Friday, August 14, 2015

داعش وبنات وأبناء المجتمعات السودانية بالمهاجر الغربية

 نُشر المقال من قبل في:

محمد جلال أحمد هاشم
لاهاي ـــ هولندا
13 أبريل 2015م
مقدمة
جاء في الأخبار مؤخراً أن مجموعة من بنات وأولاد الجاليات السودانية (في بريطانيا تحديداً) قد انتهى بهم الأمر إلى هجرة جماعية صوب معسكرات حركة داعش. قد يجوز القول بأن مجموعة الشباب هؤلاء ربما تلقوا أفضل تعليم يمكن أن يحظى به سوداني، فضلاً عن أجود تربية واهتمام أبوي لا يمكن أن يحظى به إلا المحظوظون فعلاً. ثم جاءت الصدمة الكبرى بعد ذلك عندما توالت الأخبار تنقل خبر مقتل بعضهم، ثم جاء أنّ ابناً للأخوين الصديقين مها الجزولي وراشد سيد أحمد (بالمملكة البريطانية) قد قُتل بالعراق، بينما هناك أخ شقيق له قد انضمّ لداعش بسوريا. بدءاً أحرّ التعازي لمها وراشد ولكلا الأسرتين الكبيرتين ثم لجميع الجاليات السودانية التي ولجت باب الهجرة إلى الغرب وهي كمن دخل الصحراء وهو لا يملك من زاد سوى جرعة عابرة اجترعها وهو يزمع الخروج إلى وجهةٍ غير معلومٍ مدى سفرِها. لقد دخل السودانيون إلى جحيم الهجرة إلى دول الغرب وهم غير مجهّزين البتّة لمواجهة ما ينتظرهم هناك. فقد جاؤوا أول أمرهم في غالبهم الأعمّ وهم فرادى في مقتبل العمر ريثما يتزوجون أو وهم حديثي عهد بالزواج، لهم طفل أو طفلان. وقد عاشوا في غالبهم الأعمّ منذ لحظاتهم الأولى في زهو ووهم أنهم قد تخلصوا من جحيم سودانهم وأنهم الآن قد أصبحوا يرفلون في نعيم الحياة الغربية، فضلاً عن الزهو بأن أطفالهم قد أصبحوا يتحدثون اللغات الغربية التي لا يقدرون عليها بنفس الطلاقة، طلاقة من نشأ عليها وما شابه ذلك من أوهام لا يمكن أن تتلبّس إلا ذوي الأحلام العصافيرية.

الحياة في عالم الأوهام
ولكن أكبر الأوهام التي عاشوا عليها وربما لا يزالون يعيشون عليها هي أن إقامتهم بالغرب سوف تكون لها نهاية قريبة بعدها يعودون للسودان. في هذا يحكي لنا تاريخ الهجرة مطلقاً أن المهاجرين قلما يعودون إلى البلدان التي صدؤوا منها أول أمرهم. فبدلاً من أن يبدأوا حياتهم في دول المهجر الغربية بوعي تام بموضوع الهجرة وكيف أن هذه المهاجر سوف تصبح وطنهم االجديد إلى ما لا نهاية، تلبّسهم الوهم بأن إقامتهم هناك لفترة قصيرة. وقد جعلهم هذا الوهم يعيشون في دول الغرب ليس دون أن ينتموا إليها فحسب، بل دون أن يخططوا المصير الذي يريدون أبناءهم أن يعيشوه من حيث مكانتهم في مواطنهم الجديدة، وبالتالي تهيئتهم لجملة التحيزات المنبثّة عميقاً داخل بنية هذه المجتمعات الغربية ضد الأفارقة والعرب والمسلمين بوجه خاص ثم ضد أي غريب بصورة عامة. لقد سيطرت على غالبهم الأعم عِماية ثقافية وفكرية ماحقة مؤدّاها أنهم بمجرد استلام الجواز الغربي سوف يعودون للسودان لحسم معركتهم ضد الإنقاذ. وما دروا أن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فمن يعتمد على سيادة وسلطة دولة أخرى سوف يكون أعجز عن أن يجترح المكرمات ما لم تقم هذه الدول الغربية بتنفيذ برنامجه بالنيابة عنه. وهكذا مرت السنوات تعقبُها السنوات حصل فيها أغلبُهم على الجواز دون أن يقدروا على تحقيق حلم العودة الذي نأت به الليالي كما لو كان قمراً بعيداً قد دخل في المحاق ولم يعد له وجود.
