟

المفر هو عروبة خاصة بالسودان، وإسلام خاص به، دونما إدعاء للأفريقية. وهذا هو الإطار الذي سنسعى ـ فيما يلي ـ كي نترسّم أبعاده في كتابات عبدالله على إبراهيم، وهو الإتجاه الذي نحتنا له مصطلح "السودانوعروبية". وفيه سنضرب أمثلة موثقة بمن نرى أنهم ينتمون لهذا التيار الجديد.

السودانوعروبية

ملامح المشروع العبدلاّبي الجديد

يبدأ عبدالله علي إبراهيم مشروعه بالهجوم يشنه على الآفروعروبيين متهماً إياهم باستبطان شكل من أشكال التحامل على المكون الأفريقي الذي سعوا لتكريمه. ثم يخلص إلى أن الآفروعروبية لا تعدو أن تكون شكلاً آخر من أشكال الخطاب الإسلامي العربي الغالب في السودان [عبدالله علي إبراهيم، 1988]. وهو إذ يفعل ذلك، إنما لقفل الطريق أمام أية محاولات سودانوشمالية تنحو الخط الأفريقي في إشكالية الهوية أو تحاول أن تعيد أو تحيي ما اندثر من مدرسة الغابة والصحراء، أو المدرسة الآفروعروبية عامة.

ومن ثم يتحرك عبدالله على إبراهيم بخطى ثابتة نحو هدفه الثاني: الإسلام الأورثوذكسي. فهو يريد أن يقلم أظافر التيار الإسلامي الذي إذا تُرك له الحبل على الغارب سيشتطّ وربما أفضى بعروبة السودان إلى موارد الهلاك. وكيما يفعل ذلك فإنه يعيد تقويم الإسلام الشعبي، أي إسلام الصوفية. فيذكر النظرة الخاطئة له على أنه مشوب بالشركيات، ثم يقوم بتفنيدها. بعدها يخلص إلى أن الإسلام الشعبي هو إسلام السودان وما عداه يمكن أن يكون إسلاماً لشعوب أخرى، إذ إن لكل شعب إسلامه الذي يسمه بميسم ثقافته [عبدالله علي إبراهيم، a1989: 148-185]. وهو إذ يفعل هذا، إنما ليقفل الطريق أمام الحركة الإسلامية الأصولية التي تدعو إلى دولة خلافة إسلامية يجلد الناس فيها ويُحدّون.

وأخيرا يتوجه عبدالله علي إبراهيم في مسوحه الأكاديمية ليمنح بركته العروبية لأهل وسط وشمال السودان الذين تحوم حولهم إشكالية العروبة من عدمها، فيعمّدهم عرباً بصرف النظر عن تخالط دمائهم بالأفارقة. فالهوية يعتمدها كخيار، ولا يجوز أن نقسر أناسا بعينهم على تبني هوية لا يستشعرونها. ويقيم عبدالله على إبراهيم مفهومه هذا على قاعدة من العلمية صارمة، يبدؤها بالهجوم على ماكمايكل وكتاباته عن العرب في السودان. ثم تنداح دائرة هجومه وتفنيداته لتشمل رعيل الأكاديميين السودانيين الذين تبعوا ماكمايكل ومنهجه بطريقة وقع الحافر على الحافر. ثم بعد هذا يؤسس لمفهوم الهوية كاختيار وكسلاح أيديولوجي، وكيف أن الهوية عندما تستخدم الأنساب إنما تفعل ذلك كأداة من أدواتها دون أن تعير الوقائعية التاريخية أدنى اعتبار. عليه، لا يجوز أن نغلّط هذه المفاهيم، بل علينا أن نفهم لماذا فعلوا ذلك ونؤمنهم على الهوية التي اختاروها. ومن ثم فعلينا أن نؤمن قبائل الجعليين على عروبة هويتهم وإسلامها [عبدالله على إبراهيم، b1989].

الآفروعروبيون والحلف السناري

في مقاله "تحالف الهاربين" [1988: 111-112] يبدأ عبدالله علي إبراهيم هجومه على النظرية "الانحطاطية" عند ماكمايكل، وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام. يقول:

"… إن دعوة الهجنة في أصولها العرقية عند ماكمايكل وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام تنطوي على فرضية انحطاط. وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها عن امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الأفريقيين. فقد جاء عند ماكمايكل ما يوحي بأن "الدم" العربي أرفع من الدم الأفريقي. وجاء عند ترمنغهام أن الهجين العربي الأفريقي قد سرّب من العقائد إلى الإسلام ما أدخله في الوثنية. والواضح أن المكون الأفريقي في هذا الهجين هو أكثر من تأذّى بنظرية الانحطاط هذه".

بعد ذلك يتقدم عبدالله علي إبراهيم خطوة للأمام، فيكشف أن رعيل الأكاديميين الذي رادوا مدرسة الآفروعروبية قد تبنّوا نظرية الانحطاط هذه وأخذوها كمسلمة دونما روية أو تفحص نقدي [المرجع السابق].

ثم يتحول عبدالله علي إبراهيم إلى التجليات الأدبية والفكرية للآفروعروبية من خلال مدرسة "الغابة والصحراء". فهو يتوجه بالنقد لكتابات الرواد الأوائل لهذا الاتجاه، وهم محمد عبد الحي، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المكي إبراهيم، والنور عثمان أبكر. فيذكر أنهم عندما هاجموا العروبة، وسعوا للتبرؤ منها وعدّوا الانتماء لها تكبراً أجوف، وانتماءً متكبراً [المرجع نفسه: 112-115] ، ومن ثم نادوا بهوية أفريقية ابتنوا صورها من خيالهم الرومانسي، إنما استبطنوا ذات النظرية الانحطاطية دونما وعي أو رويّة منهم. فهم قد صوّروا العربي المسلم في صورة العقلاني المتسم بالرصانة والرزانة، في مقابل تصوير الأفريقي بالإنسان "المهذار"، "خفيف العقل"، "منتفخ الصدر" بالانفعالات والذي لا يملك إلاّ أن يرقص على أي إيقاع في سلوك انفلاتي الطابع دونما تقيد بالعقلانية. يقول عبدالله علي إبراهيم [نفسه: 112]:

"… أساء الآفروعروبيون إلى أفريقانيتهم من حيث أرادوا تعزيزها وتكريمها. فقد اصطنعوا في صيف سخطهم وبوهيميتهم الكظيمة أفريقياً وهمياً لحمته وسُداه معطيات أوروبية عربية رديدة عن أفريقيا مثل الطفولة والغرارة والمشاعية والروحانية وخفة القلب والولع بالإيقاع والرقص".

ثم يضيف أن الآفروعروبية في سعيها ذلك لا تهدف "… إلى تحجيم الانتماء العربي، بل إلى إجراء تحسين جذري في المكون العربي الإسلامي من الذاتية السودانية" [نفسه: 113] ، وذلك بغية حمل الثقافة الإسلاموعربية "الغبشاء المتشددة" على التلطف والسماحة، حسب تعبيره. لقد رفعت الآفروعروبية لواء الدعوة إلى وسطية إنتمائية بين العرب الخلص والأفارقة الخلص [نفسه: 117]. ولكنها لم تكن تملك برنامجا بخلاف ميكانيزمات الاستعراب التي شكلت إنسان سنار. ولهذا كانت "صورة أخرى من صور الخطاب العربي الإسلامي الغالب في السودان" [نفسه: 119]. "ومع ذلك لم تسعد الآفروعروبية أحدا" [نفسه: 117] ، فلا العرب وجدوا رحابة فيها لأنفسهم ـ فيما يرى عبدالله علي إبراهيم ـ ولا وجد الأفارقة أنفسهم فيها.

فما الحل؟!

الحل الذي يقدمه عبدالله علي إبراهيم يقوم على أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم في السودان عن البحث عن هوية أفريقية لهم. فكأنه يقول إن أي محاولة من هذا القبيل سيكون مصيرها ـ مهما تسلحت بأدوات الهجوم على العروبية ـ هو نفس مصير مدرسة الغابة والصحراء. وعليه فإنه لا مناص من أن يقبلوا بأنفسهم كعرب مسلمين، وأن يكفوا كذلك عن خلع سيماء الحضارة عنهم بدعوى الهجنة. يقول [نفسه: 119]:

"إن أفضل الطرق عندي أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم عن خلع بعض حضارتهم بدعوى الهجنة… فأهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين (أو أكثر) للثقافة السودانية".

وبهذا يكون عبدالله علي إبراهيم قد أتم بناء الزاوية الأولى في مشروعه ذي الأضلاع الثلاثة. ومشروعه يقوم على بناء حدود ثقافية Cultural Boundaries ـ اعتماداً على مفهوم الحدود عند بارث [1970] ـ بين أبناء الشمال العربي المسلم وأبناء الجنوب الأفريقي. فهذان هما القوامان، كما إن الفرصة متاحة لأقومة أخرى. وهنا لا يفصل لنا طبيعة الأخرى هذه، بل يتركها لنا كيما نذهب فيها مذاهبنا. ولا نملك هنا إلاّ أن نتم له جملته الناقصة، فنقول: "الفرصة متاحة للنوبيين والفور والبجا كيما ينفضوا عن هذا الحلف السناري ويكوّنوا أقومة خاصة بكلٍ". وهكذا يتفرق السودانيون أباديد في الآفاق مع اتجاهات الرياح الأربع: الشمال ـ الجنوب ـ الغرب ـ الشرق … ولا عاصم لهم من هذا الشتات إلاّ الوسط (الإسلاموعربي).

ولعمري، إنها العروبية، (وبالمكشوف)! وأي عروبية؟ إنها عروبية لا تنهض على كثيب مهيل بالحجاز، أو طلل دارس بتيماء، أو ريح صبا تهب عليك من تلقاء كاظمة. فهي عروبية لا تستمد مشروعيتها من اعتراف العرب بها، كما سعى إلى ذلك عبد الغفار محمد أحمد. إنها عروبية خاصة ومفصلة (بالمقاس) على أهل السودان الذين لا يعرفون غير العربية لغة وغير الإسلام ديناً، وكفى الله المسلمين شر الهجنة، فلكم دينكم ولي دين، ولكم جنسكم ولي جنس.

الإسلام الشعبي: دين الرِّجرِجة

هذه هي الترجمة التي اعتمدها عبدالله علي إبراهيم نفسه لمقاله [كشاف مجلة الدراسات السودانية، عدد 1-2 مزدوج، المجلد التاسع، ديسمبر 1989م، ص 55]. في إعاد ة تقويمه للدين الشعبي في مقابل الدين الاأورثوذوكسي. يبدأ عبدالله على إبراهيم بمهاجمة ماكمايكل وتريمنغهام ونظرتهم "الانحطاطية" [عبدالله على إبراهيم؛ a1989 : 149] مثلما فعل سابقا. فيذكر أن ماكمايكل نظر إلى الدم العربي على أنه أرفع من الدم الأفريقي [المرجع السابق]. عليه فإن سكان شمال السودان (الهجين miscegenation) ـ حسب فهم ماكمايكل وتريمنغهام، فيما يقول عبدالله ـ لا يعدون أن يكونوا تلويثاً للدم العربي النقي، وتسامياً بالدم الأفريقي [المرجع نفسه: 150]؛ كما إن الإنسان السوداني، حسب هذه النظرة، يزداد رُقيّاً كلما زادت فيه نسبة الدم العربي [نفسه].

بعد هذا يتحول عبدالله على إبراهيم للهجوم على تريمنغهام وفهمه للدين شعبياً وأورثوذوكسياً [نفسه: 151]. بينما يرى تريمنغهام تثاقف الإسلام مع الحضارة الشرقية الهيلينية كعملية تخليق وإبداع، فإنه يرى تثاقفه في السودان مع الثقافات والأديان المحلية كعملية انحطاط له [نفسه]. فالذين أتوا بالإسلام إلى السودان من العرب المهاجرين كانوا أنفسهم على جهل كبير به من حيث نقائه الأورثوذوكسي [نفسه: 152]. ولذلك فقد سمحوا للإسلام بأن يتشرب ويستوعب الكثير من الممارسات الدينية الأفريقية، والتي بدورها انحطت بالإسلام إلى درك الوثنية والشعوذة [نفسه: 153]. وقد تبلور كل ذلك في مؤسسة الصوفية وإسلام العامة [نفسه].

يبدأ عبدالله علي إبراهيم هجومه على تريمنغهام بإدانة لفيف الاكاديميين السودانيين الذين تبنوا المفهوم دونما روية أو تبصر رغم أن ترمينغهام نفسه حذر من هذا [نفسه: 153-154]. ثم يتكئ في إفتتاحية هجومه على رأي جي سبولدنق حول آراء ونظريات تريمنغهام. يلخص سبولدنق القضية في أن الذين ذهبوا هذا المذهب يصلون إلى إحدى نتيجتين: إما أن السودانيين سيئو الإسلام، أو أن إسلامهم يختلف عما عداه من إسلام الشعوب الأخرى [نفسه: 154]. إن كان الأول ـ إحالةً إلى سبولدنق ـ فإن هذا كلام يختص به الله دون خلقه، وإن كان الثاني، فإنه ينبغي تعريف إسلامهم وفق معايير إصطلاحية سودانية.

ويذكر عبدالله علي إبراهيم أن أكاديميي إسلام آسيا نافحوا بقوة ضد الفكرة القائلة بأن الإسلام عندما يتثاقف مع الأعراف المحلية ينتج عنه إسلام منحط [نفسه]. فقد فند بعضهم الرأي القائل بأن " الأسلمة" في بداياتها قد تبنت الكثير من الشركيات، الأمر الذي أفقدها نقاءها [نفسه]. والسبب الذي يمكن إرجاع كل هذه المفاهيم الخاطئة إليه ـ كما يرى عبدالله علي إبراهيم فيما يورد من رأي الأكاديميين ـ هو حركة الإسلاميين الذين يتخذون من الإسلام الكلاسيكي (أي الأرثوذوكسي) محكّاً يقيسون عليه تقدم الأسلمة في مستوياتها الإقليمية [نفسه]. إن الخطأ في هذا ـ كما يرى روي Roy، صاحب الرأي السابق نقلاً عن عبدالله ـ يكمن في الاتجاه نحو تقويم الظاهرة الإسلامية في مقابل من يؤمن بالإسلام على ضوء مدى التوافق مع المثل والمعايير الأورثوذوكسية [نفسه: 150]. إن هذا المدخل لا يساعد الشخص العادي المؤمن بالدين، كيما يحقق ذاته في دينه، بل يتم نفيه من الدين بهذا الفهم. ومكمن الخطأ هو أن الهدف لا يكون تدارس أمر الدين في المجتمع من حيث تفاعله، بل البحث والتحقق من وجود دين ما ـ بصيغة بعينها ـ من عدمه [نفسه]. عليه، فإن الأكاديميين الذين تبنوا مفهوم تريمينغهام للأورثوذوكسية والشعبية لم يكونوا يسعون لدراسة أمر الإسلام وتفاعله مع السودانيين، بل كانوا يدرسون أمر الإسلام في مواجهة السودانيين [نفسه: 158]. وإسلامهم الذي يبحثون عنه هذا لا يتوافر إلاّ في الكتب والمعاهد الدينية، بينما العامة لديهم إسلام خاص بهم. في هذا كانت الصفوة دائما هي حاملة لواء هذه الأصوليات (الأورثوذوكسية). ويرى عبدالله على إبراهيم أن هذه المعيارية الأصولية ـ أو ما يسميه بلاهوت الصفوة elite theology ـ قد تم لها الانتشار وسط العامة عن طريق التراث الشفاهي، ومن ثم أعطت لنا ما يظنه البعض لاهوتاً شعبياً folk theology، يقوم على الأصولية [نفسه: 167].

