Tuesday, June 19, 2018

تراوح عمليّة الوعي الوطني وذبح صورة السّوداني في الإعلام العربي


تراوح عمليّة الوعي الوطني وذبح صورة السّوداني في الإعلام العربي
محمّد جلال أحمد هاشم
هناك علاقة طرديّة، تقابليّة تتعلّق بتراوح هويّة السّودانيّين بين التّماهي العروبي المجروح وما ينجم عنه من إحساس بالدّونيّة تجاه العرب العاربة مقابل عنجهيّة عروبيّة مدّعاة إزاء من يليهم من أفارقة سود لم يستعربوا بعد من جانب وبين التّصالح مع حقيقة هويّتهم الأفريقيّة السّوداء وانتمائهم بالتّالي لواحدة من أعرق الحضارات في تاريخ البشريّة وما ينجم عنه من الإحساس بالأنفة والكبرياء. وهذا يثبت صحّة مقولة: "كيفما ترى نفسَك، يراك الآخرون"، على أن تُفهم على الوجه الصّحيح. فأنت إذا برزتَ للنّاس في الشّارع حاملاً سيفك لتعلنها حرباً شعواء على طواحين الهواء توّهماً منك بأنّها جيوش الأعداء، فلا تتوقّع أن ينظر إليك النّاس على أنّك فارس الفرسان. فالعلاقة بين حدّي هذه المقولة ليست تطابقيّة، بل تقابليّة. فإذا تصرّفت بطريقة تُنبي عن أنّك تركبُ الوهم والزّيف، عندها رآك النّاسُ رجلاً موهوماً زائفاً. وعليه، اختيار أيّ وجه تكون عليه، هو وقف على النّاس الذين تعيش بين ظهرانيهم طالما تحملُ تناقضات شخصيتُك لهم براح الاختيار. ولهذا لا نتوقّع من العرب العاربة أن يختاروا في فهمهم لنا الشّخصيّة الأفريقيّة السّوداء وريثة أقدم حضارات الأرض وصاحبة الأنفة والكبرياء، ذلك طالما كانت لهم مندوحة من هذا بأن يختاروا شخصيّة الأفريقي الأسود المستعرّ من أفريقيّته الذي يتوهّم أنّه ليس فقط عربياً، بل هو عرب العرب. فالعرب العاربة، على تخلّفهم وجلافتة غالبيّتهم العظمى ليسوا بأغبياء لدرجة ألاّ يلحظوا عامل الانهزام والانكسار الدّاخلي الكامن عميقاً في تلافيف الشّخصيّة العربيّة المدعّاة. فما الذي يجعلهم، والحال كهذا، أن يختاروا لنا أجمل جوانب شخصيّتنا ودونهم خيار آخر تُتيحُه لهم القطاعات الواقعة تحت سيطرة الأيديويلوجيا الإسلاموعروبية؟
مؤخّراً تصاعدت جائحة محمومة أصابت إعلام عدد كبير من شعوب منطقة الخليج العربي البترولي تستهدف شخصيّة السّوداني وتحطّ من قدره وتصوّره أبشع الصّور (انظر: زينب الفاضل عبّاس:The Sudanese in Arab Media: Misrepresentation or Misconception?  