وهكذا بُذرت البذور الأولى لمجتمع مأزوم ومنفصم تتجاذبه رياح عاتيات في خضمّ أعاصير الحضارات. مجتمع ينكفئ فيه الأبوان على قنوات أراب سات ونايل سات بالأسفل بينما يعتزلهما الأطفال بالأعلى، منكبّين على قنوات البلد الذي نشأوا فيه حيث يعيشون وهْم طفولتهم الذي سيدفعون ثمنه غالياً عندما يكبرون، وهْم أنهم فعلاً ينتمون للهوية الغربية والثقافة الغربية ثم للبلد الغربي الذي وجدوا أنفسهم فيه. فالأبوان يتحدثان مع الأطفال في أحسن الأحوال بالعربية بينما الأطفال يردّون باللغة الغربية التي نشأوا عليها. ولكن نفس هؤلاء الأطفال سوف يكتشفون مجموعة التناقضات التي تنتظرهم عندما يشبون عن الطوق. فهم قد نشأوا متحوصلين داخل حوصلات ثقافية غربية صغيرة بينما يتظاهرون للأبوين أنهم ينتمون إلى الثقافات التي صدر منها الوالدان وهي خدعة لم تنطلِ على الوالدين ولو عاشا بموجب تصديقها. لم ينخدع الوالدان لسبب بسيط وهي أنهما هما اللذان صنعا تلك الكذبة وظلا يعيشان عليها بوصفها سيجارة بنقو نفسية تجعلهما يحتملان حقيقة ما يعيشانه، أي حقيقة افتراق الخط الثقافي بينهما من ناحية وبين أطفالهما من ناحية أخرى. فالسودان والثقافة السودانية (بحسب تنزّلها إقليمياً وفق الخلفية الإثنية والجغرافية للأبوين) وكل ما من شأنه أن يمتّ بصلة لمجتمع الوالدين الحقيقيين بالنسبة لهؤلاء الأطفال ليس سوى تركة أبوية ثقيلة عليهم تحملها حباً للوالدين ريثما يتحرران منها في يومٍ قريب. فلأكثرهم ليس السودان سوى شيء هربت منه أسرهم هرب السليم من الأجرب. ثم هناك سيجارة بنقو أخرى تقوم الجالية في مجملها بممارسة تدخينها جماعياً، ألا وهي ما يسمى المدرسة العربية يوم السبت. وهي أشبه بواجب أضعف الإيمان، أي كما لو أنهم "خلاص" قد قاموا بالواجب وبالتالي قد أعفوا أنفسهم من مسئولية "التغريب" الممنهج الذي ورّطوا فلذات أكبادهم فيه. كل هذا داخل مجتمع مأزوم أصلاً في هويته ومنفصم ما بين عروبته وأفريقيته. ولا غرو أن ظلت الجاليات السودانية في الغرب تعيش في هامش الجاليات العربية في كل شيء تأكيداً لهامشية السودان للمركز العربي الكبير. فهو مجتمع هارب من جحيم الدولة الإسلامية، بينما هو أشد مراقبةً لنفسه من حيث التطبيق الذاتي لنفس أحكام الشريعة التي هربوا منها. فالرجال والنساء الذين يشربون الخمر لا يفعلون ذلك إلا سراً، كما لو كانوا يتخفون من بوليس الآداب والكشّة ومحاكم النظام العام. هذا يحدث في قلب العواصم الأوربية. والبنات الشابات اللائي جئن إلى أوربا وهم يعيشون وهم أنهم بصدد أن يعيشوا حياةً متحررة من ربقة وقيود التقاليد الصارمة التي كانت تكبلهم في المجتمع السوداني، فأقاموا علاقات من رصفائهم الشبّان السودانيين على غرار الحياة الغربية المنفتحة، اكتشفوا أنه قد تم تصنيفهم على أنهم عواهر ومن ثم ظلوا يدفعون ثمناً باهظاً دفع بهم إما إلى التسليم بأنهم فعلاً هكذا، أو انزووا بعيداً من الحياة العامة. فمنهن من عادت رويداً، رويداً لحظيرة ثقافتها المتحيزة نوعياً ضدها سعياً منها لراحة بالها ولكن هيهات؛ فمثل هذه المجتمعات الموغلة في المحافظة لا تعرف المسامحة والغفران. ومنهنّ من داومنّ على مزاولة حياتهنّ وهنّ يستبطنّ انهزاماً داخلياً جرّاء تسليمهنّ بذات المعايير الأخلاقية المتحيزة نوعياً ضدهنّ. ثمّ هناك من كفرن بهذا المجتمع وبقيمه فاعتزلنه، كافرين بمجتمعهم المهجري الصغير وبمجتمعهم الكبير في الوطن المهجور. هذا والرجال في غيِّهم القديم سادرون لا يلوون على شيء، متمسكين بجملة الامتيازات الذكورية التي احتقبوها من ذات مجتمعاتهم التي هربوا منها. وهكذا انتهى الأمر بهذه الجاليات السودانية الهشّة فيما يتعلق بكبارها دون صغارها إلى أن تصبح أكثر محافظةً وتقليديةً من المجتمع الذي صدروا منه أول أمرهم.