بهذا يؤسس عبدالله على إبراهيم الركن الثاني من ثلاثيته. فالإسلام الشعبي (إسلام الصوفية) هو النسخة السودانية من الإسلام. كما إن محاكمة هذا الإسلام بالمعيارية الأصولية يقوم على خطأ جسيم على المستوى المنهجي والعلمي. عليه، فإن الإسلام الشعبي صحيح معافى من ناحية عقدية وغير مشوب بالشعوذة والخرافات، إذ إن ما يسمى "شعوذة وخرافات" هو فولكلور الناس. وما الإسلام الأورثوذوكسي إلاّ نمط شعبي لمجتمع ما في زمن] ما، ولكن تم تجريده من تاريخيته حتى يصبح معياراً للدين؛ كما إنه يستصحب معه فولكلور أهله بكل ما يشتمل من أساطير وخرافات (الجن، السحر، العين) إلخ.

بهذا يسبغ عبدالله علي إبراهيم المشروعية الإسلامية على نمط حياة شمالي السودان من العرب المسلمين. فعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم تتفق تماماً مع إسلامهم الخاص بهم. كما إن هذا النمط من الإسلام هو الوحيد القادر على إشباع الحاجة الإنسانية للدينونة فيهم، ولا يستقيم أمرهم إلاّ به. وما احتفاء العامة بالشعارات الأورثوذوكسية التي يرفعها الأصوليون إلاّ ناتج انتشار الشعارات ـ دون انتشار دلالاتها العملية ـ وسط العامة ضمن ميكانيزمات التراث الشفاهي. عليه، فإن الأصولية الإسلامية مرفوضة لا على أنها هوس ديني، بل على أساس مجانبتها وتناقضها مع "الإسلام السوداني".

هكذا يقلم عبدالله علي إبراهيم أظفار الاشتطاط الديني في صمدية علمية تنهض على علم أنثربولوجيا الأديان، لا على كتب الفقه والحديث "الصفراء". فالأصولية الإسلامية هي عامل تفتيت في الجسم العروبي الإسلامي في السودان. الأمر الذي لا يتفق والاستقطاب الذي بلغ ذروته في هذه المرحلة. عليه، لابد من تماسك الجبهة الداخلية.

إعادة الاعتبار إلى هوية الجعليين

وهذا هو الركن الثالث في مشروع عبدالله علي إبراهيم ثلاثي الأركان. وقد ورد حديثه في مقاله الذي رأينا أن نترجمه: "ماكمايكل وانكسار يراعه: إعادة الإعتبار لهوية الجعليين" [b1989]. وهو هنا لا يستهدف بدراسته قبيلة الجعليين الصغرى والتي حاضرتها المتمة، بل يعني قبيلة الجعليين الكبرى بما تشتمل من بطون مثل الشايقية، الرباطاب، الميرفاب…إلخ [المرجع السابق: 227].

وتقوم مرافعته على أنه من حق الجعليين أن ينسبوا أنفسهم إلى العباس أو من شاءوا دون أن يكون ذلك مدخلاً أكاديمياً يلج منه الباحثون لدحض هذا الزعم بالنظر إليه كفرية. فيقول: "إن اختراع هوية دينية، أو إثنية ليس مجرد ممارسة عامة، بل هي أيضاً مشروعة" [المرجع نفسه: 221]. ويستشهد في هذا برأي مايكل هيرزفيلد ومسألة انتساب الإغريق للثقافة الهيلينية. ويأتي عبدالله باقتباس من هيرزفيلد يوضح فيه كيف نتعامل مثلاً مع النّسّابة كإخباريين ميّتين. يقول الاقتباس [مايكل هيرزفيلد؛ 1982: 4]:

"إن الأنثربولوجي لا يحاول أن يكشف جهل إخبارييه فيما يختص بعالمهم الثقافي؛ ولكن من الممكن أن يقول شيئا عن كيف كانوا يدركون ويوضحون عالمهم ذلك. وبنفس هذه الروح، فإن هدفنا هنا ليس مناهضة الأساس الوقائعي لدراسة الفولكلور الإغريقي، أو أن نعامل دوافع مبادئهم على أنها بشكلٍ ما كانت مغلوطة. وبما أننا نعامل هؤلاء، من حيث أنهم مصادر دراسية، "كإخباريين" قادمين من الماضي، فإنه لا ينبغي لنا أن نتجادل معهم، مثلما لا ينبغي أن نقسر أحد الاخباريين الأحياء على تبني نظرية أنثربولوجية بعينها. بالتأكيد هناك أخطاء وقائعية وافرة في هذه المصادر، بالدرجة التي تغري الواحد منا كيما يتفوه معرّضاً بمعاييرهم البائسة، أو حتى المزيفة. إلاّ أن الاتهام بفساد الاعتقاد يفضي بنا إلى لا شيء ـ خاصة عندما يكون هدفنا هو الكشف عن لماذا اعتقد "إخباريونا" أنهم كذلك، أكثر من أن نفترض الإجابة مقدّماً".

بعد هذا يتحدث عبدالله علي إبراهيم عن أن الإثنية لا تبني هويتها إلاّ على الحقائق التي تخدم أغراضها الأيديولوجية. فهي تستمد ذلك من الاستقراء الثقافي للسلالة والنسب، وليس من التحري الوقائعي للأحداث والتاريخ. فإن انتساب النفس لما تهوى أساس لقيام الهوية [عبدالله علي إبراهيم،b1989: 222-223]. وبهذا يمنح عبدالله علي إبراهيم بطون الجعليين "بركته" و"صكوك المشروعية" في أن ينتسبوا إلى العباس دون أن يكون لكل الأخطاء والتناقضات التاريخية الواردة في شجرة نسبهم أدنى اعتبار أو أن تكون مدخلاً للتعريض بهم أو الهزء. فالنسبة بناء على ما قاله إيان كونيسون هي مجرد أيديولوجيا [كونيسون، 1971: 144] تخدم الحاضر موظفة في ذلك الماضي [المرجع السابق: 189].

وقد انتقد عبدالله علي إبراهيم في فترة سابقة من حياته العلمية مشكلة الشطب في قوائم الأنساب من قبل الكتاب النسّابين حتى يتفق ذلك مع ما يرونه صحيحاً [عبدالله علي إبراهيم، بدون تاريخ: ف]. وقد عاملها ـ بخلاف فهمه الحالي ـ كوثائق تاريخية "سيئة الإعداد" لما تحفل به من أغلاط. فقد حمل على النسّابة قائلا: "… آفة كتب النسبة السودانية التقليدية عدم درسها الممحص للمؤرخين القدامى. وهو إهمال انتهى إلى أغلاط لا حصر لها" [المرجع السابق: ظ]. وكأنه كان يتمنى أن تتوافر كتب نسبة تقوم على الوقائعية التاريخية ويُعتدُّ بها في حل إشكالية القبائل في السودان. فيما بعد أشار عبدالله علي إبراهيم إلى الطبيعة الأيديولوجية للأنساب [عبدالله علي إبراهيم، 1999]. على أيٍّ، فإن عبدالله علي إبراهيم قد تجاوز تلك المرحلة، وإن يكن قد أغفل ذكر ذلك عندما ابتنى له مواقف جديدة ناقضة لتلك القديمة.

وبعد، فإننا في نقدنا له سننطلق مما قاله إيان كونيسون من أن النسب ما هو إلاّ سلاح أيديولوجي يستخدم في عملية ممارسة السلطة، وصراع الإنسان ضد أخيه الأنسان في سبيل احتياز أكبر قدر من الخيرات المادية في هذه الحياة. وهذا ما يؤكده عبدالله علي إبراهيم فيذكر من واقع تجربته مع الرباطاب أن الناس هناك ينظرون إلى من يستشهد بشهادات النسب المكتوبة نظرة ريبة وتشكك في صحة نسبه [عبدالله علي إبراهيم، b1989: 226]. وفي تبريره لرفض الرباطاب لشهادات النسبة المكتوبة يقول: "إن نظرة الرباطاب السلبية للنسبة المكتوبة ربما تكون تعبيراً عن عدم ارتياحهم لها باعتبارها غزواً للقراءة والكتابة" [المرجع السابق]. وهنا نراه يقترف الإثم الذي قارفه سابقوه، فأدانهم عليه في نفس مقاله؛ ألا وهو "شغل التخمين guess work" [المرجع نفسه: 222-224].

ولكن السبب في ذلك ـ كما نراه وكما يعكسه عبدالله علي إبراهيم دون أن يسميه ـ هو أن من يحتاز على هذه النسبة فقد احتاز شرفاً كبيراً ومكانةً كبيرة، معنوية ومادية، كامتلاك الأرض مثلا. فالبدو المجاورون للجعليين ـ وإن كانوا صرحاء العروبة ـ يحرمون من هذه النسبة، الأمر الذي يستتبع عملياً حرمانهم من ملكية الأرض، ولو ملكوا المال والرغبة لذلك. يورد عبدالله علي إبراهيم حكاية أن أحد هؤلاء البدو تمكن بطريقة ما من افتتاح متجر بماله في منطقة الرباطاب، فكان أن علق في مدخل "دكانه" شهادة نسب تلحقه بجعل بن العباس، أي بالجعليين. ومع ذلك لم يسلم من هزء وسخرية الرباطاب اللاذعة. فقد باشره على ذلك أحدهم قائلا: "إن تعليقك لهذه النسبة يشبه الذي يطوِّح بصنارته (جبّادة) في الماء دون أن يثبّت نهايتها بوتد" [نفسه: 226].

وهنا يكمن السبب في موقف الرباطاب السلبي من شهادات النسبة المكتوبة. فالتداول الشفاهي لأنسابهم ما هو إلاّ تكتيك لتكريس حدودهم الثقافية طالما أن القائمين على أمرها هم حفظة هذه الحدود. فالبدوي لا يستطيع أن يحمل هؤلاء الثقاة على ضمه إلى إحدى فروع شجرة النسب العباسية طالما كانت شفاهية التداول. ولكن إذا أصبح أمر النسب عبارة عن شهادة مكتوبة ومعلقة في إطار على الجدار، فإن أيّ بدوي سيكون في مقدوره أن يتسلق هذه الشجرة المباركة، وأن يأكل من ثمارها المحرمة على الآخرين. وثمارها بالطبع ملكية الأرض وكل الامتيازات والخيرات المادية الحياتية اليومية، وهنا مربط الفرس.

إن توصيف وتشريح ميكانيزمات هذه الظاهرة هو دور الأنثربولوجي، ونتفق تماماً في أنه لا ينبغي له أن يدخل في مغالطات مع النّسّابة معرّضاً بما يمكن أن يكون تزييفاً للتاريخ. في هذا نحن متفقون. ولكن عبدالله علي إبراهيم يورد كل هذا لجعله أساساً لقفل أي مدخل أكاديمي يمكن أن يلج منه الباحثون (ليس بالضرورة أن يكونوا أنثربولوجيين لامنتمين للصراع) لجزّ فروع شجرة النسبة واستئصال شأفتها بغية خلق التوازن في الامتيازات والخيرات المادية. فعبدالله علي إبراهيم يؤسس أكاديمياً وعلمياً لمشروعية النسب العباسي للجعليين، ومن ثم ـ اجتماعياً ـ ما يستتبع ذلك من امتيازات.

وهنا لا نظن أنه يفوت على عبدالله علي إبراهيم أن الهجوم على شجرة الأنساب وعلى عروبة الجعليين نفسها إنما هي شكل من أشكال الصراع الثقافي والأيديولوجي في السودان: إنه الصراع حول السلطة؛ صراع الهامش والأطراف بادية التأفرق ضد المركز الإسلاموعروبي. الهامش يتسلح بالعلمية والأكاديمية في سعيه هذا متخذاً من شنيعات الأخطاء التاريخية التي تحفل بها شهادات النسبة مدخلاً لدحضها وكشف زيفها. والمركز بدوره يتسلح بالعلمية والأكاديمية ليضفي المشروعية على أنسابه اعتماداً على أن الأنثربولوجي لا ينبغي له أن يدحض هذه الأنساب رغم ما تحفل به من أخطاء ومغالطات. وهذا الدور يقوم به هنا نيابةً عن المركز الإسلاموعروبي عبدالله علي إبراهيم نفسه في موقفه هذا. وهنا تتهتّك المسوح الأكاديمية لعبدالله علي إبراهيم لتكشف عن موقفه الأيديولوجي من عملية الصراع الثقافي في السودان. إذ إن بالنسب هذا، وبأدوات أخرى، يُمارس في السودان "القهر الثقافي" و"الاضطهاد والتطهير العرقي" وما يتبع من امتيازات مادية، دنيوية.

صفوة القول

إن مشروع عبدالله علي إبراهيم يتلخص في أنه لا مجال لإدعاء هوية آفروعروبية في السودان، لأنها مهما تمسّحت بالأفريقانية فإنها لن تعدو أن تكون شكلاً آخر من أشكال الخطاب الإسلاموعروبي الغالب في السودان. كما إنه لا يجوز أن نخلع عن أنفسنا ملامح حضارتنا العربية الإسلامية إدعاءً للهجنة.

ثم علينا أن نحصّن أنفسنا من أي احتمالات انجراف نحو "الهوس الديني". والطريق الأمثل لذلك هو أن نكرّس "الإسلام الشعبي" بالنظر إليه كنمط صحيح ومعافى وليس مشوباً بالخرافات الوثنية. عليه لابدّ من قفل الطريق أمام الإسلام "الأورثوذوكسي".

وأخيراً، لا مشاحة من أن نفخر بانتسابنا للعباس، كما لا غضاضة من أن نحتفي بأشجار النسب، دون أن نعير أغلاطها وأخلاطها أدنى اعتبار. فقيمة الأنساب ليست "تاريخية" بل "أيديولوجية".

تحالف الهاربين … لماذا؟

لقد عني عبدالله علي إبراهيم بمصطلح "تحالف الهاربين" أولئك الذين هربوا من هويتهم إدعاءً لهويات لا أساس لها من الواقع. ونحن هنا نعني عكس ذلك. نعني أولئك الذين اختطوا لهم هويات بخلاف الهوية العربية، ثم هربوا فيما بعد من هوياتهم المصطنعة هذه ـ على حدة أو جماعات ـ اعتصاماً بهوية لهم أسميناها السودانوعروبية هي بنت الآفروعروبية التي كانت بدورها بنت المدرسة الإسلاموعروبية في السودان.

فمثلا الأب الروحي للآفروعروبية، محمد المهدي المجذوب، عاد في أخريات أيامه إلى الإسلاموعروبية ليصف العرب على أنهم جبابرة، بعد أن سعي للتبرؤ منهم في أربعينات القرن العشرين. فهو يقول في رسالة كتبها إلى محمد عبد الحي سنة 1981م ما يلي:

"كنت في الدوحة ورأيت عمي عبدالله الطيب هناك وألقى محاضرة طيبة جداً فحواها الرجعة إلى تعليم اللغة العربية كما كان يفعل الأشياخ.. على المتن حاشية وعلى الحاشية حاشية.. وقلت لنفسي إن اللغة العربية لغة جبابرة" [ أنظر نص الخطاب في مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى، 1991م، ص 210]. (التنقيط جاء في الأصل)

ولا يخفى المنحى الأيديولوجي في هذا الحنين الطاغي للأصولية العربية ولأهلها (الجبابرة). وتتبدى الأيديولوجيا الإسلاموعروبية أكثر، عندما يظهر تبنيه لذات تكتيكات القهر الثقافي العربي إزاء أجناس الإبداع الثقافي السوداني الأخرى. فهو يقول في نفس خطابه:

"أرتاح جدّاً إلى سماع المديح في هذه الأيام والمدّاح رجل مثقف مبارك شاعر بارع له وجد ولوعة.. ولكن الناس هنا أسماعهم إلى الصُّيَّاع وغيرهم ـ ووالله والله قد صدق السناريون حينما جعلوا المغني صائعا والكلام طويل وبراهينه حاضرة .. ولو كان الأمر بيدي لجعلت الإذاعة والتلفزيون كلها مديحاً في الذات المحمدية على صاحبها أفضل السلام" [المرجع السابق]. (التنقيط في الأصل)

وكلنا يعلم أن كلمة "الصيَّاع" هي الاسم الذي أطلقته ثقافة الوسط الإسلاموعروبي على المغنين. ولنا أن نتصور المسافة التي قطعها محمد المهدي المجذوب في رحلة هروبه من الرغبة في أن يسير في الشارع يغني ويرقص وهو في حالة سكر شديد غير عابئ بأنسابه القرشية، إلى رجل يفخر بعمه ونسبه (ونسبه إلي العباس، والعباس من قريش)، ثم يعلن عن رغبته في تكميم أفواه كل من يترنم بلحن خلاف مديح النبي محمد (ص). إن محمد المهدي المجذوب هنا ينتمي بحق إلى ذات ثقافة القهر التي كانت بأمدرمان والتي حالت دون أن يتغنى خليل فرح بألحانه علانية خشية أن ينظر إليه على أنه من "الصيّاع" فيسقط في نظر المجتمع. وهذه هي المصادر الديكتاتورية القهرية التي اتّسمت بها أنظمة الحكم الغاشم في بلادنا، بدءً بدولة الخليفة عبدالله التعايشي انتهاءً بدولة الإخوان المسلمين أو كيفما جرى تقلّب أسمائهم، وكأنّي بهم قد سعوا إلى تقيق رغبة المجذوب في جعل جميع البرامج دينية.