ــ "السّودانيّون في الإعلام العربي: عدم فهم أم تشويه؟"). وقد بدأت هذه الحملة، أوّل ما بدأت، قبل أكثر من ثلاثين سنةً، عبر سفارات جمهوريّة مصر بهذه الدّول بوصفها سياسة متعمّدة القصد منها تحجيم المنافسة الخطرة التي تشكّلها العمالة للسّودانيّة للعمالة المصريّة. وقد احتدّت هذه الحملة الشّعواء التي لم ترْعَ في السّودانيّين إلاّ ولا ذمّا أثناء وعقب احتلال العراق للكويت. فقد رأى النّظام المصري في موالاة نظام الإنقاذ الإسلامي (الذي كانت مصر هي أوّل من أيّده بين كلّ دول العالم) لاحتلال العراق للكويت فرصة سانحة قد لا تواتيهم. وقد خدمهم في ذلك الغضب غير الحكيم الذي شعر به الشّعب الكويتي إزاء السّودان؛ فبدلاً من أن يوجّه سهام حقده نحو نظام الحكم الذي كان الشّعب السّوداني (ولا يزال) يعاني منه، قاموا بتوجيهه نحو الشّعب السّوداني. أيّام احتلال العراق للكويت، درجت القنصليّات المصريّة بدول الخليج على تدبيج الكتابات على جدران المنازل التي تقرأ (الشّعب السّوداني يؤيّد احتلال العراق للكويت) وما شابه، استثماراً منهم لموقف نظام الخرطوم الأرعن، غير المحسوب سياسيّاً ولا أخلاقيّاً. وقد اكتشفت العديد من دول المنطقة أنّ القنصليّات المصريّة هي التي كانت تقف خلف تلك الكتابات، ذلك بعد أن ألقوا القبض على بعض المصريّين ممّن كانوا يقومون بتلطيخ جدران الشّوارع، فكشفوا عند التّحقيق معهم أنّ القنصليّة المصريّة هي التي كانت تقف وراء ذلك (كشف هذا في مقابلة تلفزيونيّة حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة القطري الأسبق). كما نشطت القنصليّات المصريّة في نشر وتكريس فهم نمطي عن السّودانيّين بوصفهم كسالى. وقد كان ذلك خطّة مدروسة وروشتّة ثابتة تقوم القنصليّات بمنحها للمصريّين حتّى يتقوّوا بها في مواجهة أنفة السّوداني وعدم اكتراثه للوقوف متى ما وصل ربّ العمل الخليجي للمكتب، حيث لوحظ أنّه بينما يُهرع المصري (والعديد من الجنسيّات الأجنبيّة العاملة بالخليج البترولي) وقوفاً وحملاً للحقيبة مع قدر كبير من "مسح الجوخ"، هذا بينما السّوداني لا يكلّف نفسه الوقوف أو إبداء أي اهتمام، كلّ هذا في أدب جمّ، لكن دون تزلّف أو خنوع. هنا ظلّت العمالة المصريّة، وبانتظام يُثير الرّيبة، تقول (طبعاً همساً) لصاحب العمل: "معليش يا بيه! أعذر السّوداني عشان ما وِقِف. هو أصلو كسلان وما يقدرش على الحركة زيّنا"! هذه هي الرّوشتّة التي ظلّت القنصليّات المصريّة تصرفها للعمالة المصريّة، حيث لم يخالفها إلاّ النّوبيّون الذين يعيشون في الجانب المصري ومن رحم ربّي من أفاضل الشّعب المصري.