ولكن ماذا عن الجيل الثاني من المهاجرين؟
ولكن كلّ هذا ليس سوى نُذُر العاصفة، فعين العاصفة تنتظر في الواقع أطفالهم ما إن يشبّون عن الطوق. أولاً ينشأ هؤلاء الشبّان والشّابات وهم على وعي تام بحالة الخواء الفكري والحضاري والثقافي التي تعيش فيها أسرهم ممثلة في الوالدين، كما ينشأون وهم على وعي تام بحالة الزيف التي انطوت عليها حياتُهم من حيث التظاهر والتمثيل لأسرهم بأنهم فعلاً نفس الأطفال المهذّبين والمؤدّبين ثمّ البريئين في حالة البنات. لكن الصدمة الكبرى التي تنتظر هؤلاء الأطفال حالما يكبرون هو أن المجتمع والثقافة التي نشأوا وهم يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه الشكّ أنهم ينتمون إليه وهم منه وهو منهم بمثل علاقة التفاحة وقشرتها، ليس سوى وهم كبييييييير. فهذا المجتمع لا يقبلهم وهم في حقيقة أمرهم يعيشون وهماً انزرع فيهم بموجب براءة (تُقرأ: جهالة) الطفولة وأنه عليهم الآن واجب أن يستيقظوا من هذا الوهم. عندها وعندها فقط تشرع الغالبية العظمى من هؤلاء الضحايا الأبرياء الذي يُذبحون على النطع، نطع داعش الحضارة الغربية، في تدشين رحلة خاسرة بكل المعايير، ألا وهي رحلة الرُّجعى والعودة إلى هويّتهم الحقّة، ولكن هيهات! عادةً ما تبدأ أولى الخطى في رحلة العودة الخائبة هذه بطلب زيارة إلى السودان. وهذه ستكون بداية اكتشافات وخيبات أمل أخرى، إذ إنّ الراجح أنهم يكتشفون انبتات الجذور لدرجة تجعلهم غرباء في وطن الوالدين بأكثر من غربتهم في وطنهم الغربي الذي نبذهم، وهو الوطن الذي يملكون جميع مفاتيحه الاجتماعية والثقافية والفكرية واللغوية، لكنه يرفضهم. فهم في الوطن الأمّ لوالديهم مقبولون، نعم، لكنهم لا يملكون مفاتيحه ويعيشون فيه كما يعيش الضيف الغريب. وفي سبيل أن يمتلكوا هذه المفاتيح مطلوب منهم أن يعيشوا فيه لفترة كافية لتفكيك شفرته ومن ثمّ امتلاك مفاتيحه الثقافية والفكرية والاجتماعية. وأولى هذه العقبات صعوبة الانتقال من المستوى الحضاري والتقني السياسي في الغرب والعيش في الوضع المتدني لبلد أفريقي يعتبر أحد أفقر وأفسد بلدان العالم اقتصادياً وسياسياً. ثم هناك عقبة اللغة، دع عنك عقبة القيم الثقافية وتناقضاتها. أوليس هذا هو نفسه المجتمع صاحب تلك القيم البالية التي تحملوها في والديهم بإحسان ريثما يكبرون؟ فكيف يتسنى لهم التصالح مع هذا؟ هيهات! وهكذا يدخلون في رحلة رُجعى خائبة أخرى إلى الوطن الذي لا يقبلهم.
ولكن لا بد من صنعا ولو طال السفر! لا بد من خلاص! ولكن كيف الخلاص؟ وأين هو؟ آااااه! إنه الله!
هنا يتجه هؤلاء الشباب إلى الله ـــ بمباركة الوالدين وفرحتهما الكبيرة غالباً. فالوالدان في غالب الأحوال قد ظلا طيلة حياة أطفالهما يعكسان للأطفال أن الإسلام والعروبة جزء أصيل لا يتجزأ من مكونات الثقافة السودانية التي ليست سوى إسلامية عربية في جوهرها. أرأيتم لماذا ابتعدت مجتمعات أهلنا من جنوب السودان واعتزلت الجاليات السودانية الشمالية بدول المهجر لسنوات قبل بروز الدعوة للانفصال! ذلك لتكريس الجاليات السودانية الخاضعة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية من تقليديتها وعلى رأسها تكريس تهميشها بوصفهم أفارقة مستعربين إزاء العرب العاربة، وأول هذا التكريس الاستغراق في تكريس التقليدية القائمة على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي تتدثر خارجياً بدثار العروبة والإسلام. لقد فعلت هذه الجاليات هذا باتحادييهم وحزب أمتهم وبعثييهم ومستقلينهم وشيوعيينهم وناصريينهم، أي بصرف النظر عن العباءات الفكرية الخارجية، أيميناً كانوا أم يساراً أم وسطاً. فهنا في الغربة لا تبقى غير المواقع الأيديولوجية الحقيقية. فلتنظروا في المصادر الأيديولوجية لفصل الجنوب قبل أن تنظروا في نظام الإنقاذ الذي قام بإنفاذه سياسياً وعملياً. واليوم بينما تحارب الدولة شعب دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، ها هي نفس هذه المجتمعات المهاجرة تعتزل أبناء وبنات هذه الأقاليم، كما لو كانت تتساوق خطواتها مع ما يقوم به نظام الإنقاذ، كما لو كان هذا تمهيداً لفصل هذه الأقاليم بشنّ الحرب الاجتماعية والثقافية ضدها في الوقت التي تشنّ فيه دولة الإنقاذ الحرب العسكرية ضدها. فهل بعد هذا يمكن أن نسمي هذه المجتمعات المهاجرة بأنها معارضة لنظام الإنقاذ؟ إنهم جميعاً أكثر إنقاذيةً من التنظيم الذي دشّن نظام الإنقاذ، ذلك لأنهم طبقوا الإنقاذ في خاصة أنفسهم انصياعاً منهم لحقيقة انتمائهم الأيديولوجي الإسلاموعروبي وهم ليسوا في الغرب فقط، بل وهم يعيشون حالة الوهم التي جعلتهم يظنون أنهم إنما خرجوا من وطنهم رفضاً ومحاربةً لنظام الإنقاذ، فإذا بهم في خاتمة أمرهم يبيضون فلا يفرخون غير دواعش، أي نفس نسخة الإنقاذ لكن بصدق شدييييد. إذ ليس هناك اختلاف فقهي بين الإنقاذ وداعش إلا في كون الداعشيين أكثر صدقاً مع أنفسهم من أهيل الإنقاذ. ومع كل هذا تبقى كلمة لا خير فينا إن لم نقلها، ألا وهي أن المنابع الرئيسية لهذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية إنما تصدر من تلقاء الوطن. فهذه المجتمعات المهاجرة إنما حملت معها من داخل وطنها فيروس فصل أي إقليم يستعصي على عملية الأسلمة والاستعراب في صيغتها الأيديولوجية.