أما إذا جئنا إلى محمد عبد الحي، فنجده قد بدأ آفروعروبيا متحمساً، رافضاً الإنتماء للعرب، واصفاً هذا الإنتماء على أنه "أجوف وتكبر". ثم لما امتدّ به العمر، وتجاوز غلواء الشباب، عاد ليعتصم بذات قلعة عروبته. فقد ذكر في خطاب كتبه لصديق له بتاريخ 2/8/1988م شارحا كيف رفض حزب الأمة، وذلك عندما انضمّ له إبان الديموقراطية الثالثة، أسلوبه وحججه في الحوار حول التناقض المذهبي بين الشيعة ومن ثم إيران، والسنة ومن ثم العرب، قائلا:

"ويخيل إليَّ أنهم رفضوني لأني دافعت عن جوهر الأمة العربية ونبيها العربي، يوم أن وقفت شارحاً للمفهوم الفارسي والمفهوم العربي كقوميتين بدآ حقبا طويلاً في طفولة التاريخ يتناحران ويتحاربان. وسواء رضيت أم أبيت لي تراثي العربي، ولي لساني العربي ولي عقيدتي السنية" [راجع نص الخطاب في المرجع السابق، ص 211].

ونكاد نلمس جهده في تبرير موقفه مع نفسه. فهو متنازع بين الرضى والرفض: الرضى الأيديولوجي اللاشعوري عن الهوية الحقة، والرفض الزائف الظاهري لها. كما نجده يقول في نفس الخطاب مدعماً لتبريراته: "وتراث الإسلام تراثنا، وعقيدته عقيدتنا وثقافته ثقافتنا ـ إن المرء في أول شبابه يشرّق ويغرّب، ولكنه أخيراً يستقر في تراثه وعقيدته" [المرجع السابق]. ولا يحتاج هذا الكلام منّا إلى تعليق.

لقد تواطأ ذلك الجيل مع التيار العروبي من حيث ظن أنه قد ثار عليه. لقد كان صادقاً في توجّهه نحو "أفريقيا"، وفي عزمه لاقتحام "الغابة"، ولكنه ما كان يملك أي أدوات بخلاف محركات وعيه العروبي. لقد ركبوا للغابة جمالهم ونياقهم.

أما إذا جئنا إلى عبدالله علي إبراهيم نفسه، فنجد أنه قد بدأ بانتمائه إلى "مدرسة أبادماك" الأدبية. كما إنه هو نفسه ـ حسبما أورده عبده بدوي [1981: 52] ـ الذي أطلق اسم "أبادماك" على تلك المدرسة. [في حديث شخصي لي مع عبدالله علي إبراهيم بالخرطوم منتصف 1996م ـ إثر قراءته لمسودة هذا البحث ـ نفى هذا الأمر، مشيراً إلى أن عبدالله جلاّب هو صاحب الشرف في اقتراح اسم "أبادماك" لجماعتهم الأدبية]. أي أنه ضرب بناقته في فيافي الماضي السحيق مفتشاً عن هويته بين أروقة ومعابد الحضارة المروية. كما إنه كان في ماضي شبابه ماركسياً لينينياً لينتهي اليوم عروبياً مسلماً (ولا يظنّنّ أحد أننا نغمز ونلمز إلى مُسفِّ القول وركيكه من إلحادية الماركسية وما جرى مجرى ذلك، ولكنّا نشير إلى الجغرافيا الفكرية الشاسعة بين العالمين وحسب). إذن فها هو عبدالله وقد "شرّق وغرّب"، ثم استقر أخيراً في تراثه وعقيدته ـ باستخدام ألفاظ محمد عبد الحي.

في مايو 2003م نشر عبدالله علي إبراهيم سلسلة من المقالات بجريدة الرّأي العام السّودانيّة [كان قد صرّح بها في مقابلة من قبل بجريدة أخبار العرب الإماريتية بتاريخ 11/7/2001م]، استندت على محاضرات كان قد قدّمها هنا وهناك ما بين السودان وبعض دول الخليج. في هذه المحاضرات نحا عبدالله إلى استخدام مصطلحات عالية التحميل، مثل "تطبيق الشريعة" وما شابه، بطريقة جعلت الكثيرين يذهبون إلى أن الرجل قد كشف عن أقنعته الحقيقية أخيراً. كما أشفق عليه الكثيرون من معجبي فكره ممن لا علاقة لهم بالحركات الإسلامية الأصولية الداعية لتطبيق الشريعة. لكن لا شيئ أبعد من الحقيقة من ذلك، فالرجل في واقع الأمر يعمل على إيلاف مستعربة السودان من عروبيين وإسلاميين، فيما سنشرح أدناه. من ذلك مثلاً قوله: "أريد في هذه المقالات.. أن أرد إلي الشريعة مطلبها الحق في أن تكون مصدراً للقوانين في بلد المسلمين. ولست أري في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين. ولست أدّعي علماً فيما يجدّ غير أنني أتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب ذوق الشرعيين بها من قضاة المحاكم الشرعية علي عهد الإستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها..". أُنظر كيف أن الرّجل لا يطالب بتطبيق الشّريعة، كما لا يطالب بأن تكون "مصدراً للقوانين"، أي للتّشريع. لكنه يريد أن يردّ لها "... مطلبها الحق في أن تكون مصدر القوانين في بلد المسلمين ..."، ثُمّ على أيّ كيفيّة تراه سيردّ لها "مطلبها" هذا؟ على طريقة "... قضاة المحاكم الشرعية علي عهد الإستعمار وما تلاه ... ". ولكن تُرى متى طالبت الشريعة بذلك، أم أن ذلك مطلب الإسلاميين الأصوليين؟ وحتى في أدب الأصوليين، هل يطالبون بالشريعة كما جرى بها خطاب القضاء الشرعي مما عُرف زمن المستعمر وما تلاه؟ علم الله أن تلك ليست ما يطالب به الأصوليون. إن ما يبدو على أنه تخليط غير موفّق للمفاهيم، سيستقيم على قدميه إذا نظرنا إليه باعتباره مشروعاً لإيلاف الإسلاميين عروبياً، خاصةً من أُحبط منهم إسلامياً بالممارسة غير الرشيدة التي ظَلَع بها الإنقاذيون ـ وذلك بعد أن عمل عبدالله ما فيه الكفاية لإيلاف العروبيين.

جُبل نظام الإنقاذ علي هشاشةٍ فكرية فتّت في عضُد التنظيم القوي مما أسلمته إلى التراخي وانتهت به إلى الانبطاح التام في الفساد الزاخم. لعب كل ذلك دوراً خطيراً في توعية عدد كبير من صادقي الإخوان المسلمين بخطل الاستناد على الشعارات التي تنفخ الصّدر دون العمل على تنزيلها إلى رؤى فكرية، عملية قابلة للتّنفيذ. وقد أدّى هذا بالعديد من الكوادر الصادقة مع النفس إلى التّهيؤ للانفضاض عن الحركة جملةً وتفصيلاً جرّاء الإحباط والإحساس بالفشل. في المقابل انفضّ العديد من كوادر العروبيين بالسودان عن فكرة القومية العربية، خاصّةً بعد غزو العراق للكويت مُحبطين ممّا بدا أنّه فشل للفكرة نفسها. بالنّسبة لعبدالله علي إبراهيم فإن تماسك الجسم العربي المسلم بالسودان يمثّل هدفاً أساسياً. لذلك فإن انفضاض الكوادر النّاشطة عروبياً وإسلامياً من سابق مواقفها التّنظيمية بسبب الإحباط، يُعتبر خسارة للجسم العربي المسلم بالسودان. فهذه الكوادر ـ بحكم كونها ناشطة وعالية التّنظيم ـ يمكن أن تلعب دوراً أخطر إذا ما اتّخذت من فشلها نقطة انطلاق نحو تطوّر جديد بدلاً من الرّكون للإحباط.

هنا يأتي مشروع عبدالله في إيلاف هؤلاء داخل مشروعه. وتكمن خطّته في استخدام مفرداتهم الفكرية في غير مدلولاتها الخطابية. وهذا تكتيك في ظنّنا أنّ عبدالله قد حذِقه من خبراته الماركسية السّابقة. وهو من قبيل تناوش المفكّرين على "عَظْمة" المصطلحات ذات الجاذبية الخطابية، حيث يسعى كلّ جانب إلى تحميلها بمدلولاته المناقضة لمدلولات الطّرف الآخر. أُنظر مثلاً إلى الماركسيّين أُخريات القرن التّاسع عشر كيف تناوشوا مع الليبراليّين حول "عَظْمة" "الدّيموقراطيّة"، حتّى إذا جئنا إلى منتصف القرن العشرين، أصبحت جملة "هذا شخص ديموقراطي" تعني أنّ هذا شخص ماركسي بدلاً من ليبرالي. وهكذا بالنسبة للعروبيين فإن القول بأن السودانيين عرب، يُمثّل أرضية جيّدة للإيلاف. بينما تُمثّل الدعوة إلى عروبة خاصّة بالسّودان أرضية فكرية صلبة تُبرّر نفض يدهم عن دعوى القومية العربية الخاسرة، دون قطع الصّلة بالعرب. أمّا بالنّسبة للإسلاميين، فإن ترداد أن تكون "..الشّريعة .... مصدراً للقوانين في بلد المسلمين" أجدى في إيلافهم؛ هذا مع إمكانية علمهم بأن الجملة تُستخدم في غير مدلولها الخطابي القديم. الشريعة هنا هي شريعة القُضاة الشرعيين، أي شريعة الأحوال الشخصيّة، وليست شريعة الجلد والقطع والصلب.

الهروب الكبير إلى السودانوعروبية

التيار العربي الإسلامي: رأس الرمح

وبعد، إن ركب الهاربين يضم آخرين جاءوا من تيارات إسلامية بحتة كما يضم من جاءوا من تيارات عروبية بحتة. من التيار الإسلامي نضرب مثلاً بأحد أعمدة إتجاه سودنة العروبة ألا وهو جعفر ميرغني. يقول في أحد أشهر أبحاثه:

"كتبت جميع ما كتبته فوق ليكون سبباً وتمهيداً لدراسة المُعرّبات السودانية وهي الألفاظ المهاجرة من لغات سودانية إلى اللغة العربية، فلحقها حين خرجت من لسانٍ إلى لسان جميع ما بينّاه فوق. ولا نريد بالمُعرّبات السودانية تلك التي جرت على ألسنة عرب السودان وحدهم بل نريد بها أيضاً ما دخل اللغة العربية الفصحى نفسها من أزمان متقادمة والعرب بعد في جزيرتهم لم يبرحوها." [1991: 52]

لقد كان جعفر ميرغني في الحركة الإسلامية الأصولية بالسودان (تنظيم الإخوان المسلمين بزعامة حسن الترابي) حتى أواخر الستينات، ليتحول بعدها تدريجياً حتى بلغ ما وصل إليه من الاعتصام بالعروبة المتسودنة. إنه في مسعاه هذا يختط له عروبة سودانية خاصة بأهل السودان. إن رسخان قدمه ـ كما يرى هو ـ في تسودن عروبته، وليس في استعراب سودانه. ولهذا ينحو لسودنة اللغة العربية العالية، دون العامية العربية السودانية. ثم إنه سيسعى في خاتمة أمره ـ من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "أضواء على الحضارة السودانية" ـ إلى تفسير مَعميّات الحضارة المروية عبر اللغات السامية عامةً واللغة العربية خاصةً ليجمع بطريقة نقيضية بين تعريب تلك الحضارة وسودنة الساميات أي سودنة العروبة.

من جانب آخر، إذا جئنا إلى الهاربين من التيار العروبي الصريح، فيمكننا أن نمثّل هنا بعبدالله الطيب، وهو أحد أساطين علوم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد طرح عبدالله الطيب نفسه، منتصف القرن العشرين، مؤمناً بكل نظريات الأنثربولوجيا العرقية وهي في خريفها، وذلك بخصوص نظرته للأفارقة والأعراق السوداء ـ السودانية خاصة. ففي 1955م عندما اندلعت أحداث التمرد في الجنوب، وما أعقب ذلك من عمليات قتل جماعية "للشماليين" بجنوب السودان، كتب عبدالله الطيب في الصحف مشدداً على أخذ "الجنوبيين" بالشدة باعتبار أنهم قوم بدائيون، جفاة لا يصلح معهم غير ذلك، متكئاً في ذلك على وجهات نظر الأنثربولوجيا العرقية، ومتخذاً من أساليب الاستعمار الإنكليزي نموذجاً. فقد دعم رأيه ذلك بالفائدة التي رأى أنها عادت على الاستعمار الإنكليزي جراء اتباعهم الأساليب الوحشية الفظيعة ضد المُسْتَعمَر [عبدالله الطيب؛ a1955]. وقد أتبع ذلك بمقال آخر شدد فيه على عدم فصل الجنوب، لا باعتباره جزءً لا يتجزأ من السودان، بل لمجرد التمكن من ضبطه حتى لا يتحول إلى باب خلفي يلج منه الاستعمار. ثم راح يهون من أمر استقلال السودان دون اتحاده مع مصر قائلاً بأن الوحدة هي "وحدة القلوب ووحدة المصالح ووحدة النيل ووحدة اللغة ووحدة التراث والدين"، مشيراً إلى أن ذلك هو ما عليه الحال مع مصر [عبدالله الطيب: b1955]. ولك أن تقارن حال مصر وحال جنوب السودان من حيث إحساس عبدالله الطيب بالانتماء إليهما. ففي حال مصر يظهر بصورة الأشقاء المجتنى عليهم بتفريقهم. أما في حال جنوب السودان، فلا صورة إلاّ صورة "الشمالي" المُستَعمِر للجنوب المغاير والمختلف عنه في كل شيء. وقد جاءت قصيدته التي نشرها في نفس الفترة وعن نفس الأحداث منسجمة مع مجمل نظرته تلك [عبدالله الطيب: 1992]. وهنا نجد لزاما علينا أن نشير إلى أن هذه القصيدة قد حُذفت منها أبيات لدى نشرها في الديوان ـ كما يذكر ذلك الشاعر نفسه. وقد بذلنا جهدا كبيراً في دار الوثائق المركزية للعثور على نصها الأصلي الذي نشر في صحيفة الرأي العام إبان أحداث التمرد، إلاّ أننا فشلنا في أن نقع عليها. وقد استجار في افتتاحية القصيدة بقبر تاجر الرقيق المعروف الزبير باشا، فقال:

ألا هل درى قبـرُ الزبيـرِ بأننا نُذَبَّح وَسْـطَ الزّنـجِ ذَبحَ البهائم

ثم يختتم بقوله:

فيا ليت شعري هل قضى الله أننا عبيدٌ نُسـام الخسَفَ ضربة لازم

تتلخّص الرسالة الوحيدة التي تبلّغها تلك الاستجارة على النّحو التّالي: إن الذين كانوا رقيقاً وعبيداً لنا، تشتريهم وتبيعهم يا الزبير باشا، أصبحوا الآن يقتلوننا وييتموا أطفالنا ويسبوا نساءنا. فليت شعري من يبعثك من قبرك لتردهم إلى "خانة" العبيد مرة أخرى! فإذا كان هذا هو ما ثُبّت في الديوان، فماذا يا تُراه قال أكثر من ذلك مما لم يقدر على إبقائه، فقام بحذفه؟

ولكن، ما إن دخلنا العقد السابع من القرن العشرين وبدأت رياح التغيير في هبوبها، حتى شملت الموجة عبدالله الطيب نفسه، فأصبح يجتهد في تأسيس وعي عروبي خاص بالسودان ولكن على صعيد الاحتجاج اللغوي المباشر والمستند على البيّنات والأدلة المبثوثة في كتب التراث. فهو يتحدث في مقدمة ديوانه، أصداء النيل [المرجع السابق: 20-23] عن أن لون العرب أصلاً هو اللون الأسود، والأخضر، ويأتي بالعديد من الأمثلة، ليخلص إلى أن لون الجعليين (أي قبائل وسط السودان النيلية المستعربة) هو لون العرب الحقيقي، أما البياض الذي عليه لون العرب العاربة اليوم فهو من أثر الاختلاط بالروم والتسري بالإماء من الفرس والروم وخلافهم. وقد أشرنا إلى أن أحمد محمد مالك قد استند على مثل هذا القول وذهب هذا المذهب، أعلاه. كما نشير إلى أن جعفر ميرغني [1991] قد ذهب إلى هذا أيضاً.