وهكذا ما إن أهلّت الألفيّة الثّالثة حتّى وكانت صورة السّوداني قد تشوّهت لدرجة لا يمكن يصدّقها. فهؤلاء هم نفس السّودانيّين الذين بنوا (نعم: بنوا) الخليج بعرقهم وبصدقهم وإخلاصهم المشهود؛ وهؤلاء هم نفس السّودانيّين الذين كانوا يتبرّعون للسّعوديّة عندما كانت تعيش على ما يدرّه لها عائد الحجيج، قبل أن يظهر خير البترول بعد حرب 1973م؛ وها هم نفس السّودانيّين الذين أسّسوا الفرق الرّياضيّة بأغلب دول الخليج! فما الذي تغيّر؟ هذا ما سنسعى للإجابة عليه. فهذه الظّاهرة، وإن كانت مصر قد لعبت دوراً كبيراً في تشكيلها، إلاّ أنّها ليست اللاعب الوحيد الذي شارك في صناعتها. فالسّودانيّون الواقعون تحت سطوة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة أنفسهم لهم دور في صناعة هذه الظّاهرة، وهذا ما يهمّنا في الأمر! فالعرب عُرفوا بالعنصريّة وكراهيّة السّود من قبل الإسلام إلى ما بعده ثمّ إلى يومنا هذا. ولسنا في معرض الكيل بمكيالين لعرب الخليج على انكشاف عوراتهم وزجاجيّة شخصيّتهم التي كان ينبغي أن يتوقّوا لها بعد حصب الآخرين بالحجارة. فهم أيضاً لا يهمّوننا في شيء؛ فعنصريّتهم وبداوتهم وجلافتهم وتخلّفهم كلّها لن يبوء بها الشّعب السّوداني، بل يبوؤون بها وحدهم. ولكن هذا لن يمنعنا من الإشارة إلى حقائق على الأرض لا يتغالط عليها إثنان، ذلك من قبيل انتماء مؤسّسة الدّولة عندهم إلى مرحلة ما قبل مرحلة الدّولة الوطنيّة، أي ما يعني أنّهم متخلّفون عن ركب البشريّة بأربعة قرون على أقلّ تقدير. وفي الحقِّ، فإنّ كلّ ما حاول نظام الإنقاذ تحقيقه في السّودان هو تدمير مؤسّسة الدّولة الوطنيّة والعودة بنا إلى مرحلة ما قبل الدّولة الوطنيّة، أي أن نصبح كأيّ دولة في الخليج، يملك فيها الأمير أو الملك أو الشّيخ البلدَ بما عليها من ثروات وبشر يتصرّف فيهم كما يشاء. ولهذا لا توجد هويّة وطنيّة بهذه الدّولة وليس أدلّ على ذلك من أنّ شعباً بأكمله (مجازاً) يتسمّى باسم أسرة (السّعوديّون)، كما يوجد شعب آخر بأكمله (مجازاً) يتسمّى باسم شكل الدّولة (إماراتيون). فهذه موبقات تخلّفهم عن ركب الحضارة بأربعة قرون على أقلّ تقدير، ولا يبوء بهذا أحد غيرُهم. ما يهمّنا هنا هو العامل السّوداني الدّاخلي الذي أتاح لهؤلاء الأعراب الأجلاف الذين تطاولوا في البنيان وهم لا يزالون يرتضعون ضرع الشّاة ويشربون أبوال الإبل بركةً ويستحمّون بها أن يتطاولوا على أحد أعرق وأعظم الشّعوب في تاريخ البشريّة.
العوامل المتعلّقة بهذه القطاعات من السّودانيّين التٌّعساء لا يمكن إرجاعها إلاّ لنفس التّراوح بين ذينك القطبين الذي أشرنا له أعلاه. فالوعي بالذّات من خلال الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وإحساس السّوداني بعروبته المجرحة، غير المعترف بها، تجعل السّوداني يشعر بتفوّق العرب عليه، وهو أمر يُحسّ به الشّارع العربي ويتلمّسه. وهذا ما يدفع العربي العارب إلى أن يتوقّع من السّوداني درجة أكبر من حيث "الدّهنسة" والانبراش و"مسح الجوخ" التي يقوم بها المصري العادي وغيره. فنحن هنا بإزاء شخص يشعر في أعماقه أنّه يريد بكلّ ما يملك من أشواق خفيّة ومعلنة لأن يكون في زمرة العرب، مع عميق وعيه بأنّه ليس منهم، لكنّه يتظاهر من ورائهم بأنّه عربي. وحتّى إذا ملك الجرأة الغافلة لأن يُفصح عن زعمه هذا، لم يجد جواباً غير الهزء والضّحك ــ إذا كان هذا الشّخص كهذا، فلماذا لا يقدّم علانيةً كلّ فروض الطّاعة والولاء بأكثر ممّا يقدّمها هؤلاء الآسيويّون، ثمّ العرب من مصريّين وشوام وسوريّين وفلسطينيّين .. إلخ؟ فالمنطق البسيط يقول بأنّ يتوقّع العربي العادي من السّوداني ــ مطلق سوداني ــ أن يباشره في تعامله بالدّونيّة المفترضة فيه. لكن ما يجعله ينتفخ بالغضب أنّه ليس فقط لا يجد ما يتوقّعه، بل يجد ضدّه! وهنا يُعتملُ في داخله غضب مكتوم من هذا السّوداني الذي يصعب فهمه. وبالطّبع، هو لا يستطيع فهمه لبساطته وقلّة علمه وسطحيّته، مع صلفه وغروره جرّاء الغنى الفاحش وانتفاخ الذّات التي لا وطن لها. والهذا يقف عاجزاً دون أن يغوص إلى أعمق من سطح الظّاهرة. فالموضوع أكثر تعقيداً من ذلك. وهو ما سنشرحه أدناه. هذا ما كان بخصوص القطب الأوّل السّالب الذي تتراوح عليه إشكاليّة هويّة السّوداني. فماذا عن القطب الآخر؟
بخصوص القطب الثّاني الإيجابي، نجد أنّ الوعي بالذّات من خلال الإحساس بالهويّة السّوادانيّة غير العربيّة المدعومة بكلّ العمق الحضاري العريق، يدفع السّودانيّين للإحساس بالعزّة والكرامة وشموخ الذّات. هذا أيضاً يُحسّه الشّارع العربي ويتلمّسه عند التّعامل مع السّودانيّين. فالسّوداني في المعدّل العام average، وبحكم ما رفدت به التّجارب المعاشة في دول البترول العربيّة، لم يُعرف عنه الخنوع أو "الدهنسة" و"التّعرصة" و"مسح الجوخ" التي عُرفت بها شعوب أخرى كثيرة بالمنطقة، على رأسها المصريّون في المعدّل العام. هنا يجد المخدّمون من لفيف العرب العاربة بدول البترول الخليجيّة أنفسهم أمام شخص وفي ومخلص ومعتدّ بنفسه وعلى استعداد للتّضحية بوظيفته دون أن يسمح بامتهان كرامته. فلا يجد العربي العارب بدّاً من احترامه، لكنّه احترام مشوب بغيظ وحنق داخلي من هذا الإنسان الذي يتعامل معه بكلّ هذه الأنفة والشّموخ بينما هو يكسب قوته وأكل عيشه من مال العرب. فلماذا لا يُظهر من الاحترام (تُقرأ: الانبراش والتّذلّل) بمثلما يُظهر باقي العرب وكما يفعل الآسيويّون؟
كما نشب النّزاع بين هذين العاملين داخل الشّخصيّة السّودانيّة، نشب أيضاً داخل عرب الخليج المستضيفين للعمالة الأجنبيّة تجاه العمالة السّودانيّة بعموم. في ظلّ هذا التّراوح سقطت شخصيّات سودانيّة عديدة في المحكّ وقبلت بالاتّضاع وامتهان كرامتها قليلاً قليلا وخدمت بالتّالي كمقدّمة ينبغي للآخرين أن يمشوا في أثرها. في المقابل وقفت شخصيّات عديدة عند طبعها والتزمت كبرياءها لا تعدو عنه قيد أنملة، ورفضت بتأفّف أن ينتهي بها المقام في خدمة هؤلاء الأعراب الأجلاف المتخلّفين. هذه الفئة لم يُكتب لها غير أن تُلملم حاجياتها وتغادر تلك الدّول. لكنّها خلّفت وراءها عند مخدّميها ذكرى تجعل أبدانهم تقشعرّ عند تذكّرها. وبالتّالي عمدوا إلى تحذير المخدّمين الجدد (سودانيّين كانوا أم غيرهم) ألاّ يكرّروا ما فعلوا السّوداني قبلهم. هذا طبعاً بعد أن يكيلوا له من الشّتائم ما لا يعلمه غير الله، بالإضافة إلى إضفاء مسحة انتصار زائفة بادّعائهم أنّهم كسروا شخصيّته ثمّ طردوه شرّ طردة. أمّا القطاع الأعمّ من السّودانيّين فقد تمكّنوا من أن يتعايشوا مع مخدّميهم بكلّ احترام متبادل وهو ما عليه واقع الحال.