فلتبحثوا عن الله في نفوسكم قبل البحث عنه في المساجد
بالعودة إلى شباب المهاجر في بحثهم الخائب عن الله، سنجد أنهم أول ما يبحثون عن الله يبحثون عنه في الجامع بدلاً من أن يبحثوا عنه في أنفسهم أولاً، فالله أقرب إليهم من حبل الوريد. هذا بجانب أن الله قلما يتواجد في المساجد هذه الأيام لغربة المساجد نفسها عن الله. فالمسجد بدون الله ليس سوى جدران. فماذا يجدون داخل هذه المساجد؟ إنهم يجدون الإرهابي، والإرهابي ليس انتحارياً بالمرة. إنه "نفساني" خبير بالنفوس الضائعة التي يتبدى ضياعُها أول ما يتبدى في نظراتها الحيرى التي تفتش عن الله كما لو كانت تفتش عن إبرة داخل كومة من القش، هذا بينما الله موجود في كلّ مكان وأول هذه الأماكن في داخل نفوسهم لو أنهم دخلوا إلى باحة الإيمان على أنه حالة من حالات البحث عن الكمال وليس مجرد قشة واهية يتعلق بها الغريق.
علينا أن نفرّق بين الإرهابي من جهة وبين الانتحاري من جهة وبين إمام الكراهية الذي يبث الكراهية ضد الغرب وطريقة حياة الغرب. أولا، كما قلنا، الإرهابي ليس انتحاريّاً، كما هو ليس نفسه إمام الكراهية. إمام الكراهية لا علاقة له ببث الكراهية لأنه لا يُنتجها، بل هو نفسُه ناتج لها. بمعنى آخر، عدم امتلاك المجتمعات الغربية لبرنامج ثقافي اجتماعي عبره يمكن تأسيس أرضية واقعية وقوية لتكامل المسلمين الوافدين الذين ينالون جنسية البلدان الغربية بما من شأنه ألاّ يجعلهم يغتربون عن ثقافاتهم ومعتقدهم بنفس الدرجة التي من شأنها أن يجعلهم قادرين على التعايش بطريقة بناءة في المجتمعات الغربية ــــ عدم امتلاك هذه المجتمعات الغربية لبرنامج تقبلي accommodation programme هو الذي يخلق الكراهية وسط المسلمين الذين يعيشون في هذه المجتمعات الغربية.
بالنسبة لأئمة المساجد في الغرب يبقى أمامهم الخيار: إما أن يقل عدد المصلّين خلفهم إذا ما التزموا الحياد إزاء هذه القضية، أو خيار امتلاء صفوف المصلين خلفهم إذا استجابوا لهذه الظاهرة العامرة بالكراهية ومن ثمّ شرعوا في تدبيج خطب الكراهية استجابةً لها ومن ثمّ حثّاً لها. وبالطبع، تعكس خطب الكراهية فقر الفكر والفقه السنّي بنفس الدرجة التي ظهرت بها جماعة داعش من حيث حوشيّتها ومفارقتها لروح العصر كما لو نزلوا علينا من السماء، بما يجعل المرء يصرغ متسائلاً (باقتباس كلمات الطيب صالح)، "من أين جاء هؤلاء"؟ ولنلاحظ كيف تتسق العبارة في كلا حالتي الإنقاذ في السودان وداعش حيثما وُجدوا. فالأهدى أن يظهر فقه سنى جديد من شأنه أن يجعل المنتمين إليه يتواءمون مع روح العصر وهو شيء وإن لاحت بوادره إلاّ أنّ شمسه لم تتنفّس بعد. ولنا في هذا رفد وإن يكن بمثابة جهد المقلّ إلاّ أنّه ما أتاحه لنا المولى من فهم وعمل.

الإرهابي المتخفي في المساجد
الإرهابي لا يُظهر نفسه إلا لضحاياه الذين يفترض فيهم أن يكونوا قد أصبحوا ذات نفسية انتحارية قبل وصولهم إلى الجامع بمثلما ينتهي إليه أمر الكثير من الأشخاص الذي يعجزون عن أن يتواءموا مع متطلبات الحياة، أكان هذا في المجتمعات الغربية (على كثرتهم) أو أي مجتمع آخر. يكمن دور الإرهابي في إعلاء sublimation الحالة النفسية الانتحارية لدى الشاب أو الشابة الذين يلجأون إلى المسجد بحثاً عن الله بطريقة مرَضَية تجعل من الله شيئاً أشبه بالشخص المتعيّن زماناً ومكاناً، وهذا بالضبط ما ينتظره الإرهابي، إذ إنه، بوصفه نفسانيّاً ضليعاً بنفوس ذوي النزعات الانتحارية، يعرف تماماً كيف يتقمص حالة الله المستأنس هذا، فيبدأ في نفخ هذه النفس المريضة إعلاءً لدوافعها الانتحارية بحيث يشفي غليلها أولاً في الانتقام، ذلك بإلحاق أكبر قدر من الأذى بالآخرين ــ أي آخرين إطلاقاً ثم بالآخرين تحديداً وفقما تُتيحه الظروف الراهنة من استقطابات. ثم ثانياً أن يكون في الانتحار ما يكفّر تأنيب الضمير بحكم أن هذا الانتحار فيه، أولاً، حياة أخرى أكثر استدامةً وأكثر ثواباً، ثانياً، لما في هذا الانتحار من مرضاةٍ لله (تُقرأ: للإرهابي المتوشّح بثوب الله المتسأنس).