في سنة 1990م أصدر عبدالله الطيب الطبعة الثانية من كتاب الأحاجي السودانية، مضمنا إياه قصتين هما "دريس" و "تاجوج والمحلق وهمهوم"، وهما من حكايات قبيلة الحمران البجاوية بشرق السودان، وذلك تمشيّاً مع تيار "الأفرقة" الصاعد ـ كما ذكر في حديث شخصي بدار جامعة الخرطوم للنشر، وذلك لدى شروعه في إعادة طبع الكتاب إياه، وكنت حينها بقسم التحرير. وكان مما ينتقص كتابه حقّاً هو اختزاله للأحاجي السودانية في أحاجي قبائل وسط السودان المستعربة فقط.

بعد ذلك تقدم عبدالله الطيب خطوة أكثر نحو سودنة العروبة والإسلام، وذلك عندما ذهب إلى الزعم بأن "حبشة النجاشي" التي هاجر إليها صحابة الرسول (ص) لم تكن سوى مملكة علوة المسيحية بالسودان وعاصمتها سوبا [عبدالله الطيب؛ 1998: 159-164]. ونحن لسنا بصدد نقد ما ذهب إليه، لكن نكتفي برصد المنحى السودانوعروبي لعبد الطيب، الذي بدأ عروبيا متأفّفاً من الأفارقة السُّود، وانتهى به الحال إلى سوداني أفريقي يسعى لابتناء واختطاط هوية عربية خاصة به كسوداني، لا تستمدّ معياريتها من الجزيرة العربية، بل من السودان. ولا يقدح في منحاه هذا انسياقه مع الاستقطاب الأيديولوجي العروبي في حال تطرفه السياسي الناشب إبان سني نظام الإنقاذ الكالحة، للحد الذي ذكر فيه أنه ينبغي تطبيق التعريب حتى لو كان ذلك على حساب التعليم [راجع نص الحوار في جريدة أخبار اليوم، الخرطوم، 31/8/1994م.].

السودانوعروبية وكتّاب القصة

شهدت الساحة الثقافية والفكرية السودانية العديد من الأشخاص الذين كانوا ينتمون لمدرسة الآفروعروبية، حتى لو لم يكونوا ينظرون إلى أنفسهم كذلك. وبأفول شمس الآفروعروبية غير المعلن، وغير المستشعر من قبل الكثيرين، أصبح هؤلاء أكثر تهيؤاً للانخراط في ركب التيار السودانوعروبي الذي يقوده عبدالله علي إبراهيم. إن عدم الوعي الأيديولوجي لدى الكثيرين بمواقع أقدامهم يجعل منهم رصيداً جاهزاً للسودانوعروبية. إنه نفس عدم الوعي الأيديولوجي الذي دفع مفكراً وباحثاً سودانياً ـ أفريقياً مثل فرانسيس دينق إلى أن يبدو في بدايات السبعينات وكأنه يتبنى الموقف الآفروعروبي؛ إذ يمكن تصنيف كتابه "ديناميكيات الهوية" [مرجع سابق] باعتباره جنسا genre من أجناس الخطاب الآفروعروبي. ثم إنه ليبدو كذلك أيضاً في أواخر الثمانينات. ففي روايته طائر البوم [1988] يسوقنا فرانسيس دينق، ممثلا في بطل القصة (بول)، عبر مشوار إعادة إنتاج الهامش في المركز؛ إذ تنحصر الحبكة في النهاية حول ما إذا كان سيتم القبول ببول كعضو معترف به في مجتمع المركز الإسلاموعروبي (في أمدرمان طبعا!) وذلك من خلال تمكنه من الزواج من إحدى بنات هذا المجتمع المعاد إنتاجه.

هنا سنشير إشارات عابرة لثلاثة من كتاب القصة السودانيين هم: الطيب صالح، إبراهيم إسحق، ثم بشرى الفاضل.

تنتمي كل قصص الطيب صالح إلى ثقافة المركز الذي تهيمن عليه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. إن التتبع الدقيق للحيثيات الحياتية اليومية في قصصه تكشف لنا عن أنها تعتمد على شغل كل آليات أيديولوجيا الهيمنة والقهر وإعادة الإنتاج الثقافي. إن عالم الطيب صالح القصصي هو نفس عالم ثقافة المركز القائمة على الأسلمة والاستعراب، ومن ثم استتباع الهامش والأطراف. إن قراءة الطيب صالح وفق التحليل الفاعلي الذي قام به الشيخ محمد الشيخ [1987] ، مشفوعاً بالسياق الأيديولوجي واستقطاباته الناشبة في السودان، ستكشف لنا عن قدر كبير من التواطؤ الأيديولوجي العروبي الإسلامي للطيب صالح. وهو تواطؤ نتفق فيه مع عبدالله بولا [1998: 23-51] عندما ذهب إلى تجريد الطيب صالح من أحقية التساؤل عن ماهية الأبواب الجهنمية التي دخلت علينا منها طُغمة الإنقاذ، وذلك عندما أطلق تساؤله البريء "من أين جاء هؤلاء". لقد جاؤا من ذات الثقافة التي يعبر عنها أدبه.

أما عن إبراهيم إسحق، فقد كشف عن موقفه المتحيز ضد الثقافات الأفريقية ولغاتها في أكثر من موقع. وقد كانت صحيفة الأيام في عامي 1975م و 1976م معتركاً فكرياً تساجل فيه كلٌّ من مصطفي مبارك، حسن مصطفى إسماعيل، إبراهيم إسحق، وعبدالله على إبراهيم وآخرين، حيث نهد كل واحد منهم برأيه مدافعاً ومنافحاً ومعارضاً [عبدالله علي إبراهيم؛ 1984]. في ذلك كان موقف إبراهيم إسحق مما لا يحتاج إلى مزيد قول عنه من حيث منافحته عن ميكانيزم إعادة إنتاج الأطراف داخل الوسط وذلك بتذويبهم اعتماداً على منظور "بوتقة الانصهار" الذي ساد على عهد نظام مايو جرّاء تبنيه لللآفروعروبية باعتبارها رؤيته للقومية السودانية والتكامل القومي. لكنّا هنا سنستشهد بإحدى قصصه القصيرة، تحديداً "حكاية البنت ماياكايا" [1980: 53-78] التي تحكي عن الكيفية التي سبى بها غانم "… سليل جلاّبة النيل الأبيض ذوي الأصول العربية" ـ باستخدام ألفاظ فضيلي جماع ـ بنتاً اسمها ماياكايا من سلالة رث الشلك. تجمع وقائع هذه القصة "… بين تقلى وفشودة وود عشانا جغرافياً..[كما ترمز] بشيء من الذكاء إلى العجينة الثقافية السودانية وكيف تمازجت عبر زمن طويل…"[فضيلي جمّاع؛ 1991: 171]. هذا ما يقوله فضيلي جماع شارحاً للآليات التي انبنت عليها القصة ـ أي، عمليا، ميكانيزم إعادة إنتاج المركز للهامش استعراباً وأسلمةً، حتى لو كان ذلك عبر السبي والاسترقاق. ولنا أن نقارن هذا مع ما قاله محمد عبد الحي عن أن "جماع الغابة والصحراء لم يكن وديّاً في البداية ولكن من زحام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وبين سبايا الغاب الأفريقي نحتنا وجوهنا…". وكأني بإبراهيم إسحق قد استوحى هذه المقولة في استلهامه لقصته.

بالطبع الآن لم يعد من مجال لإبراهيم إسحق للتباجح الأيديولوجي الذي أبداه في عقد السبعينات. بهذا لا يبقى أمامه من ملاذ غير السودانوعروبية، حيث سيجد عبدالله على إبراهيم مرحبا به عند الباب.

إذا جئنا إلى بشرى الفاضل ـ وهو الأحدث في الثلاثة باعتباره من جيل أواخر السبعينات ـ وجدناه رغم اختلافه في مصادره الفكرية عن الطيب صالح وإبراهيم إسحق، أكثر قرباً منهما في عاقبة أمره. ذُهل بشرى الفاضل طيلة سني شبابه عن إشكالية الصراع الثقافي الدائر في السودان؛ فبالنسبة إليه لم تكن تلك مشكلة تستحق عناء تسويد الصحائف والمساجلات التي ساقها. فحتى تسعينات القرن العشرين، كان بشرى الفاضل ـ ربما بتأثر من ميوله اليسارية، الماركسية الباكرة ـ يعيش فيما يمكن أن نسميه "أممية ثقافية". فقد كان يلخص موقفه إزاء مشكلة الصراع الثقافي بقوله: "أنا إنسان، وأعيش في السودان". على أقل تقدير هذا هو ما ذكره لي في حديث شخصي بمكتبي في جامعة الخرطوم أوائل 1992، وذلك عندما قرأ المسودة الأولى لهذا البحث. إن التناقض الذي أوجد بشرى الفاضل نفسه فيه يكمن في رفضه التموضع المحلي ثقافيا؛ وبما أنه أديب وقاص "ملتزم!" فلا مناص له من هذا التموضع، إذ ليس من الممكن أن يعبر إبداعياً عن الإنسان ومشاكله في غير ما وضعية ثقافية. ولعل هذا هو السبب في أننا لا نجد في أقاصيص بشرى الفاضل أثراً للصراع والقهر الثقافي وقضايا المركز والهامش. لكن يبدو أن هذا الوضع قد بدأ في التغير. فمثلاً في مجموعته القصصية الأخيرة، أزرق اليمامة [1996] ، نجد أقصوصتين؛ إحداهما وهي" كالو يتناول إفطاره في السماء"، يمكن أن تحسب لقضايا الهامش، بينما الثانية "ويليام" تتحدث عن إشكالية الشمال والجنوب. إن التمفصل الأيديولوجي الخطي Linear (شمال جنوب) هو في حد ذاته سمة من سمات الآفروعروبية، ثم السودانوعروبية ـ كما سنفصّل لاحقاً. إذ من شأنه أن "يفرز" الجنوب لوحده، مع استتباعه لباقي أطراف الهامش استيعاباً وإعادة إنتاج، حتى إذا تغير السياق، وأصبح الجنوب غائباً، تبين لنا أن هذا "الشمال" هو نفسه "خشم بيوت"، وهنا يتضح أن هناك غرباً، وشرقاً.. كما إن هناك شمالاً هامشياً للشمال نفسه. إن تصريح بشرى الفاضل في قصته "ويليام" بأنه لا شمال بلا جنوب، يقوم في الحبكة القصصية على انجذاب الراوي (وهو هنا شمالي) إلى جسد الفتاة الجنوبية المثير. إنها ذات المصادر الجُوّانية التي انطلق منها إبراهيم إسحق في تصويره لبطل قصته غانم العربي، وسبيه للبنت مياكايا ابنة رث الشلك. أمّا الصرخة التي يطلقها بشرى الفاضل بأن ".. الشمالَ جنوبٌ وجنوبٌ جدّاً، جنوبٌ لا يُنكرُ جنوبيتَه إلاّ الجهلُ والغرض"، فعبارة عن جملة تقريرية خارجة عن سياق الحبكة القصصية ومنطقها الداخلي القائم على التمفصل الأيديولوجي الخطي (شمال جنوب).

سنتعرّض في خاتمة هذا الجزء الخاص عن الفعاليات الحركية لتحالف الهاربين بالتعرض لشخصيتين نرى أنهما تستحقان منا هذا لأهميتهما، خاصة مع تصنيفنا لهما كسودانوعروبيين خلافاً لما يعتقد عنهما، وهما أحمد الطيب زين العابدين ومنصور خالد.

أحمد الطيب زين العابدين و طاقية المنظور السودانوي

يعتبر أحمد الطيب زين العابدين أحد القلائل من المثقفين السودانيين الذين أبدوا إلتزاماً تاماً بقضايا الثقافة. لقد كان لطيفاً، شفيفاً بدرجة جعلته مهموماً، مهجوساً بالخطاب الثقافي فتنزّه بذلك عن أوشاب السياسة. فعلاقته بالسياسة كانت كعلاقة المركب بماء النهر؛ تحمله السياسة، نعم، لكن لا تسوقه ولا تجرفه بتيارها، بل يمخر لوجهة يعرفها. كان صلباً ومقاتلاً.. لكن بشفافية. وقد تتلمذ وتخرج على يديه الكثيرون، ولا نعني بذلك طلبة فصله على كثرتهم. كما كان من فرسان الحركة الفكرية الثقافية بالسودان طيلة العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين على أقل تقدير. وقلّ ما تجد حركة فكرية/ثقافية خلال هذه الفترة دون أن تكون حلباتها قد شهدت صولاتِه. ثمّ مات وهو يتوسد كتاباً ويطالع القراء عبر أكثر من صحيفة. لقد كان مدرسة، وأصبح في أخريات أيامه تقليعة ثقافية يتباهى بها الشباب، مثلما حدث مع محمد عبد الحي وعلى المك من قبله. ومن هنا تأتي أهميته. وسنبذل من الجهد الكثير حتى نتصف بشفافيته في تناولنا له. أما إذا جانب حديثنا ذلك في بعضه، فذلك لغلاظة وكثافة فينا لا نملك معها حيلة.

طرح أحمد الطيب زين العابدين في أخريات أيامه منظوره الفكري الذي أطلق عليه مُسمّى "السودانوية". وقد دشن منظوره هذا في مقال نشره بمجلة حروف في عام 1991م، واستمر يبشر بهذا المنظور في الصحف والمجلات حتى وافته المنية في 1997م. إلاّ أنه، فيما نذهب إليه، تراوح في استخدامه لمصطلح "السودانوية" ما بين تيار الآفروعروبية (الغابة والصحراء) وبين التيار السودانوعروبي (مشروع عبدالله علي إبراهيم) كما سيتضح لنا.

ما يجدر ذكره أن مصطلح "السودانوية" سابق لكتابات أحمد الطيب زين العابدين. فمتزامنا معه ورد المصطلح كعنوان لبحث قدمه الراحل محمد عمر بشير [1991[. وقد استُخدم أيضا في معنى الإشارة للإتجاه الآفروعروبي. إلاّ أن بدايات نحت المصطلح تعود إلى أخريات السبعينات وأوائل الثمانينات، وذلك عندما برز نور الدين ساتي محللاً ومصنفاً للمكونات الثقافية للأمة السودانية. عرّف نور الدين ساتي المصطلح بقوله:

"…السودانوية يمكن أن تُعرّف بأنها ذلك الوجود وذلك الإحساس الذي يجعل كل فرد يعيش داخل الحدود الإدارية للدولة السودانية، يحسّ بأنه ينتمي إلى أمة في طريقها إلى التكوين، دون تمييز بين أفرادها مهما كان انتماؤهم العرقي واللغوي أو الديني." [1981: 11].