إلاّ أنّ العوامل الدّاخليّة في تلك الدّويلات الخليجيّة التي كانت لوقت قريب تسمّى بالمحميّات البريطانيّة كما يسمّيها البعض إلى الآن بالمحميّات الغربيّة كانت تسير نحو اتّجاه غير سعيد. فكلّ يوم تكشف الأحداث في هذه الدّويلات عن انبراش وانبطاح لأمريكا وإسرائيل غير مسبوق في التّاريخ. وبقدر ما تُثير مثل هذه المواقف الغضب الدّاخلي، تنجح هذه الشّعوب المغلوبة على أمرها في أن تتعايش مع كلّ هذا بالإسراف في حياة البذخ وإشباع الشّهوات والإفراط فيها لعلّهم ينسون واقعهم المرير وفشلهم المقيم. فهم رغم كل هذا الغنى لا يصنعون الإبرة، دع عنك فارهات سيّاراتهم وناطحاتهم. هذا بجانب خواء روحهم الوطنيّة، فهم شعب ولكن في نفس الوقت ليسوا بشعب كما تُعرف الشّعوب في عالم اليوم في القرن الحادي والعشرين. فمثلاً، نحن سودانيّون نعيش في دولةٍ اسمُها السّودان؛ وعليه، "الجمهوريّة" هو نوع الدّولة، بينما "السّودان" هو هويّة الدّولة وشعبها. فما هي هويّة "الإماراتي" أو "السّعودي"؟ فالأولى نوع الدّولة، والثّانية اسم عائلة! فأين الهويّة! أين الهويّة! أمّا ما عداها من دويلات، فجميعُها تتخلّف عن ركب البشريّة بأربعة قرون على أقلّ تقدير، إن لم يكن أكثر! فقد توصّلت البشريّة إلى مؤسّسة الدّولة الوطنيّة التي تقوم على حقوق المواطنة ولا تملك الحكومة أيّ سلطة بخلاف سلطة الشّعب المفوّضة إلى أعلى لتحكم بالنّيابة عن الشّعب ــ توصّلت البشريّة إلى هذا في عام 1648م بموجب اتّفاقيّة ويستفاليا. ولكن دويلات البترول العربيّة لا زلت تعيش في مرحلة ما قبل الدّولة الوطنيّة. فهم، وإن كانوا فاحشي الثّراء، إلاّ أنّهم تُعتمل في دواخلهم أحاسيس عارمة بدونيّتهم مقابل جميع شعوب الأرض، هذا وإن كانت مخفيّة عنهم باستتارها عميقاً في تلافيف وعيهم غير المباشر. خذوا كمثال لذلك دولة السّعوديّة التي "يا دوب" تحاول ــ تحاول ــ أن تسمح للمرأة داخل حدودها أن تقود السّيّارة، هذا بعد أن أصبحت السّيّارة تقود نفسها بنفسها! ومن سخرية الأقدار أنّ هذه الدّويلات المتخلّفة هي التي تريد أن تقود لواء التّغيير في دول الجوار التي تعود فيها مؤسّسة الدّولة الأمّة إلى آلاف السّنين، مثل السّودان، ومصر، وسوريا واليمن والعراق .. إلخ. وحتّى في هذا، لا يملكون جيوشاً لتقوم بما يطمحون إليه، بل يقومون باستئجار الجيوش من الأنظمة الفاسدة والضّعيفة، غير الوطنيّة، مثل نظام الإنقاذ المنبرش بالسّودان. وبدلاً من أن يتواروا خجلاً من هذا، نراهم يبتسمون في وجه النّاس كما لو كانوا قد فعلوا ما لم تستطعه الأوائلُ. هذا لعمري الفشل الذي ما بعده فشل! وقد جعلهم كلّ هذا الفشل وتكريسه بما لا