من هو صانع الإرهاب الحقيقي؟ عداء السامية المُحدثة
بخصوص الحكومات الغربية، فإنها أشدّ سوءاً من الإرهابي. فهي أولاً تعرف أنها هي المسئولة عن تحويل هؤلاء الشباب إلى انتحاريين، بمثلما تعلم أن الإرهابي شيء وإمام الكراهية شيء آخر وبمثلما تعلم أن الانتحاري شيء آخر. لكنها تتعمّد الجمع بينهم جميعاً بما يجعلها تعقّد الأمور بحيث لا تقع يدُها على الإرهابي المنزوي دائماً بينما تقع يدُها دائماً على إمام الكراهية بتحميله مسئولية خلق الكراهية بوصف هذه الكراهية هي المسئولة عن خلق الحالة الانتحارية. أي بعكس الأمور تماماً! لماذا؟ أولاً لأنها أقوى من جميع حالات الإرهاب التي يمكن أن تأتيها من قبل المجتمعات المسلمة. فقد جربت أوربا الإرهاب باسم الدين والهوس الديني. وفي هذا تقف حالة الهوس الديني الإسلامي كما لو كانت إحدى لعب الأطفال إذا ما قيست بما مرت به أوربا. فنفس أوربا التي أشاحت بوجهها اشمئزازاً من حرق الطيار الأردني كانت وإلى وقت قريب تستفرد بجائزة أكبر محارق حية لحرق المعارضين سياسياً ودينياً وعرقياً بينما الناس يتحلقون وهم يباركون هذه المحارق. ثم كانت آخر المخازي بمحارق النازية لليهود التي حصدت الملايين قبل ما يزيد عن نصف قرن من الزمان بعقد أو عقدين. فالأيديولوجيا المركزية الأوربية لا تعبأ لمصلحة مسلميها بأكثر مما تعبأ لتنميطهم جميعاً في قالب الإنسان صاحب العقيدة غير الحضارية التي لا تنتمي لهذا العصر. وهذا شيء له علاقة بعدائها للسامية التي سامت بحرّاها وبمحارقها يهود أوربا. ولنلاحظ أن المسلمين والعرب لا علاقة لهم بعداء السامية. لقد اضطهدت أوربا اليهود بأيديولوجيا عداء السامية إلى أن بلغت الغاية في هذا بحرقهم جماعياً خلال الحكم النازي في ألمانيا. وقد بلغ عداء السامية قمته في حرق اليهود عبر عدة مراحل بدأت بطردهم من دولة إلى أخرى في أوربا ثم بتحجيم إقامتهم في القيتوهات المعروفة إلى أن بلغت الغاية بأن عمدت أوربا إلى التخلص منهم نهائياً بحرقهم. في هذا جاءت النازية بوصفها (ربما في كل صورها) تعبيراً ختامياً للمركزية الأوربية بصورة عامة وتتويجاً لحملة عداء السامية تحديداً. ولكن اليهود صمدوا برغم كل هذا، فما كان من أوربا إلاّ أن أعادت تكتيكاتها دون أن تتخلى عن عدائها للسامية. وقد تمثّل كلّ هذا فيما أسميتُه "عداء السامية المحدثة" Neo-Anti Semitism، حيث تمّ إبدال العرب والمسلمين باليهود، بل أكثر من ذلك تمّ فيها استخدام قطاع كبير من اليهود كأدة لممارسة عادء السامية المحدثة، وليس ما يحدث بفلسطين سوى عداء السامية المحدثة يمارسه الآن من مورس عليهم عداء السامية القديمة. ولهذا نرى أغلب من ينضمّون إلى حركات الهوس الديني الإسلامي السنّي ممّن وُلد في الغرب أو عاش طفولته وكبر عن الطوق بوصفه ينتمي للدولة الغربية المعنيّة. وهذا ما تتحمّله الدول الغربية بنفس الدرجة التي يتحمل فيها المسلمون السنّة المسئولية كونهم تركوا دينهم نهباً لفقه قديم وبالي لا يصلح لهذا العصر في أغلب وجوهه.
هذا جانب من المشكلة ربما ليس كثير التعقيد. لكن الجانب الأكثر تعقيداً هو أن أي ظاهرة عندما تدوم ممارستها لفترة قد تحقق استقلاليتها. وهذا ما أخشى أن يكون عليه حال داعش. فقد تنامى الهوس الديني السنّي وبلغ درجة من التماسك ربما دفعته إلى أن يستقلّ عن عوامل وطرق تشكّله الأولى. فاليوم تبدو داعش كما لو كانت غير محتاجة لنفس آليّة إفراز الانتحاريّين التي شرحتُها أعلاه. فقد أصبح هناك جنس genre للشباب الذي يعيشون حالة الضياع هذي ويريدون أن يتمرّدوا على واقعهم بطريقة لا تغيره بل بطريقة من شأنها التنفيس عن كوامن الحقد والكراهية التي تُعتمل في دواخلهم. هذا دون أن ننفي استمراراية نفس العوامل أعلاه في إفراز المهووسين والانتحاريين. الآن فلتنظروا معي إلى أتون هذه المعركة التي دخلت فيها الجاليات السودانية التي هربت من جحيم الإنقاذ ليس لتقع في هذا الجحيم فحسب، بل لينتهي بها أمرُها وهي لا تنتمي لشيء في عمق فقهها الذي تدين به كما تدين لداعش.