ثم يمضي مفصلا قوله ذلك بأن "… السودانوية فاحمة السواد وصفراء اللون في الوقت ذاته دينكاوية، وهدندوية ودنقلاوية وفوراوية، تتحدث لغة الزاندي والتبداوي والعربية والنوبية، تدين بالإسلام والمسيحية والوثنية في الوقت ذاته". هذه هي مبادئ وأسس دولة المواطنة والقومية السودانية القائمة على منظور الوحدة في التنوع، كما تبلورت لاحقا. ولنا أن نلاحظ أن نورالدين ساتي قد ذهب هذا المذهب أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، عندما كان المسرح يسيطر عليه تيار الآفروعروبية الذي يستند على منظور بوتقة الانصهار. لقد كان في ذلك رائداً لا مراء.

أما إذا جئنا إلى أحمد الطيب زين العابدين فإننا لا نجد هذا الفهم عنده. فاستخدامه للمصطلح غير مشفوع بتعريف ناصع كذلك الذي يقدمه نور الدين ساتي. ففي المقابل نجد أحمد الطيب زين العابدين يتبنى منظور بوتقة الانصهار، وذلك باستخدامه لمصطلحات من قبيل "المزيج" و "الهجين". ففي تتبعه لتأثير محمد المهدي المجذوب على الأجيال التي تبعته في نزعاته الأفريقانية يقول:

"ثم تبع هؤلاء المبدعين من نفروا نفوراً عن تقليد الأدب العربي القديم ممّن أكّدوا "السودانوية" أو هذا المزيج الحضاري العجيب الذي أفرز أو ينبغي أن يفرز ثقافة هجيناً. فهي أفريقية أصلاً ولكنها عربية الملامح، فهي نتيجة حتمية لجماع الغابة والصحراء" [1991: 33].

ولهذا لا يعدو أن يكون الأمر عنده تأكيداً للوعي "… بالبعد الأفريقي في الثقافة السودانية (الغابة) كمقابل مكمل لما هو عربي فيها (الصحراء)" [المرجع السابق]. إن هذا القول وحده يكشف لنا عن الأرضية الآفروعروبية التي ينطلق منها أحمد الطيب زين العابدين. بيد أن الأمر لا يقف عند هذا، بل يتعداه إلى ما يمكن أن نقرأه على أنه تحول نحو السودانوعروبية.

في الحركة التشكيلية السودانية تعرف التيارات التي قادها الرعيل الأول من الفنانين بمُسمّى "مدرسة الخرطوم". كان لهذه المدرسة رموزها، ومنهم ".. إبراهيم الصلحي.. الذي قاد .. هو وزملاء له حركة في التجديد خرجت بالحركة التشكيلية السودانية من الإطار الأكاديمي المدرسي الضيق إلى رحابة الفكر الاجتماعي العام" [المرجع نفسه: 29]. باستخدام نفس كلمات أحمد الطيب زين العابدين، فإن "المدارس الفنية لا تنشأ اعتباطاً، ولا تقوم إلاّ لتلبية حاجات اجتماعية وضرورات ثقافية. فهي إما أن تكون بشارة بنهج جديد أو تأكيداً لبعض طرائق الإنجاز العتيقة، أو تبعث قديماً ما يزال مؤثراً، فهي قرينة التحولات الاجتماعية ورهينة فعاليات ثقافية أساسية" [نفسه]. ثم كان في أخريات عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات أن قاد الفنان التشكيلي أحمد عبد العال وآخرون تياراً فكرياً جديداً في مجال الفن التشكيلي، يتجاوزون به مدرسة الخرطوم، فتبعهم في ذلك كثيرون. وجاء في بيانهم التأسيسي ما يلي: "مدرسة الواحد، مدرسة تشكيلية أفريقية تقوم على أرضية من التراث الحضاري لأهل السودان الذي امتزجت فيه الثقافة العربية الإسلامية في عبقرية متميزة بالموروث الأفريقي المحلي" [نفسه: 37]. ويعرف عن أحمد عبد العال إنكاره لوجود أي جذور قديمة للفن التشكيلي السوداني، إيمانا منه بأن:

"…الجذور الفنية القديمة مرتكزة في الكلمة الشاعرة والكلمة الأدبية والحرف العربي، وموسيقى الكلمات، ولحن الإيقاع اللفظي. [ويستدل] على ذلك بأغاني الحقيبة التي أوحت إلى الفنانين التشكيليين الشعبيين القدامى أمثال على عثمان وجحا أحمد سالم الرسومات الحسية التي تمثل المرأة السودانية كما وصفتها أغنية الحقيبة" [مبارك بلال؛ 1981: 66].

أي أن الإبداع التشكيلي السوداني عمقه بعمق الثقافة العربية في السودان! إن هذا القول لا يحتاج إلى مزيد تعليق لفضح النظرة المستغلقة المستعلية التي تنطوي عليها شخصية الفنان التشكيلي أحمد عبد العال.

لم تكن هذه الخلفية الأيديولوجية لمدرسة الواحد خافية على أحمد الطيب زين العابدين. ففي تعليق على تجاوزها للحركات التي سبقتها يقول عنها إنها:

"… ترى في مدرسة الخرطوم ملمحاً حضارياً تاريخياً. ولكن ارتباطهم [أي مدرسة الواحد] بالتراث العربي الإسلامي يعطي أعمالهم بعداً روحياً. فالتراث العربي الإسلامي تراث مؤسس على رسالة كونية ومن هنا كان اختلافه في نظرهم. فهناك مقاصد جمالية مستوحاة من معاني التوحيد في الإسلام. وبذلك تنتفي عفوية مدرسة الخرطوم" [1991: 37].

وتتجلى ضبابية المفهوم عندما يصنف أحمد الطيب زين العابدين مدرسة الواحد على أنها "ورغم كل هذا… لم تخرج من إطار السودانوية… [فكل] هذه الاعمال وكثير مما لم نذكر هي إضافة صميمة إلى حركة تشكيلية محلية عالية الأصالة والتفرّد ذات إحساس أكيد بهذه الخصوصية الثقافية والتي أسميناها (السودانوية)" [المرجع السابق]. وبهذا الفهم ـ فيما نرى ـ قام أحمد الطيب زين العابدين بضم اسمه إلى قائمة الموقعين على البيان التأسيسي لمدرسة الواحد. وهو فهم يقوم في أحسن صوره على الآفروعروبية ومنظور بوتقة الانصهار ونموذج إنسان سنار؛ وفي أسوئها على العروبية الفجة التي تتكئ على عصا الإسلام، وهو ما عليه حال مؤسسي مدرسة الواحد الحقيقيين.

لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد. فأحمد الطيب زين العابدين يتراوح في منظوره الفكري من مكان لآخر. إن هذا يمكن أن يعزى إلى استخدامه لمصطلح "السودانوية" دون تعريف مانع جامع خاص به. فما يعنيه بالمصطلح علينا أن نتلمسه بين السطور والكلمات، وحتى عندما يذكر صراحة أن ذلك .. وذلك .. هو ما يعنيه بالسودانوية، يجيء قوله مشتملاً على ألفاظ ذات دلالات متناقضة مفهومياً. فمثلا يستخدم العديد من الألفاظ التي يستند عليها قوام خطاب الآفروعروبيين، من قبيل "الامتزاج"، "الغابة والصحراء"، وهو ما يتفق ومنظور بوتقة الانصهار كما بيّنّا. ثم نراه يصف الثقافة السودانية على أنها "ثقافة الاختلاف في الوحدة" [1982: 40] ، وهو أمر لا يفهم إلاّ عبر منظور الوحدة في التنوع. وتكمن المشكلة في أن كلا المنظورين يتعارضان! إن هذا التأرجح والتراوح يفضيان بأحمد الطيب زين العابدين إلى شيء أقرب إلى التناقض من حيث استخدامه لمصطلح السودانوية. ويتجلى هذا أكثر في قوله:"…إن الحقيقي في وجودنا الثقافي المعقد هو سودانيتنا والتي هي زنوجتنا المصيرية ولعلها عروبتنا المزنجة. إن في وعينا منطقة رجراجة ملتهبة هي سودانوية لم نسبر غورها بعد" [1991: 24]. إذا كان الحقيقي في وجودنا الثقافي هو "زنوجتنا المصيرية"، فإن هذا يُدخل في دائرته كل السودانيين، بما في ذلك الناطقين بالعربية من المستعربين السودانيين. وهنا نجد أنفسنا نقترب من مفهوم نور الدين ساتي للسودانوية. ولكن في المقابل، إذا ما تأرجحنا بجملة "لعلها عروبتنا المزنجة" فإن الدائرة تضيق عن أن تسع من ينظرون إلى نفسهم بوصفهم صرحاء الأفرقة، ثم لن يرضى عنها من ينظرون إلى نفسهم بوصفهم صرحاء العروبة.

يكمن اللبس ـ فيما نرى ـ في أن أحمد الطيب زين العابدين يصدر في رؤاه الفكرية عن منظور "بوتقة الانصهار"، ولكنه في تعبيره عن ذلك يستخدم مصطلحات ونصوص الخطاب الخاص بمنظور "الوحدة في التنوع". وما مصطلح "السودانوية" إلاّ من قبيل ذلك. فمثلاً عندما أصبحت مصطلحات (المركز والهامش.. الأطراف والوسط.. إلخ) ذات دلالات محورية في الفكر الثقافي/السياسي السوداني، خاصة أخريات ثمانينات القرن العشرين، قام أحمد الطيب زين العابدين باستخدام هذه المصطلحات في التعبير عن منظور "بوتقة الانصهار". وفي ذلك يمكن أن نستشهد بقوله:

"إن الثقافة السودانية المعاصرة في ذاتها ثقافة مُشكَّلة. فهي تبدو أكثر تجانساً في الوسط وهي محاطة بحزام عريض حميم كثير الالتصاق بذلك الوسط… ورغم تنوع ذلك الحزام وتلونه لغوياً وسلوكياً، وغير ذلك من مظاهر الاختلاف في الثقافات المحلية للجماعات السودانية، شرقيها وغربيها، شماليها وجنوبيها، فهذه الجماعات، رغم تعددها، أكثر تجانساً وارتباطاً، تاريخياً وثقافياً مع الوسط تجاه الثقافات الأخرى في المنطقة…" [1991: 40].

أي أن الوسط هو مناط التجانس بحمل ثقافات حزام الأطراف. ولعمري إنها السودانوعروبية، فمن أبى ذلك فدونه الآفروعروبية، وإلاّ فلا محيص من العروبية الصراح.

منصور خالد بين السودانوية والآفروعروبية

إذا جئنا إلى منصور خالد، فإن المسألة تبدو أوضح من حيث تبيانها، وذلك أساساً لشجاعة الرجل ووضوحه، وعدم تهيّبه من خوض المعارك. وقد امتاز منصور خالد ـ مقارنة مع ما عليه الوضع في السودان ـ بالدقة والحس التاريخي والجسارة، هذا فضلاً عن المقدرة على الصبر واحتمال مشقة الكتابة وتسويد الصحائف. وقد نَفِسَ عليه الكثيرون ذلك، خاصة عندما توالى إنتاجه في كتب مجلدية الحجم.

إلاّ أن أكثر ما أثار الجدل حول منصور خالد هو مواقفه السياسية، بدءً من انخراطه الفعّال في نظام مايو، ثم معارضته له، وانتهاءً بانضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الشهيد جون قرنق. وفي واقع الأمر هذا هو نفسه ما يدفعنا للتحدث عنه. فباعتبار ما آل إليه حال منصور خالد، يتوقع المرء أن تنهض مواقفه على رؤية فكرية، إن لم تكن أفريقانية بحتة، فليس أقل من أن تكون "سودانوية"، بمفهوم ناحت المصطلح نور الدين ساتي. إلاّ أن منصور خالد ينتمي إلى الآفروعروبية، مثله في ذلك كمثل جيل التكنوقراط الذين صاغوا مايو، وصاغوا معها منظور "بوتقة الانصهار".

في الستينات، وبعد ثورة أكتوبر، كتب منصور خالد العديد من المقالات القوية في الصحف اليومية، فكان أن لفتت إليه أنظار الطبقة المثقفة. وقد جمع في السبعينات المقالات ونشرها في كتاب [1979]. في واحدة من المقالات، وفي معرض مساءلته للجيل الذي حقق الاستقلال عما فعل بشأن التعليم، يقول: "… وفي مطلع الحديث عن التخطيط التربوي نتساءل عن ما فعله السودان المستقل لتأكيد شخصيته العربية… ولكيما تكون هنالك شخصية عربية، وكيان ثقافي عربي، وحضارة عربية.. لابد أن يكون هنالك لسان عربي…" [المرجع السابق: 57، نشير إلى أن التنقيط متى ما جاء بنقطتين فقط (..) لا ينبغي أن يؤخذ على أنه إسقاطات اقتباسية من عندنا، فقد وردت هكذا في الأصل على أنها من قبيل تكنيكات الترقيم]. إن دعوة منصور خالد العروبية لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه لتأخذ بعداً قومياً عربياً أساسه ما يسميه بالاستقلال الثقافي، والذي "… لم يكتمل ولن يكتمل.." ما لم يتم "…استرداد الشخصية العربية في مدارس السودان..". ولنا أن نلاحظ غياب الوعي بالواقع الأفريقي للأطراف السودانية، ولا عجب! فقد كانت العروبية، وربما لا تزال، مسيطرة آنذاك، بينما كانت الآفروعروبية لا تزال تقبع داخل الأروقة الأكاديمية. في ذلك الوقت كانت العروبة بالنسبة لمنصور خالد هي شخصية وأمجاد السودان القومية:

"…إن الشخصية القومية لن تكتمل ما لم ينطلق التخطيط الثقافي من تلك النقطة [أي التعريب في التعليم] لتحوير برامجه التعليمية ليدل الناشئة على جذورهم الحضارية وتغرس في نفوسهم تقدير أمجادهم القومية" [المرجع نفسه: 58].

وفي مقالة أخرى خص بها الجامعة (أي جامعة الخرطوم) ودورها في التربية السودانية، يشدد في حديث موجه إلى المسؤولين على دور الجامعة في إبراز الفكر السوداني "المطموس":

"…إن هؤلاء جميعاً سيدركون أن للجامعة وظيفة في إعادة بناء الشخصية السودانية، في تقصي جذور الفكر السوداني المطموس، في الإسهام النشط في بناء الأمة وتنمية المجتمع، في تعميق المحتوى الفكري للاستقلال الوطني عند المثقفين، في تأكيد كيان السودان العربي، في خلق منارة للفكر الأفريقي في أول بلد يستقلّ في أفريقيا جنوب الصحراء لتكون هدياً ونبراساً للقارة الناهضة … ولكن ما الذي حدث؟ .. وأين نحن من كل هذه المنى والأحلام؟" [نفسه: 65].

وهنا نشير إلى التراوح والتأرجح الذي نبّهْنا له في مواقف أحمد الطيب زين العابدين. ففي لحظة يبدو منصور خالد وكأنه قومي عربي، وفي أخرى نجده يتعامل مع السودان كقومية في حد ذاته. إنه يسعى لتأكيد كيان السودان العربي، وخلق منارة للفكر الأفريقي. بيد أن هذا البعد الأفريقي في الرؤية المطلبية عند منصور خالد تتضح طبيعتها العروبية من خلال رؤيته عن الجذور العربية للجامعة. فهو يقول: "…لكيما يحور الكيان الجامعي لمجابهة احتياجات المجتمع الجديد في السودان العربي.. لابد أن تتوفر لها في المبدأ الشخصية السودانية.. ولابد أن يتوفر لها الروح العربي" [نفسه: 66].