خلاص منه ــ جعلهم ينحون لتفريغ غضبهم الدّاخلي وإحباطاتهم المتعاظمة على من يليهم من خدم المنازل الآسيويّين فدرجوا على تعذيبهم بطريقة تكشف عن أنّ قطاعاتٍ كبيرة في شعوب بأكملها ربّما كانت تحتاج للعلاج النّفسي. وليت هذا كفاهم، فهم لا يزالون يبحثون عن المزيد علّهم وعساهم يفرغون حمولاتهم الثّقيلة من الانهزام الدّاخلي وإحساسهم بعدم السّعادة، دنيا وآخرة. هنا جاءت ظاهرة الحطّ من قدر السّودانيّين كتعلّة لتلك النّفوس المريضة. لكن كيف؟
إزاء شخصيّته غير المستقرّة نفسيّاً والمتخلّفة حضاريّاً، وجد الشّارع الخليجي البترولي نفسه أمام شخصيّة متناقضة للسّوداني في المعدّل العام؛ فهي في جانب منها تُنبي عن إحساس بالدّونيّة، ومن الجانب الآخر تُبدي عكس ذلك من عزّة نفسٍ وكبرياء تجعلها تتعامل مع غيرها من أعراب الخليج أو غيرهم تعاملاً ندّيّاً عامراً باحترام الذّات والآخر. ولو خُيّر الأعرابي بين هذين السّلوكين، لاختار بالطّبع السّلوك الخانع، ولكن هيهات، فهو يعلم أنّ ذلك دونه خرطُ القتاد. هنا تدخّل العامل الذي رجّح من كفّة التّيّار النّازع نحو الحطّ من كرامة السّودانيّين وإعادة إنتاج شخصيّتهم بالصّورة التي نراها الآن تضجّ بها وسائل الإعلام العربي الخليجي ممّا صوّرته أحسن تصوير زينب الفاضل عبّاس في بحثها الشّجاع والجسور، ثمّ العلمي المشار إليه أعلاه. بالطّبع العوامل التي أفضت بنا إلى تكوين جذر انهزامي انكساري في هويّتنا لا علاقة لها بنظام الإنقاذ من حيث منشئها، وإن كان لانتشار هذه الظّاهرة الأخيرة بهذه السّرعة علاقة مباشرة بنظام الإنقاذ. فانتشار ظاهرة الحطّ من قدر السّودانيّين وتصويرهم كما لو كانوا شعباً من البلهاء الكسالى يقف وراءه مباشرةً انبراش حكومة الإنقاذ لحكومات هذه الشّعوب، وهو انبراش لا يمكن فهمه إلاّ في سياق العامل الانهزامي نفسه الذي استعرضناه أعلاه. مع هذا جاء دور القنصليّات المصريّة بدول الخليج (ثمّ الإعلام بدولة مصر) بوصفه محفّزاً catalyst لهذه الظّاهرة. هذا بجانب حقيقة أنّ هذه الشّعوب (شعوب دويلات الخليج)، بحكم انتمائها لمرحلة ما قبل الدّولة الوطنيّة، ينطبق عليها المثل القائل: "النّاسُ على دين ملوكها"! فهم تبّع لشيوخهم وأمرائهم وملوكهم إذا وقعوا بها في النّار تبعوهم؛ لا غرو أن قامت بعضهم بتسمية الشّعب بالتّابعين وفضّلت مصطلح "التّابعيّة" بديلاً للجنسيّة. ولهذا ما إن شهدوا بأمّ أعينهم انبراش حكّام السّودان لحكّامهم وامتهانهم لأنفسهم ثمّ فساد طويّاتهم الزّاخم، حتّى خلصوا إلى نتيجة خاطئة أوقعتهم فيها البلادة الموروثة والتّبلّد المكتسب مفادها أنّ هذا هو أيضاً حال الشّعب السّوداني.