نظام الشرق الأوسط الجديد New Middle East Order
لكم يعجب المرء عندما يرى التآمر الأمريكي إزاء دول الشرق الأوسط بعموم، وكيف يتصرف إزاءها الجميع مع علمهم التام بها بالضبط كما لو لم تكن موجودة بالمرة. ولا يملك المرءُ إلا أن يستهشد بما قاله يوسف السباعي إزاء وضع مماثل: "يا أمةً ضحكت من جهلها الأممُ". فالمتأمل فيما يعرف بنظام الشرق الأوسط الجديد الذي دشنته كونداليسا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة) خلال إحدى زياراتها لإسرائيل لا يملك إلا أن يهز رأسه عجباً وأسفاً. يقوم هذا النظام على ثلاث زوايا، أولاها أن أي دولة كبيرة المساحة سوف تكون غنية بالموارد ضربة لازم، والثانية أن هذه الدول سوف تنهض في عصر العولمة هذا بفضل العديد من الشركات الغربية "مقطوعة الطاري" التي لا يكون لها هم غير جمع المال، فتقوم بتنمية هذه الموارد بما يجعل الدولة المعنية قادرة مالياً لبناء ترسانة عسكرية ضاربة (ليس بالضرورة لتنمية بلادها). الفرضية الثالثة تقوم على أن هذه الدولة الناهضة، بفضل خروج المعرفة التقنية عن القيود الدولية التي كانت مفروضة عليها، سوف توظف هذه القدرات ضد إسرائيل، إذ ليس من المحتمل أن تظهر دولة حليفة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط من منطلق التسامح والقبول غير المشروط أو غير المضغوط. جاء نظام الشرق الأوسط الجديد لإيجاد مخرج لهذه المعضلة تلخص في أنه لا مناص من تقسيم الدول ذات المساحة الكبيرة بما يقلل من مواردها المستفادة بحيث لا يمكن لأيٍّ منها أن تصبح دولة ذات خطر مهما فحُشت في الثراء. النموذج الأمثل لهذه الدول هو ما يعرف بالدولة المشيخية التي ازدهرت في الخليج، حيث نجد دولاً فاحشة الثراء لكنها لا تستطيع أن تقوم بأود نفسها من حيث الحماية. وقد بدأت هذه الخطة بضرب العراق الذي تقسّم الآن بحكم الواقع إلى ثلاثة تكتلات هي المنطقة الشيعية تقابلها المنطقة السنية، تقابلهما المنطقة الكردية. وبالطبع لا تخفى هنا التناقضات الكامنة في صلب هذه التقسيم الاستقطابي؛ فالمنطقة الكردية نفسها تضم شيعيين وسنة. الخطوة الثانية كانت السودان وقد نجحوا في مسعاهم بفضل سياسات الإنقاذ المتواطئة من جانب مع الخط الأمريكي والمفتّتة للوحدة الوطنية بطبعها من جانب آخر. بعد هذا جاء دور ليبيا التي تقف الآن على شفا الانقسام إلى مرحلة ما قبل التشكل القومي (أي إلى منطقة بنغازي ومنطقة طرابلس ثم منطقة فزان)، ثم بعدها سيجيء الدور لسورية ثم إيران فالسعودية ... إلخ.
بالعودة إلى مشروع التقسيم، نشير إلى أنه يشمل سوريا ولهذا يأتي الإنهاك للقوى الوطنية ـــ بما فيها النظام الحاكم ـــ بحيث تبرز الدولة بعد سقوط نظام الأسد وهي عارية من أي مسوح لبنية الدولة، بالضبط مثلما حدث في العراق وليبيا ويحدث الآن في السودان. كما يشمل برنامج التقسيم بعد سوريا المملكة العربية السعودية بدعاوى تحرير الأراضي المقدسة من قبضة نظام ذي توجه أيديولوجي بعينه، أي اتجاه أصولي (وهو ما بدأت المملكة في العمل جاهدة لتلافيه، فهل ستنجح!). ثم تأتي مصر بعد ذلك بخاصة عندما تأكل الطعم وتبتلع شمال السودان (وهو ما يتم بمباركة نظام الإنقاذ، إما لخطه غير الوطني بحكم أنه صادر عن حركة لم تكن تعترف بالأوطان ولا تعرف لها أي حرمة، أو بحكم تواطؤ نظام الإنقاذ مع الخط الأمريكي، أو لكليهما). عندها سوف تظهر، ربما بعد عشرين إلى ثلاثين سنة، حركة عالمية تدعو لحقوق النوبيين بمثلما برزت دعاوى حقوق الأكراد وما شابه (عندها قد يكون المعني بالنوبيين هم السود الأمريكان في محاولة لإيجاد وطن قومي لهم في المنطقة النوبية التاريخية). على أيٍّ، من الممكن لحركة كهذي أن تنجح في فصل الجزء الجنوبي من مصر بحجة نوبيته بما فيه الجزء الشمالي السوداني المبتلع. ولن تقوم لمصر قائمة إذا حدث لها هذا. وهكذا إلى نهاية الخطة.