وبهذا لا يحمل منصور خالد أي دور حضاري للسودان في رفعة نفسه، وما ينبغي أن يلعبه في خلق وتطوير الفكر الأفريقي، غير الاستعراب. وبالطبع تأتي الأسلمة في ركاب هذا، "والعربية مفتاح الإسلام" كما يقول عبدالله الطيب [1991: 12]، والدين أيديولوجيا، كما يقول إدريس سالم الحسن [1996]. إن هذه الرؤية التي يقدمها منصور خالد لا نجد لها تصنيفاً إلاّ داخل المدرسة العروبية التي رادها الضرير وآخرون، وما تبع ذلك من بروز المدرسة الآفروعروبية التي عملت على الاعتراف بالمكون الأفريقي في هوية السودان استيعاباً وتعريباً لأفريقيته نفسها.

هذا ما كان من أمر منصور خالد في مستهل الستينات، فماذا عنه في مستهل التسعينات؟ عُرف عن منصور خالد اهتمامه بالدور المنوط بالصفوة، كما عُرف تعويله عليها، مثله في ذلك كمثل عبد الغفار محمد أحمد. وقد أصدر في أوائل التسعينات كتابه الشهير عن النخبة السودانية [1993] دامغا إياها بالفشل وإدمانه، فساطهم فيه بسياط الفكر والسياسة. وانقسمت النخبة في رد فعلها إزاء الكتاب. فقد استقبله أولئك الموالون للحكم القائم في السودان بحنق مغيظ لما طالهم، وشماتة بادية على المعارضة السياسية باعتبار أنها هي المعنية بالفشل، ثم بإعجاب خفي بقدرات الرجل الفكرية. أما الشق الآخر من الطبقة المثقفة، فقد كان أمرها عجباً، فقد استقبلت الكتاب بسياطه الفكرية بتلذذ ماسوشي تصاحبه انفصامية. إذ ليس أسهل من تجريد ما تنطوي عليه كلمة "صفوة" أو "نخبة" لتصبح آخر مجرداً، ومن ثم إسقاط الفشل على هذا الآخر.

في معرض حديثه عن فشل النخبة السودانية في استكناه حقائق الواقع، استنهاضاً لسودان ما بعد ثورة أبريل، ينعي منصور خالد الطبقة المثقفة قائلاً:

"…بيد أن أغلب الذي كنا نشهد ونسمع كان في أحسن حالاته أحكاماً انطباعية، وفي أغلبها تهرباً من الماضي بالتستر وراء ثوب سخيف الغزل، واهي الخيط… ولو صدق القوم مع أنفسهم لأدركوا بأن الذي كانوا يصنعون لم يكن مصادرة للتاريخ بل نعي [نعيا] لجيل كامل، جيلهم وجيلنا. كيف، إذن، يتأتى للمجتمع أن يتوقع من مثقفيه الغوص في كنه الأحداث لاستكشاف جوهرها ودلالاتها الخفية إن كان هؤلاء المثقفون يتكذبون في تحليل التاريخ المعاصر .." [المرجع السابق: 66-67].

إنه في رأينا أن كل ما قاله منصور خالد عن إدمان النخبة السودانية للفشل، ليستقيم واقفاً على قدميه إذا ما نظرنا إليه على أنه فشل ثقافي تجلى ـ أكثر ما تجلى ـ في عقم النخبة وليس فشلها فحسب. إنه فشل الأحادية الثقافية (الإسلاموعربية) في إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات، ثم إدارة التعدد الثقافي نفسه. إنها الأحادية التي ظلت تعمل وفق ميكانيزمات القهر وإعادة الإنتاج والاستتباع للثقافات الأخرى، وذلك منذ قيام دولة سنار عندما نشأت المراكز الحضرية كمراكز أحادية ثقافية تجتذب ثقافات الهامش والأطراف نحوها بغية إعادة إنتاجها وصهرها في بوتقة الإسلاموعروبية. إن هذا ـ كما نرى ـ هو ما أورثنا الدكتاتوريات والديمقراطيات في كيمياء الصراع الثقافي في السودان. وهذا هو نفسه ما أورثنا حالة الفشل العقمي للنخبة ـ البنت الشرعية للمثاقفة الإسلاموعروبية ـ ذلك الفشل الذي أجلاه منصور خالد.

لقد ذُهل منصور خالد عن البعد والعمق الثقافيين لإشكالية الفشل، فكان أن عالجها في تجلياتها. إذ أراد أن يجتثّ الشجرة، بدءً من أوراقها وانتهاءً بجذعها. إن المفارقة هنا منهجية، إذ كيف يتأتّى للآفروعروبي الذي يؤمن بمنظور "بوتقة الانصهار" أن يدين المشروع نفسه ويدين جدواه دون أن ينفض يده عنه. وتتجلّى المفارقة أكثر عندما تأتي الحلول التي يقترحها منصور خالد للخروج من هذا النفق المظلم. إنه يقول إن "…العلاج… يكمن في الداخل … الاعتماد على الذات هو بداية كل شيء وما هو بشعار" [المرجع نفسه: 93]. ثم يستطرد مبيّناً حيثيات هذا الاعتماد على الذات على أنه أولاً يبدأ " … بدراسة مناهج حياتنا نحن النخبة ودراسة أثر تلك الحياة على، ودورها في، الانهيار الاقتصادي" [نفسه]. وهنا يتيه بنا الدرب عن موارد ومشارع الثقافة وإشكالية المجتمع ككل، مفضيا إلى أزقة الصفوة. فالإشكالية، إذن، ليست ثقافية، بل هي إقتصادية بحتة، تختص بالتخطيط العلمي (الأكاديمي) للإقتصاد، والذي هو مناط الاحتجاج على النخبة في فشلها. أما مقترحه الثاني للحلول فيتلخص في أن "… نتناول بالدراسة التغيرات التي وقعت على خريطة التركيب الطبقي منذ السبعينات، فالثراء غير المشروع لم يقف عند حفنة من السياسيين بل تعداهم إلى غيرهم…" [نفسه]. وهنا نلاحظ أن العمق الزماني لهذا البند لا يعود لأكثر من العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ويتأكد هذا أكثر عندما يجعل من موضوع المغتربين (أي العاملين بالدول العربية البترولية) البند الثالث لمقترحاته العلاجية؛ وهذا أيضا يبدأ بعقد السبعينات من القرن العشرين. وفي هذا الصدد يكتفي منصور خالد بالدعوة إلى أن "… نتناول ظاهرة الاغتراب وآثارها الاجتماعية الاقتصادية…" [نفسه]. وأخيرا يجيء دور المقترحات المتعلقة بمعالجة إشكالية المواجهة بين المركز والهامش، أو كما يسميها هو "معادلة المركز والتخوم" و "أهل الحضر وأهل الريف". وهنا نجده مهتمّاً "… بإفرازات الظاهرة الريفية في المدينة …" [نفسه: 93-94]. .. فقط! لماذا؟ تتمثل إجابته في أن:

"… تلك الإفرازات تشغلنا أكثر من أسبابها ودواعيها لما للإفرازات من أثر مباشر على حياتنا الحضرية، يؤذينا السكن العشوائي في أطراف المدينة، ويؤذينا ازدحام الأسواق والطرقات بالوافدين من الغرب والجنوب، وتؤذينا ضغوط هؤلاء على الخدمات ولا نجد لذلك حلاًّ إلاّ في "الكشة" التي تعود بهؤلاء الناس من حيث أتوا."

وهكذا تتضح الصورة، فمنصور خالد يصدر في هذا القول عن عقلية المركز الإسلاموعروبي ونظرته الاختزالية للسودان على أنه هو المركز. إنها نفس اختزالية المدرسة العروبية التي لم تكن ثقافات الهامش تشكل وجوداً في وعيها بالسودان. إن دواعي وأسباب ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة هي الأحادية الثقافية التي جعلت من المراكز الحضرية معملا لها تعيد فيه إنتاج أبناء الأطراف والهامش المغايرين ثقافة ولغة. وقد أنجبت هذه الأحادية بنتاً اسمها المركزية السياسية، وأخرى اسمها المركزية الاقتصادية … وهلم جرّا.

ولكن، إذا جاز لنا أن ننشغل بالإفرازات فقط، كما فعل منصور خالد، فإن ما ينبغي أن ننشغل به أولاً ليس معاناة الجاني (المركز) بل معاناة المجني عليه (الهامش) كضحية تاريخية لاختلال المعادلة. إن ما يهم هو اقتلاع الجذور، واختلال السياق الثقافي ـ الاجتماعي الذي يعمل على تغريب ونفي أبناء الهامش والأطراف عن هوياتهم، ريثما يعاد إنتاجهم في ثقافة المركز. إذ هل يمكن لهذه العملية أن تطرح لنا أجيالا قادرة على مقاربة مشاكلها بنجاح؟ إن كل ما يمكن أن تطرحه عبر الأيام، وعلى أحسن الفروض، هو إضافة كَمّية لنخبة المركز، وهي نخبة تعاني من الاغتراب والاستلاب، لأنها ليست شيئاً خلاف الهامش معاد إنتاجه داخل المركز. ولهذا هي فاشلة، وأكثر من ذلك عقيمة.

إن الصراع بين المركز والهامش واقع معاش، وليس قضية مجردة يتحاور حولها المثقفون. ولذلك نجد هذا الصراع يفرض نفسه عبر تجلياته الحياتية اليومية. من ذلك الإسقاطات الأيديولوجية التي يقوم بها المركز في اتهامه لكل حركات الهامش إما بالعنصرية أو بالتآمر مع القوى الأجنبية (الصليبية والصهيونية) استهدافاً للهوية العربية للسودان. في هذا الشأن تتبدى جسارة منصور خالد عندما يعلن قائلاً:

"العنصرية هذه … هي صفة يلصقها أهل الشمال بكل صاحب حق ينهض للمطالبة بحقه من عناصر السودان غير العربية، وكلها حقوق إما سياسية أو إقتصادية لا شأن لها بالأصل العرقي أو المنبت" [نفسه: 261].

إنها شجاعة، وإن كانت تعوز الكثيرين، إلاّ أننا ـ منهجياً ـ نأخذ عليها تبنيها للتمفصل الأيديولوجي الخطي. فعناصر السودان غير العربية، ليست في الجنوب فقط بل هي في الشمال أيضا، كما هي في الغرب والشرق؛ وهي في المركز نفسه ممثلة في أولئك الذين أعيد إنتاجهم عبر السنين. إن ما يقوله منصور خالد كالموج العاتي يتبدد ويتكسر على صخرة اللامنهجية. فالفكر الذي تطرحه الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ والتي ينتمي لها منصور خالد ـ لا تقدم طرحاً يقوم على التمفصل الأيديولوجي الخطي، فالمشكلة عندها ليست قضية الشمال والجنوب، بل قضية المركز والهامش، ولذلك تختزل المركز أكثر في مسمى حكومة الخرطوم، وذلك وفق ما يورده منصور خالد نفسه [1987] من أدبيات الحركة على لسان جون قرنق.

يرد منصور خالد على إسقاطات أبناء المركز وتعليق مشاكلهم على "شماعة" المؤامرات العنصرية بقوله:

"… لا أصدق الذين يولولون بالحديث عن هوية السودان العربية الثقافية التي يتهددها بالقضاء العنصريون من غير العرب، لأن هؤلاء "المولولين" يعرفون جيداً بأن جميع "العنصريين" في السودان قوم تبنوا العربية أو هم بصدد تبنيها، بحسبانها رابطة التواصل الفكري الوحيد بين كل أقوام السودان" [1993: 185].

هل يقصد منصور خالد بجملة "تبنوا العربية" اللغة العربية؟ لا يجوز أن نذهب إلى ذلك لأن الحديث هو عن "هوية السودان العربية الثقافية". إذن، فعدم الخوف هو أن مشروع الاستعراب، وبعده الأسلمة، قد قطع شوطاً بعيداً ودخل مرحلة اللاعودة واللاتوقف. ولنا أن نسأل منصور خالد عن موقف جون قرنق من هذه العملية: هل هو ممن تبنى أم ممن بصدد؟ إن قوله هذا يتناقض مع قولته الجسورة عن إلصاق تهمة العنصرية بكل طالب حق آت من الهامش.

وبعد؛ لقد بدأ منصور خالد عروبياً، ثم آفروعروبياً، ولا سبيل له غير أن ينتهى سودانوعروبياً إذا ما سار على هذا المنوال. وفي الحق، إنها جميعا تمثل انتماءً جرثومته واحدة، وما الفرق بينها إلاّ في المقدار ما بين الاشتطاط والاحتكام بالواقع لا في النوع. وحتى منتصف التسعينات كان منصور خالد لا يزال أمينا لمصادره الفكرية/الأيديولوجية. ففي مقابلة صحفية أجريت معه، سأله الصحفي بذكاء ومتابعة عن نظرية بوتقة الانصهار، ما لها وما عليها.. هل نجحت أم أخفقت؟ ورد منصور خالد بجسارته التي تثير الإعجاب وقال: "نظرية البوتقة في واقع الأمر نجحت ولم يوقفها إلاّ الغلواء السياسية التي قادت لردود فعل. إذا نظرت الآن لتراثنا في الشمال ستجد أنه مزيج من الثقافة العربية وثقافات أخرى." [راجع نص الحوار الذي أجري معه في صحيفة الخرطوم (الحلقة الثانية)، العدد 1214، الثلاثاء 8 أكتوبر 1996م. وقد أجرى الحوار الصحفي فيصل محمد صالح]. إنه هنا يعرّف الثقافة العربية، بينما يترك أمر الثقافات السودانوأفريقية هكذا نكرة، ثم يصفها بكلمة "أخرى". ويمضي مواصلاً حديثه، مؤكداً أن "… هذا الانصهار قد حدث. وتبقّت جيوب قليلة ما تزال محافظة تسعى للحفاظ على الصفاء … لديها. لكن هذه الجيوب تمثل أفراداً وليس جماعات" [المرجع السابق]. إنه بقوله هذا يقدم إقراراً بانتمائه إلى المدرسة العروبية في تجلياتها السودانوعروبية، إذ ترى أن السودان به ثقافة إسلامية ـ عربية سائدة مهيمنة، مع وجود "أقليات" تبدي بعض مقاومة ريثما يتم استيعابها. وهو هنا يشير إلى التكتيك الأيديولوجي الذي ينبغي إتخاذه إزاءهم، وهو أن نتركهم لحالهم طالما كانوا محكومين في مجمل العملية الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، والسياسية بميكانيزم الاستعراب والأسلمة. وهنا نجده قريبا من عبدالله علي إبراهيم، بعيدا عن جون قرنق. إذن، فها هو منصور خالد تتهتك عنه مسوحه السودانوية، لتتبدى أسماله العروبية… الآفروعروبية، السودانوعروبية. فهو يقول إنه في إطار نظرية بوتقة الانصهار:

"…يمكن أن يحترم الناس الخصائص الثقافية للأقوام الأخرى، في ذات الوقت أن تترك للثقافة العربية أن تنساب بالصورة التلقائية التي كانت تنساب بها في الماضي. والنموذج الأمثل لهذا هو دولة الفونج" [المرجع نفسه].

إذن فقد وضحت المسألة!

عود على بدء

هذا البحث ليس عن عبدالله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند في تحليله على مقالات كتبها. إنه محاولة لإماطة اللثام عن المواقف الأيديولوجية الحقيقية التي ينطلق منها أناس يبدو وكأنه قد تفرقت بهم سبل الفكر. ولا يظنن أحد أننا في ذلك نصدر عن روح تجريمية بغية الإدانة والدمغ. لا! فهذا إفلاس في حد ذاته. إننا نصدر عن روح هيغلية ـ وإن كانت غير مثالية ـ تؤمن بجدلية الحوار الفكري والثقافي بين الأفراد والجماعات. ولولا التأسي بكثير ممن تعرضنا لهم، لتهيبنا الكتابة عنهم إعجاباً واحتراماً. إن ما نسعى إليه هو أن نمارس نقد بعضنا البعض حتى نتمكن جميعاً من معرفة مواقع أقدامنا. إنه لتحدونا الثقة والاطمئنان أنه إذا تم لنا هذا، نكون قد استشرفنا طريق الخلاص تشوّفاً لبصيص نور في نهاية النفق.