بهذا تمّ فضّ الاشتباك الذي ظلّ محتدما دواخلهم بخصوص أيّ شخصيّة سودانيّة يفضّلون التّعامل معها: الشّخصيّة الاستعرابيّة الانهزاميّة المجروحة في هويّتها أم الشّخصيّة الأفريقيّة المنتمية لعمقها الحضاري الضّارب في القدم ذات الكبرياء والأنفة؟ وبالطّبع اختاروا الأولى وما هذه الظّاهرة إلاّ لحمل السّودانيّين للتأقلم مع هذا التّصوير الشّائه لشخصيّتهم الوطنيّة، وبالتّالي أن يستشعروا بالدّونيّة إزاء العرب بوصف العرب أسياد السّودانيّين الذين هم ليسوا عبيداً، بل في مرحلة العبيد المحرّرين قانونيّاً، المستعبدين ثقافيّاً واجتماعيّاً. بهذا لا يكون استعباد الليبييّن للسّودانيين مؤخّراً (ضمن استعبادهم للأفارقة وفتح أسواق شراء الرّقيق في القرن الحادي والعشرين) سوى الإفصاح غير الحصيف عن حقيقة وطويّة العرب عميقاً داخل أنفسهم. وهذا كلّه يتساوق مع ما قاله الدّبلوماسي المصري في اجتماعات منظّمة الوحدة الأفريقيّة عندما وصف الأفارقة بالكلاب والعبيد، ممّا طارت به الأخبار عالميّاً. وكلّ هذا يتّفق مع ما قلناه في الفصل الخاصّ بالتّهميش من أنّ دوائر التّمركز والتّهميش لو اكتملت دائرتها، فسوف تقوم بتهميش الشّعب السّوداني في مجمله للمركز العربي الكبير، وهو ما يحدث الآن أما ناظرينا.
ولكن ما هو الحلّ؟ الحل عندنا له ثلاثة وجوه! أوّل وجوه الحلّ هو كيف نتعامل مع العنصريّة؟ العنصريّة داءٌ عُضالٌ لا يبوء به إلا من يمارسونها علناً أو خفاءً؛ كما هي نارٌ لا تحرق إلاّ من يوقدها ويستدفئ بها. وهم في حُميّا مرضهم هذا، إنّما يعملون بكلّ ما في وسعهم لنشر نيران عنصريّتهم كيما تحرق ضحايا عنصريّتهم، بينما هم هم الضّحايا لو علموا. وهم إذ يفعلون هذا إنّما ليعوّضوا عن احتراقهم بنار عنصريّتهم. عليه، لا يصبح الشّخص الذي يتعرّض للعنصريّة ضحيّةً لها إلاّ بعد أن ينهزم أمام هذه العنصريّة. وهذا الانهزام ليس سوى الشّعور بالغضب والثّورة ضدّ من يمارسون عليه هذه العنصريّة. أمّا إذا شعر بأنّ من يقعون تحت طائلة العنصرة ضدّ الآخرين هم في الحقيقة الضّحايا الفعليّون للعنصريّة، وأنّ عنصريّتهم هذه مرض يعانون هم منه، وأنّها بالتّالي أمر يخصّهم دون أن يخصّه هو، وأنّهم بهذا الوضع لا يستحقّون غير الرّثاء، عندها يتحرّر هذا المرء من رِبْقة العنصريّة بينما يظلّ مقيّداً في حبائلها من يبزء بها من لفيف العنصريّين. هذه هي القاعدة الأولى في مواجهة العنصريّة الاجتماعيّة، أي غير المسنودة بالقانون. أمّا العنصريّة المسنودة بالقانون، فينبغي مواجهتها ليس بالغضب فحسب، بل بحمل البندقيّة وقتالها. فالعنصريّة فيما يحدّثنا به التّاريخ، لا يمكن التّحاور معها؛ فهي إمّا أن تسحقك أو أن تسحقها، لا غير!