هل داعش نبت شيطاني؟
كثيرون يقولون إنّ ما تقوم به داعش ممّا تشمئزّ منه النفوس وتأباه الفطرة، مثل جزّ الرؤوس، والتعذيب والحرق، ثم مفارقة الروح الحضارية بتدميرهم للمواقع الأثرية .. إلخ. لكن علينا أن نتذكر أن جزّ الرؤوس ظل يمارس في ظلّ الإسلام منذ عهد الرسول إلى يومنا هذا وليست السعودية ببعيدة. فقد قال الرسول لأهل مكة: "إنما جئتكم بالذبح". ولنلاحظ أن كثيراً من المهاجرين السودانيين إلى أوروبا قد جاؤوا بدءاً من السعودية ليزعموا بأنهم إنما هربوا من قهر الإنقاذ واضطهادهم. فمن يأبى جزّ الرؤوس عليه أن يكون شجاعاً فيرفضه في صدوره التاريخي منذ عهد الرسول ثم يرفضه كحالة راهنة في السعودية. ثمّ هناك الحرق وقد حكم به أبو بكر وبعده علي بن أبي طالب إلى إعدام عبدالله بن المقفع حرقاً بالنار وبعد ذلك كثير من الأمثلة؛ فمن يرفضه في داعش عليه أن يرفضه في صدوره التاريخي عند خليفة رسوال الله أبي بكر الصديق ثم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ثمّ هناك التعذيب وجاء في الأثر أن النبي محمّد أمر الزبير بن العوّام بتعذيب كنانة بن الربيع، كبير يهود بني النّضير، حتى يعترف بمكان كنوزه، ثم قتله بعد ذلك. فمن يرفض التّعذيب الآن في سبيل الحصول على اعترافات، عليه أن يرفض هذا في تاريخيته عندما تمت بأمر النبي محمد، ذلك حتى لا تبقى سنّةً يتأسّاها الناس. وللعلم، كانت حادثة التعذيب المنسوبة للنبي محمد إحدى الحجج التي تحجج بها بعض زبانية التعذيب في بيوت الأشباح أوائل حكم الإنقاذ. ومن يرفض ويستنكر تدمير داعش وقبلها حركة طالبان للمواقع الأثرية عليه أن يرفض هذا في صدوره التاريخي عندما أمر عمر بن الخطاب بهدم إيوان كسرى فما انصرفوا عنه إلا لاستعصائه على الهدم بالأدوات اليدوية. فلو أنهم ملكوا الديناميت، لما بقي منه أثر. وكذا الحال بخصوص الأهرامات وأبي الهول ومجمل المواقع الأثرية التي وقع عليها المسلمون الأوائل عندما غزوا ما حولهم من بلدان شهد ماضيها وحاضرها آنئذٍ بحضارات راقية.

هربوا من الضباع ليقعوا في حضن التماسيح
إن قدوم السودانيين لدول الغرب الذي بدأ بحكم الإنقاذ قد جرى في ظل غيبوبة فكرية ماحقة من قبل هؤلاء المهاجرين الذي فروا كحُمرٍ مستنفرة لتقع في حضن الأسد (القسورة) بمجيئها للغرب. لقد هربوا من ضباع الديكتاتورية ليجدوا أنه قد انتهى بهم المقام في حضن التمساح! وكلنا يعلم أن هجرتها لدول الغرب التي كان المفترض فيها أن تكون خطوة في سبيل الدفع للتخلص من نظام الإنقاذ الإسلامي قد انطوت على تناقض خطير وماحق. فهي هجرة في غالبها الأعم إنما استثمرت مجيء حكم الإنقاذ كيما تنال رخصة الإقامة الدائمة بالغرب ولاحقاً نيل جنسية البلاد التي وفدوا إليها بالغرب. وهذا يكشف جانباً من جوانب التناقض في بنية هذه الجاليات الهشة هشاشة الصفوة السودانية بإجمال. إن عدم قدرة هؤلاء في رسم نوع المستقبل الذي يريدونه ورضاءهم بأن يعيشوا في هامش المجتمعات الغربية من جانب وهامش المجتمعات العربية بالغرب من جهة أخرى يكشف عن عجزهم الماحق في أن يبنوا مستقبلاً يُعتدُّ به. وما هو المستقبل إن لم يكن يتمثّل فيما سينتهي إليه الجيل الثاني ــــ أي نفس هذا الجيل الذي تتجه بوصلتُه الآن نحو معسكرات داعش. ولنا أن نسأل هؤلاء الشّباب في تغريبتهم المزدوجة الخائبة نحو داعش: لماذا الهجرة إلى داعش؟ لم لا تكون هجرتُكم نحو حركة "بوكو حرام" بنيجيريا وما جاورها من دول ومجتمعات أصابها فيروس الاغتراب الإسلاموعروبي؟ فحركة "بوكو حرام"، بجانب أنها أعلنت مبايعتها لمشروع الدولة الإسلامية، أقرب لهم بوصفهم أفارقة سوداً بمثل سواد لون أعضاء حركة "بوكو حرام"، بعكس الحال إزاء مؤسّسي حركة داعش من قبيل العرب العاربة أوّلاً ثمّ ثانياً من قبيل مخابيل الشعوب الغربية البيضاء التي أصابتها لوثة اغتراب الهوية ببلدانها الغربية فعمدت كعادتها إلى ارتكاب جريمة الانتحار مع فارق بسيط أنها في هذه الحالة قد تلبّست لبوس الهوس الإسلامي. إن اختيار داعش يكشف عن عمق أزمة الهوية وكيف أن من أصابه هذا الفيروس يصبح كما الميئوس منه. فهؤلاء الشباب السودانيون الذين اتجهت بوصلتُهم نحو داعش هم نفسُهم الذي عاشوا ـــ حتى لو لم يكتشفوا ذلك بوعيٍ نقدي ـــ هامشيّتهم بالغرب إزاء العرب العاربة. ولكنهم ها هم يُهرعون نحو داعش وما ذلك في حد ذاته إلا حركة انتحارية على غِرار داوني بالتي كانت هي الداءُ. فهم يأملون أن يتم قبولهم كمهووسين أصيلين في حركة داعش لا لشيء إلا أملاً في أن يتم قبولُهم بين ظهراني هؤلاء العرب العاربة. ثم هناك حافز آخر، ألا وهو قبولُهم بين صفوف بيض أوروبا التي سامتهم بحرَّاءِ المركزية البيضاء ممثلين في القلة القليلة من الأوربيين البيض الذين انضمّوا إلى داعش في لوثتهم الانتحارية. فأين حركة "بوكو حرام" من كلّ هذه الحوافز؟ إنها لا تقدم إلى هؤلاء غير حافز تدمير الذات مصحوباً مع حافز تدمير الآخر ضمن مشغِّلات الحقد الاغترابي الطاغي الذي أخذ بتلابيب هذه الأجيال الضائعة.