نحو خريطة أيديولوجية جديدة

تقوم الاستقطابات الأيديولوجية في السودان على الأسلمة والاستعراب من جانب، ثم الأفرقة من الجانب الآخر، تتوسطهما دعاوى التوازن القومي والثقافي. تعتمد أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب على الاستيعاب، والذي يقوم بدوره على ميكانيزمات إعادة إنتاج الهامش والأطراف في المركز. وقد استصحبت هذه العملية معها كل جراحات ومرارات القهر والاضطهاد التي بلغت قمتها في مؤسسة الرق ثم انتهت بموجات الإبادة الجماعية التي صاحبت الحرب الأهلية. واليوم لا يجوز التعجب والاستغراب من أن هذه المؤسسة لا تزال ناشطة فعلياً، ذلك لأن الرق والتمييز العرقي لم يفارقاً وجدان الوعي الإسلاموعروبي في المركز حتى الآن؛ إن الفرضيات الأخلاقية والثقافية لمؤسسة الرق لا تزال على حيويتها في الوجدان السوداني (الشمالي المسلم عامة وفي المركز خاصة) [أحمد سيكينجا، 1996]. فليس أسهل من أن يدمغ السوداني (كذا) بأنه عبد لمجرد سواد لونه. ولنا أن نتساءل: هل يكون السودانيُّ غير أسود؟

من الجانب الآخر تعتمد أيديولوجيا الأفرقة على الجهوية والنزوع نحو الانفصالية. وهي في ذلك تصدر من إحساس متنامٍ بأنه لا حظَّ ولا حق لها في هذه البلاد. وبما أن تيارات الجهوية الانفصالية قد ظهرت بوادرها أول أمرها من ستينات القرن العشرين في الجنوب، وجبال النوبة، وغرباً بدارفور، ثم شرقاً بين البجا (الآن بدأت الدائرة تكتمل باشتداد وتائر الحراك الإثني بين النوبيين في الشمال خاصةً مع ما تبادر من بيع لأراضيهم لمصر عام 2004)، لذلك لا نحتاج إلى ذكر أن هذه الأقوام ذات حق أصيل في البلاد، بل هو في الواقع حق سابق لمجيء العرب المسلمين. لهذا يمكن أن ننظر إلى النزوع نحو الانفصال على أنه شكل من أشكال اليأس من جدوى النضال نحو وضع قومي متوازن. وقد أخذ هذا التيار في الاضمحلال ببروز الحركة الشعبية لتحرير السودان وترفيعها لوعي قطاعات الهامش والأطراف بحقها الأصيل في كل أراضي السودان: من نمولي إلى حلفا، ومن الجنينة إلى الكرمك. وإنما لهذا أعلنت أنها تسعى لتحرير السودان كله، رافضة بذلك الانحصار في جنوب السودان. ولهذا السبب نفسه تسعى عدة جهات ـ داخلية وخارجية ـ إلى حبس الحركة الشعبية لتحرير السودان داخل وضعية جنوب السودان فقط. لقد لعبت العديد من العوامل ـ منها ما هو سياسة حكومية لنظام الإنقاذ ـ نحو حبس الحركة في الجنوب مع مقاومة مبدئية منها، إلى أن أصبح الأمر واقعاً مع طرح قضية تقرير المصير [لمزيد من التفاصيل التي تعكس صراعات الحركة الشعبية الداخلية ما بين التيار القومي والآخر الانفصالي راجع الواثق كمير؛ بدون تاريخ، خاصة الفصل الأول]. فقد وجد جون قرنق نفسه أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن يرفض مسألة تقرير المصير لجنوب السودان وفق دعاواه القومية الأولى، وفي هذه الحالة قد ينفضّ عنه أبناء الجنوب الذين يمثلون قوام جنوده المقاتلين، باعتبار أنه يحارب من أجل قضية لا تهمهم، أو أن يقبل بذلك ـ كما فعل على مضض ـ ويكون بهذا قد انحصرت قضيته في جنوب السودان. بهذا يمكن القول إن التموضع الجنوبي للحركة الشعبية لتحرير السودان قد أدى إلى ما يمكن أن نسميه انتكاسة في هذا الوعي القومي.

أما الطرف الثالث الذي يمثل وسط الاستقطاب الأيديولوجي فهو الدعوة إلى قيام دولة مواطنة ومؤسسات وفق ديمقراطية تعددية تستند أساسا على واقع التعدد الثقافي، على أن يبدأ هذا المشروع بالخطوات التنفيذية لإيقاف سياسة الأحادية الثقافية التي تمارسها مؤسسة الدولة في السودان منذ الاستقلال مرورا بجميع الأنظمة والحكومات. إن هذا التيار الأيديولوجي يستند في تأسيساته على أن مؤسسة الدولة مسئولة عن تحريك ماكينة القهر والاضطهاد الثقافي جراء عدم اعترافها بمسئولياتها تجاه الثقافات غير العربية في السودان. إن هذا الأمر يقتضي مراجعة التعليم لغةً ومضموناً، كذلك النشاط الثقافي والفكري، فضلاً عن الإعلام، وما يتبع كل ذلك من سياسات اقتصادية وقومية …إلخ.

ولكن! أين تكمن المشكلة؟

تكمن المشكلة في أن المثقفين السودانيين لا زالوا واقعين في أسر مفاهيم "اليمين" و"اليسار" و"الوسط" بمحمولاتها البالية. فمثلاً لا زال القوميون العرب يُصنَّفون بوصفهم يساراً، بينما لا يجد الكاتب حرجاً من تصنيفهم أيديولوجياً ضمن تيار الأسلمة والاستعراب، مع باقي مفردات هذه المجموعة من حركات إسلامية أصولية.. إلى أحزاب طائفية. وفي الحق، حتى الحزب الشيوعي السوداني لم ينج من التموضع عروبياً في ثقافة المركز [في هذا الشأن أنظر الفصل السابع والثامن من عطا البطحاني، 1986]. ولمراجعة نموذج للنمطية الشمالية المستعلية والمستحقرة للجنوبيين عند بعض الضباط الشيوعيين ومسئوليتهم عن بعض المجازر في ستينات القرن العشرين، ]راجع: نينو كونتران، 1996]. لهذا لا نجد موضعاً للحزب الشيوعي خارج إطار أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب. إذن، فهذه هي المشكلة! فما المخرج؟

المخرج فيما نذهب إليه هو إعادة النظر في خريطة التمفصل الأيديولوجي في السودان. نبدأ بالتيارات التي فصّلنا في أمرها، فنلخّصها على النحو التالي:

1/ التيار اليميني: وهو الذي يستند على أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب والنظام السائد، ومن ثم كل العوامل التي أدت إلى ظهور الدولة السودانية الحديثة بدءً بالفونج، فالتركية، ثم المهدية، إلى الحكم الإنكليزي، انتهاءً بالدولة الوطنية وأنظمة ما بعد الاستقلال التي تسارعت وتائر فشلها في متوالية عددية أوصلتنا إلى ما نحن فيه. ضمن هذا التيار يدخل العروبيون والإسلاميون بما في ذلك القوميون العرب وغالبية الماركسيين السودانيين.

2/ التيار اليساري: وهو الذي يقوم على الجهوية دونما إطار قومي، مثلما كان يشهد بذلك الحال في الماضي القريب (حركة انفصال جنوب السودان بمختلف مسمياتها التنظيمية، نهضة دارفور، مؤتمر البجا، اتحاد جبال النوبة…إلخ). إن هذه الحركات الجهوية في حال اضطرادها المنطقي يُفترض بها أن تنتهي بالدعوة إلى الانفصال ـ دون التعرض لاستعصاء فنياته. ولأنها تمثل بذلك رفضاً مبدئياً للدولة السودانية القومية، جاز لنا أن يتم تصنيفها كيسار سوداني. بالطبع تنكّب أغلب هذه الحركات أو كلّها هذا الطريق الجهوي الانفصالي، ومن ثمّ استعصموا بعرى القومية فيما نشهد الآن من مآلات.

3/ تيار الوسط: هذا التيار يقوم على أيديولوجيا القومية السودانية أو التكامل القومي، والتي تستند بدورها على الحقوق الثقافية المتكافئة والمتوازنة بين الأقوام السودانية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، ثم وسطاً. كما تقوم على ضرورة إلغاء واقع الهيمنة والقهر الثقافي بكل تجلياته السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، والدولية (نسبة إلى مؤسسة الدولة). ولأن هذا التيار يتوازن أيديولوجياً ما بين القطبين السابقين، لهذا جاز لنا تصنيفه كوسط. إن هذا التيار ليس تصالحياً، لمجرد كونه متوازناً. وفي هذا نقصد بالتصالح كل التيارات الفكرية التي تسعى للانعتاق من أسر الثقافة القاهرة عبر التصالح معها ـ مثل الآفروعروبية.

بالطبع لا يمكن أن نشير حركيا وتنظيميا إلى هذا التيار، ذلك لعدم تبلوره الحركي والتنظيمي بعد. إذ إن أغلب تيارات الوسط إما متحركة من اليمين نحو الوسط، أو من اليسار نحو الوسط، الأمر الذي يجعل الوسط نفسه منقسماً، ما بين قطبي اليمين واليسار. وهذا هو ما يعيدنا إلى موضوع دراستنا. إذ إننا نرى أن تيار "السودانوعروبية" يمكن أن يمثل لنا "يمين الوسط"، ذلك إذا ما قام بترفيع وعيه الأيديولوجي وعرف مواقع أقدامه بذكاء لا نظنّ أنه يعوزه.

يفتح هذا التقسيم الباب نظرياً لظهور "يسار الوسط" الذي سنطلق عليه تيار "السودانوأفريقية". إن الرموز الفكرية لهذا التيار موجودة، وهي تملأ جنبات مسرح الفكر السوداني، إلاّ أنها مشوشة الرؤيا، فمرة قد تجدها في صفوف المدرسة الآفروعروبية، وأخرى في صفوف المدرسة الأفريقية، هذا فضلاً عن الشواذ منهم الذين تواءموا بطريقة ما مع المدرسة العروبية ـ كالفيتوري. إلاّ أن التيار السودانوعروبي العبدلابي (نسبة إلى عبدالله علي إبراهيم) هو المآبة التي يتفيأون ظلها في حال تقاصر وعيهم الأيديولوجي. وإنما لهذا يجيء تركيزنا على السودانوعروبية في هذا البحث.

وضرورة إعادة النظر في الأوضاع الأيديولوجية تستدعيها خطورة المرحلة التي تمر بها الدولة السودانية الحديثة. فقد اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان قبيل الاستقلال من قبل حركات "يسارية" ـ بفهمنا هذا ـ ضد أنظمة "يمينية" (ديمقراطية وعسكرية على حدٍ سواء). بعد ذلك شنت الجبهة الوطنية (حزب الأمة، الحزب الإتحادي الديمقراطي، والإخوان المسلمين) حربها المسلحة من ليبيا ضد نظام مايو. بفهمنا هذا يكون "اليمين" قد حمل السلاح ضد "اليمين". ثم كانت الإضافة النوعية عندما ظهرت الحركة الشعبية لتحرير السودان بجيشها الشعبي، باعتبارها حركة قومية غير جهوية، فكان أن حمل "الوسط" السلاح ضد أحد أشكال نظام الدولة السودانية "اليمينية". والآن نحن نشهد المحاولات المستمرة لدفع هذه الحركة لتبني الخط الجهوي ـ أي باتجاه التيار "اليساري"… ولكن! إن هذه المحاولات لا تنهض من فراغ. إن التموضع الجنوبي لحركة جون قرن ينبع من أنها قد قَدِمَت أساساً من مواقع اليسار الجهوي الانفصالي ممثلاً في مواقف الأنيانيا. إن هذا الصدور هو نفسه الذي يجعلنا نصنف الحركة باعتبارها يمكن أن تكون المكوّن الرئيسي لكتلة "يسار الوسط". وإنما لهذا أيضاً انضمت إليها العديد من قطاعات جبال النوبة، الفور، ثم البجا. (المجموعات ذات البدايات الجهوية سابقاً).

ثم جاء "يمين الوسط" أيضا يحمل السلاح ضد الدولة! إنهم "قوات التحالف السودانية" بقيادة العميد عبد العزيز خالد التي أعلنت عن نفسها في أواخر 1994م. في إحدى منشوراتها الأولى تذكر قوات التحالف السودانية الآتي:

"إن قوات التحالف السودانية (SAF) هي حركة سياسية جديدة، تأسست أخريات عام 1994م من قبل مجموعة من الوطنيين السودانيين (مدنيين وعسكريين) بتمثيل عريض لألوان الطيف للمجتمع السوداني. تتكون عضوية الحركة من كل الأصول الإثنية والدينية" [المصدر: SAF-Document 24EC].

وقد جاء النص بالإنكليزية كالاتي:

“1- Sudan Alliance Forces is a new political movement founded in the fall of 1994 by a group of Sudanese nationals (civilians and in uniform) representing a wide spectrum of Sudanese society. Its membership is composed of all ethnic origins and religions”.

هذا القول وحده كفيل بتصنيف هذه الحركة ضمن تيار "الوسط" العام إذا ما أخذت الألفاظ حرفياً. لكن هناك مشكلة. إن غالبية أعضاء الحركة هم فعلاً من المنتمين أيديولوجياً إلى المركز الإسلاموعروبي من حيث خلفياتهم الاجتماعية والثقافية؛ بذا يبقى من الصعب أن تنال هذه الحركة دعم الدول الأفريقية السوداء مهما كان حديثها عن نفسها جيداً من زاوية النظر الأفريقية. وتتعقد المشكلة أكثر، لأن بمثل هذا القول الذي اقتبسناه عنها يمكن للدعم العربي ـ الإسلامي نفسه أن يُحجب عنها. ويبدو أن هذا ما حدث بالفعل، لهذا ما إن جاءت أخريات عام 1995م حتى تغير الخطاب قليلاً. فالحركة بحكم أنها أيديولوجياً صادرة عن الثقافة العربية الإسلامية، لا ينبغي لها أن تتطرف أفريقياً لهذا الحد الذي تتساوى فيه ثقافة المركز مع ثقافات الأطراف والهامش. لكل هذا تم تعديل الفقرة الواردة أعلاه لتقرأ:

"قوات التحالف السودانية (SAF) هي حركة سياسية جديدة، تأسست في أخريات عام 1994م من قبل وطنيين سوادنيين(1) بتمثيل عريض لألوان الطيف في المجتمع السوداني" [المصدر: SAF; “Classified Working Paper, November 25, 1995.”].

وقد وردت هذه الإشارة الهامشية[(1)] هكذا في الأصل، وهذا شيء محيّر، إذ إن المنشور ليس بحثاً أكاديمياً حتى ترد فيه إشارات هامشية. إنه مجرد بيان سياسي! هذا إلاّ إذا كان الأمر من قبيل إخفاء شيء من باب التراجع مثلاً. بالرجوع إلى الإشارة الهامشية في آخر المنشور نقرأ الآتي:

"(1) الحركة تأسست بسيطرة للسودانيين الشماليين المسلمين، إلاّ أنها مفتوحة لكل السودانيين بصرف النظر عن خلفياتهم الإثنية. حالياً هناك سودانيون جنوبيون وأعضاء من المناطق المهمشة".

ويقرأ الاقتباس بالإنكليزية:

“1- The movement was founded by predominantly Moslem Northern Sudanese, but is open to all Sudanese irrespective of ethnic background. It presently has southern Sudanese and marginalized areas membership”

لا نظن أن هذا الاقتباس يحتاج إلى تعليق. فالمسألة واضحة. لكنا من قبيل حسن الظن نفسّر تأرجح قوات التحالف السودانية ما بين "اليمين" و"الوسط" على أنه "غباش" في الرؤية أو موازنات سياسية، ونُبقي على تصنيفنا لهم باعتبارهم "يمين الوسط". وكما نعلم، فقد والت قوات التحالف على الانشقاق والانقسام على نفسها أميبياً وسط اتهامات متبادلة جدّ خطيرة متعلقة بانتهاكات لحقوق الإنسان لا مثيل لها إلاّ تلك التي أُثرت عن نظام الإنقاذ أولى سنينه. وكنّا في عام 1999م قد نبّهنا لهذه الأسس الأيديولوجية، داعين لهم في المؤتمر الذي قدّمنا فيه هذا البحث كيما يتّحدوا مع الحركة الشعبية، والتي أبدت موقفاً إيجابياً لم نلمس مثله لدى قوّات التحالف. وبذلك فوّتوا على أنفسهم فرصة أن يصنعوا التاريخ لو أنهم انضمّوا للحركة وفق هذا الفهم الناصع الذي محصناهم إيّاه في عام 1999م، دع عنك أول منطلقهم. وعلى أيّ حال فقد انتهى الأمر بأغلب أعضاء وقيادات حركة قوّات التّحالف بالاندماج في الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، وذلط قبيل التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا في عام 2005م.