أمّا الخطوة الثّانيّة التي تختصّ بالمصريّين، حكومةً وإعلاماً، فإنّ ما ينبغي للشّعب السّوداني أن يعلمه خير العلم هو أنّه يسير في الطّريق الصّحيح طالما كان المصريّون ــ حكومةً ومعارضةً وإعلاماً ــ غير راضين عليه. فإنّ أخشى ما ينبغي أن يخشاه الشّعب السّوداني هو رضى مصر، حكومةً وإعلاماً، عنه. ففي كلّ العالم لا توجد دولة تنظر نحو السّودان بعينٍ استعماريّة احتلاليّة توسّعيّة غير مصر. وفي الحقِّ، إزاء انزلاق الدّولة في مصر نحو المحاق جرّاء انعدام الموارد والتّضخّم السّكّاني والفساد وتوقّع جولة حكم إسلامي بها مثلما مرّ به السّودان، لا يوجد هناك خطر يُحدق بالسّودان غير مصر. وليعلم السّودانيّون جيّداً أنّه طالما ظلّت مصر تعتمد في حياتها بصورة كلّيّة على نهر النّيل، وطالما ظلّ نهر النّيل يمرّ عبر السّودان ليصل إلى مصر، فسوف تكون للسّودانيّين اليد الطّولى على مصر إلى أبد الدّهر، وعلى المصريّين أن يتصالحوا مع هذه الحقيقة. فخنوع السّودان لمصر، هذا الخنوع الذي وسم العلاقة بين القطرين منذ ما قبل الاستقلال إلى يومنا هذا، إنّما هو خنوع الصّفوة وساسته الخاضعين لسطوة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وهذا جزء من أدواء وأمراض السّودان القديم، لكن حال تحقّق السّودان الجديد، حلم غالبيّة الشّعب السّوداني المهمّشين، فعندها سوف تنقلب الآية وإلى نهاية التّاريخ. فكلّ ما يتوجّب على السّودانيّين هو تصالحُهم مع هويّتهم الأفريقيّة السّوداء والكفّ عن ادّعاء أيّ وشيجة عروبيّة، حتّى لو وُجدت، طالما ستكون مدخلاً لانهزام الذّات الوطنيّة. فأهدى السّبل أن يثوبوا إلى رشدهم الوطني وينظروا إلى أنفسهم بوصفهم أفارقة سوداً وما تحدّثهم باللغة العربيّة إلاّ لكونهم عربوفونيّين.
أمّا الخطوة الثّالثة للحلّ فتكمن في النّظر في أمر أنفسنا وما انتهى بنا إليه الحال من حيث استمرار نظام الإنقاذ الإسلامي  لدرجة "مرمطة" اسم السّودان والسّودانيّين للدّرجة التي تطاول علينا من لا يعرفون هويّةً لأنفسهم بخلاف اسم أسرة حكّامهم، ومن لا يعرف اسماً له غير شكل الدّولة. وهذا ما نحن بصدده في هذا الفصل من كتابنا هذا. ولعلّه من نافلة القول إنّ أوضاع هذه الشّعوب (مجازاً) تجاهنا سوف يستقيم أمرها ضربة لازبٍ بمجرّد ذهاب هذا النّظام اللاوطني الذي لم يجسّد شيئاً كما جسّد الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة في عنجهيّتها الجوفاء من جانب، ثمّ انهزامها وانبراشها من جانب آخر، ثمّ فشلها وعدم مواكبتها لروح العصر منذ عصر النّهضة إلى يومنا هذا، ثمّ إلى ما بعده. إنّ هذا النّظام سوف يذهب إلى مزبلة التّاريخ ما في ذلك شكّ، لكن ليس بلا تكلفة غالية قد تصل إلى حدّ انهيار مؤّسّسة الدّولة، ولا ندامة. فإن كان ذلك هو كلفة تحرّرنا من رِبْقة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، فذلك ما سندفعه راضين بذلك أم غير راضين.