بعيداً عن أن أشرعة الحركة الشعبية قد ملأتها رياحٌ أخرى، وبعيداً عن أن الحركة الشعبية لم تكن أبداً في حاجةٍ لفصيل سياسي يندمج فيها محدثاً بذلك ربكة آليات التحليل واتخاذ القرار السياسي ... بعيداً عن كل هذا، تبقى هذه الخطوة أشبه بالقصة المتخيّلة التالية: يسعى فريق الهلال ـ مثلاً ـ لهزيمة المرّيخ، فيفشل، ثم يفشل، ثم يفشل. عندها يقرر فريق الهلال أن الطريقة الأفضل التي يمكن بها أن يقفز (بهلوانياً) على فشله تكمن في أن يحلّ نفسه ويندمج في فريق المرّيخ. عندها يصبح السؤال المنطقي هو: لماذا يقبل فريق المريخ بهؤلاء الفَشَلَة؟ والجواب المنطقي هو: ليكتب النهاية لشيئ اسمه الهلال، وبلاش دوشة! ما تجدر الإشارة إليه أن هذا الفصيل السياسي الذي قام بالانقلاب على الفصيل العسكري قد لعب هذه اللعبة من قبل عندما شرع في تأسيس قوات التحالف نفسها. فقد كانوا ينتمون لحزب سياسي لم يسمع به الشارع السياسي بعد، فقاموا بحله، ومن ثمّ الاندماج في التنظيم الجديد الذي أسموه "قوات التحالف السودانية". ما فات عليهم ـ وظلّ يفوت دائماً على جمهور الساسة السودانيين ـ هو أن فشل الفريق، أيما فريق، كان ذلك لكرة القدم أو السياسة، لا علاقة له بالاسم، بل باللعيبة.

خاتمة

إنه في رأينا أن خروج السودان من مأزقه يكمن في أن تعرف كل مجموعة مواقع أقدامها أيديولوجياً. إن مما يبدد الجهد الكبير هباءً، هو أن الكثير من المجموعات تتوهم أنها شيء واحد، بينما هم في الواقع الفرقاء خفاءً. وكم من فرقاء هم في الواقع يجتمعون على الكثير من المشتركات التي لا يمكن أن يستقيم معها أن يكونوا فرقاء. وفي هذا الخضم أملنا كبير في "تيار الوسط" الصاعد بشقيه (حسب فهمنا له). إن هذا التيار هو الوحيد الذي يمكن أن يستشرف آفاق الدولة السودانية القومية، متجاوزا بذلك واقع الدولة السودانية المركزية. إن على قوى الوسط ـ بشقيه السودانوعروبي والسودانوأفريقي ـ أن تجوِّد أولاً من عملية ترفيع وعيها بالواقع، ومن ثم بنفسها، حتى تدرك بصورة موضوعية وعملية المشتركات والمفترقات، بغية تحقيق أكبر قدر من التنسيق والتفاهم.

لقد آن الاوان كيما يستشرف الشعب السوداني آفاق دولة الحرية والعدل والسلام.

*قدم هذا البحث في مؤتمر "السودان: الثقافة والتنمية الشاملة: نحو إستراتيجية ثقافية- مهداة للروائـي الطيب صالح", مركز الدراسات السودانية, القاهـرة, دار الاوبرا المصرية- الجزيـرة, الاربعـاء 4 أغسطس- السبت 7 أغسطس 1999.

بدأت كتابة هذا المقال في 1992م، وقد فرغت منه عام 1993م في صورته الاساسية. وقد قرئت فكرة البحث في منتدى الفولكلور بمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم 1992م. وقد فرغت من صياغته في شكله الحالي 1998م، وذلك بعد إضافة ما من شأنه أن يجعله مواكبا للكتابات والادبيات التي ظهرت خلال هذه المدة.

أتوجه بالشكر لكل من بروفسير أحمد الطيب زين العابدين (رحمه الله)، بروفسير أحمد عبد الرحيم نصر، بروفسير سيد حامد حريز، د. عبدالله على إبراهيم، د. الفاتح عبدالله عبد السلام، د. مدني محمد أحمد، د حامد عثمان، د. بشرى الفاضل، د. بدر الدين عثمان البيتي، د. شرف الدين الامين عبد السلام (رحمه الله)، الاستاذ عبد القادر محمد إبراهيم، د.إدريس سالم الحسن، د. إبراهيم محمد زين، د. عبد الرحمن أبكر (رحمه الله)، الاستاذ عبد المنعم الكتيابي،الاستاذ أحمد خليل، د. مرتضى الغالي ود. أبكر آدم إسماعيل وذلك لتكرمهم بقراءة مسودة هذا البحث. لقد أبدوا ملاحظات قيمة، في ظني هي التي أعطت هذا البحث ثقله العلمي، بينما أتحمل عن رضى كل ما فيه من أوجه القصور والعيوب وهي كثيرة.

ثم شكر خاص إلى زوجتي هالة المغربي التي تكفلت بنسخ المخطوطة الاصلية بخط يدها الآنيق، وذلك لاستعصاء خطي على القراءة، فضلا عن كونها الناقد الأول لكل ما أكتب.

أخيرا وليس آخرا، أهدي هذا العمل المتواضع لأرواح الذين ألهمونا الكثير الكثير، محمد عبد الحي، على المك، وأحمد الطيب زين العابدين.

بيبليـــــــوقرافيا عربيـــــة:

- إبراهيم إسحقز 1980. "حكاية البنت ماياكايا"، قصة قصيرة، مجلة الخرطوم، عدد يناير، صص 53-78.

- أبكر آدم إسماعيل. 1997. جدلية المركز والهامش، 3 أجزاء، مركز دراسات القومية السودانية.

- أحمد الطيب زين العابدين. 1982. "التشكيل في الثقافة السودانية المعاصرة: محاولة لاستجلاء ثقافة سودانية"، مجلة الثقافة السودانية، عدد يوليو.

- ..................... 1991. "السودانوية التشكيلية: هل هي آخر المطاف؟"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى.

- أحمد المعتصم الشيخ. 1975. " عناصر أفريقية في الاحاجي السودانية: الاحاجي في منطقة الرباطاب"، بحث مقدم لنيل درجة الدبلوم العالي في الفولكلور، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم.

- ................... 1985. "عناصر أفريقية في الاحاجي السودانية بالتفات لمنطقة الرباطاب"، مجلة الدراسات السودانية، العدد الأول، أغسطس.

- أحمد عبد الرحيم نصر. 1986. الاغوات: دراسة تاريخية مقارنة لأغوات المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، الخرطوم.

- إدريس سالم الحسن. 1996. "الدين أيديولوجيا"، كتابات سودانية،العدد 2، السنة الأولى، 1996.

- الشيخ محمد الشيخ. 1987. التحليل الفاعلي: تحليل الشخصية السودانية عبر روايتي ’موسم الهجرة إلى الشمال‘ و ’عرس الزين‘، الخرطوم.

- الواثق كمير. (إعداد وتحرير). 2005. جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والاستراتيجيات، القاهرة.

- بشرى الفاضل. 1996. أزرق اليمامة (مجموعة قصصية)، الطبعة الأولى، ألف للنشر.

- جعفر ميرغني. 1991. "المعربات السودانية"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى.

- عباس محمد مالك. 1987. العرب العباسيون في السودان ’قبائل الجعليين‘: كذب الزعم بالتعريب والامتزاج، دار صنب، الخرطوم.

- عبد الغفار محمد أحمد. 1988. قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- عبدالله الطيب. 1955أ. "النظام والعدل في الجنوب لا يقومان الا بالرصاص"، صحيفة الرأي العام، عدد 3111، السبت 3/9/1955، ص 3.

- .............. 1955ب. "الجنوب مادة خبيثة شديدة الاشتعال فلا يجب التخلي عنه"، صحيفة الرأي العام، عدد 3125، الثلاثاء 20/9/1955.

- ............. 1990. الاحاجي السودانية، طبعة 2، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- ............. 1991. "من تجارب تعليم العربية في أفريقيا"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى، 1991.

- ............. 1992. أصداء النيل (ديوان شعر)، طبعة 5، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- عبدالله علي إبراهيم (جمع وتحقيق). [بدون تاريخ]. جامع نسب الجعليين، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، الخرطوم.

- ............... .1984. أنس الكتب، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- ............... 1989. "الآفروعروبية أو تحالف الهاربين"، المستقبل العربي، 119، ، 1، 1989.

- ............... 1998. فرسان كنجرت: ديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- عبدالله بولا. 1998. "شجرة نسب الغول في مشكل (الهوية الثقافية) وحقوق الآنسان في السودان: أطروحة في كون الغول لم يهبط علينا من السماء"، مجلة الطريق، العدد 7/8 (مزدوج)، أغسطس، 1998.

- عبد المجيد عابدين. 1967. تاريخ الثقافة العربية في السودان، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع.

- ............... 1972. دراسات سودانية: مجموعة مقالات في الادب والتاريخ، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- عبده بدوي. 1980. الشعر الحديث في السودان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.

- فتح الرحمن حسن التني. 1990. مختارات من الشعر السوداني المعاصر، دبي.

- فضيلي جماع. 1991. قراءة في الادب السوداني الحديث، طبعة 1.

- مبارك بلال. 1981. "قضية الفن التشكيلي المعاصر"، مجلة الثقافة السودانية، يونيو، 1981.

- محسن عوض. 1989. "ندوة الحوار القومي ـ الديني"، المستقبل العربي، 129، 11، 1989.

- محمد المهدي المجذوب. 1982. ديوان المجاذيب، دار الجيل، بيروت، شركة المكتبة الاهلية، الخرطوم.

- محمد الفيتوري. 1956. أغاني أفريقيا، القاهرة.

- ............... 1964. عاشق من أفريقيا، بيروت.

- .............. 1966. أذكريني يا أفريقيا، بيروت.

- .............. 1967. أحزان أفريقيا، بيروت.

- .............. 1988. "مقام في مقام العراق" (قصيدة)، مجلة الدستور، الاثنين، 19/26، 1988.

- محمد جلال أحمد هاشم. 1999. منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديمقراطية في الثقافة السودانية، طبعة 4، مركز دراسات القومية السودانية.

- محمد عمر بشير. 1991. "السودانوية"، سمنار الهوية الثقافية في السودان، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، قاعة الشارقة، 20ـ22، أغسطس.

- محمد فوزي مصطفى عبد الرحمن. 1972. الثقافة العربية وأثرها في تماسك الوحدة القومية في السودان المعاصر، الدار السودانية للكتب، الخرطوم.

- منصور خالد. 1979. حوار مع الصفوة، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

- ............ 1993. النخبة السودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الامين للنشر والتوزيع، القاهرة.

- نور الدين ساتي. 1981. "الحوار بين المكونات الثقافية للأمة السودانية"، الحلقة 3، مجلة الثقافة السودانية، السنة الخامسة، العدد 17، فبراير.

مصادر أوليـة عربية: الدوريات: صحف ومجلات:

- مجلة الدراسات السودانية، عدد 1/2 مزدوج، المجلد 9، ديسمبر، 1989 [كشاف مطبوعات معهد الدراسات الافريقية والاسيوية].

- مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى، 1991 [مراسلات محمد عبد الحي ومحمد المهدي المجذوب].

- جريدة اخبار العرب الإمارات العربيّة المتّحدة)،11/7/2001 [كقابلة مع عبدالله علي إبراهيم].

- جريدة أخبار اليوم، 31/8/1994، الخرطوم، [مقابلة مع عبدالله الطيب].

- جريدة الخرطوم، عدد 1214، الثلاثاء، أكتوبر 1996، [مقابلة مع منصور خالد – الحلقة الثانية].

مصادر أوليـة غير عربية:

- Sudan Alliance Forces (SAF) [1994]; “SAF-Document 24EC”.

- Sudan Alliance Forces (SAF) [1995]; “Classified Working Paper, not for publication, November 25 1995”.

-

بيبــــليوقرافيا غير عربية:

- Abu Manga, A. & Miller, C. 1992. Language Change and National Integration: Rural Migrant in Khartoum, University of Nice, and University of Khartoum, Khartoum.

- Barth, Fredrick (ed.). 1970. Ethnic Groups and Boundaries, Universitets Forlaget, BergenOslo, George Allen & Unwin, London.

- Battahani(El), Atta. 1986. “Nationalism and Peasant Politics in the Nuba Mountains Region of Sudan: 1924-1966”, Unpublished Ph. D. thesis, University of Sussex.

- Cunnison, Ian. 1971. “Classification by Genealogy: A Problem of the Baqqara Belt" in Y.F. Hasan (ed.); Sudan in Africa, Khartoum University press, 1970.

- Contran, Neno. 1996. They are a Target, Paulines Paulines Publications.

- Deng, Francis M. 1975. Dynamics of Identification: A Basis for National Integration in the Sudan, Khartoum University Press, Khartoum.

- …………………. 1989. Cry of the Owl, Lillian Barber Press, Inc., New York.

- Hai, M.A. 1976. Conflict and Identity: The Cultural Poetics of Contemporary Sudanese Poetry, University of Khartoum, Khartoum.

- Hasan, Y.F. (ed.). 1971. Sudan in Africa, Khartoum University press.

- ………………… 1973. The Arabs and the Sudan: from the Seventh to the Early Sixteenth Century, Khartoum University press, Khartoum.

- Herzfeld, Michael. 1982. Ours Once More: Folklore, Ideology, and the Making of Greece, Austin.

- Hureiz, S.H. 1966. “Birth, Marriage, Death and Initiation Customs and Beliefs in the Central Sudan", M.A thesis, University of Leeds.

- ………………. 1977. Ja’aliyyin Folktales: An Interplay of African, Arabian and Islamic elements, Indiana University, Bloomington.

- ……………… 1988. Studies in African Applied Folklore, University of Khartoum, Khartoum.

- ……………… & A.A.A. Salam (ed.). 1989. Ethnicity, Conflict and National Integration in the Sudan, University of Khartoum, Khartoum.

- Ibrahim, A. Ali. 1989a. “Popular Islam: the Religion of the Barbarous Throng”, in S.H. Hureiz & A.A.A. Salam (ed.). Ethnicity, Conflict and National Integration in the Sudan, University of Khartoum, Khartoum.

- ………………… 1989b. “Breaking the Ben of Harold MacMichael: The Ja’aliyyin Identity Revisited”, The International Journal of African Historical Studies, Vol. 21, No.2.

- Khalid, Mansour (ed.). 1987. John Garang Speaks, London.

- Mazrui, Ali. 1971. “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.

- Nasr, Ahmed A. (Ed.). 1985. Folklore And Development In The Sudan, University Of Khartoum, Khartoum.

- Rahim, M.A. 1969. Imperialism and Nationalism in the Sudan, Oxford University press.

- …………… 1971. “Arabism, Africanism and Self-Identification in the Sudan”, in Y.F. Hasan (ed.). Sudan in Africa, Khartoum University press, 1970.

- Sikainga, Ahmed. 1996. Slaves into Worker: Emancipation and Labour in Colonial Sudan, Modern Middle-Eastern Studies No. 18, Austin, Texas.

- Tayeb, Abdullah (el). 1998. "On the Abyssinian Hijra”, Sudan Notes and Records, New Series, No.2, pp.159-164.