هذا ما يمكن أن يقدمه لنا مجتمع هش مثل مجتمع السودانيين المهجري؛ مجتمع لا يملك من أمر نفسه رشدا؛ فهو مجتمع ليست لديه أندية رياضية أو اجتماعية أو سياسية؛ كما ليست له مكتبات تعرض فيها إنتاجه الفكري ليس لأنه ليس لديه إنتاج فكري (وهو فعلاً ليس له إنتاج فكري) بل لأنه مجتمع عاجز في الأساس عن الإتيان بخطوة كهذي. ثم هي مجتمع يتمتع بأنه دون باقي المجتمعات الأخرى (ربما على مستوى العالم) الذي يمتلك أطباقاً تفوق السبعين لأطعمة شعبية، هذا بينما لا يملك مطعماً واحداً حتى عندما تتواجد منه جالية ضخمة في عواصم بعينها ... وإلخ هذه القصة التي تحكي عن خيبة السودانيين عندما عجزوا عن أن يستلهموا مكامن الحضارة الضاربة في القدم انكفاءً منهم على تقليديتهم العرجاء التي لا أصالة فيها، أكانوا بالداخل أم بالخارج. هذا هو السودان القديم بكل سوءاته وخيباته. واليوم نحن في المرحلة بين المرحلتين؛ فلا نحن قد بنينا سوداننا الجديد ولا نحن قد تخلصنا من سوداننا القديم. وفي هذا لدينا حديث بسطنا محاجّاته في بعض كتيبات اختططناها ولا نزال عليها عاكفين وعلى الله القصد. ولا أختم إلا بقولي: قلبي على وطني!

خاتمة: ما العمل؟
في رأيي لا بد من مواجهة شجاعة تعقبها عملية تصحيح للواقع أشبه ما تكون بالعملية الجراحية. ففي مقدور سودانيي المهاجر أن يجردوا الواقع بالنظر إلى اللوحة الوطنية من على البعد، بدلاً من أن ينظروا إليها من داخلها. عليهم أن يدركوا هامشيتهم المزدوجة والمتعددة، فيعملوا على تحقيق استقلاليتهم فلا يعيشون في هامش الجاليات العربية بالغرب ثم لا يعيشون في هامش المجتمعات الغربية نفسها. وفي الظّنِّ أن المدخل  لتحقيق هذا يكون في اكتشاف ذواتنا بوصفنا أفارقة سوداً ينتمون إلى بلد ظل اسمه يتعلق بسواد اللون منذ فجر التاريخ وإلى اليوم. علينا أن نعي بذواتنا لا بوصفنا عرباً بل بوصفنا أفارقة سوداً في نفس الوقت الذي نحن فيه عربفونيون Arabophone، أي ناطقون بالعربية. ففي أفريقيا لدينا شعوب سوداء بأكملها لم تفقد هويتها الأفريقية بالرغم من أن ثلث أفريقيا فرانكوفونيون Francophone والثلث الآخر آنقلوفونيون Anglophone. بالطبع تعود جرثومة أزمة الهوية هذي إلى داخل السودان بأكثر مما هي في خارجه. لكن الثمن الذي يدفعه المهاجرون أكبر ومباشر من قبيل ما رأينا. بعد هذا يمكنهم أن يتصالحوا مع حقيقة أنهم لن يعودوا إلى السودان للاستقرار به أبداً، ولو توالت زياراتهم له. من شأن هذا أن يجعلهم يفكرون في تحديد موقعهم في مواطنهم الجديدة بمثل ما فعلت جدّة الرئيس باراك أوباما عندما هيئته وجعلته مستعداً لمواجهة التحيزات للمركزية البيضاء White Supremacy ضد الأفارقة. لقد فعلت ذلك ومنصب رئيس الولايات المتحدة نصب عينيها حتى يكون جفيدُها أول رئيس أسود على أكبر دولة في العالم. من المؤكد أن طريقاً ناهجاً كهذا سوف يقودهم لتكون لهم أنديتهم ومحالهم التجارية، بل شوارع بأكملها يجدون فيها أنفسهم بمعزل عن العرب العاربة والبيض. هذا دون أن يعني قولُنا هذا صرم العلائق وقطعها بينهم وبين العرب أو البيض أو باقي شعوب المعمورة. ما نعنيه أن يأتي تفاعلهم مع هذه الشعوب من منطلق التكامل وليس الاستيعاب أو الاستتباع.
كما لا يمكنهم أن ينجحوا في كل هذا إذا لم يراجعوا فقههم الديني كيما يتخلصوا من ربقة الفقه السني الذي أُثر عن ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب. وفي الإسلام الشعبي الذي دشنه الصوفية مندوحة، دون أن يعني قولنا هذا اصطفافهم خلف شيوخ الصوفية الذين قد يستغلون هذا في سبيل أمور دنيوية بحتة عبرها يحوذون على المال والسلطة الدنيوية، مستغلين موالاة الناس العمياء لهم. ولا يعني قولنا هذا بأي حال من الأحوال إصدار شهادة براءة للمذهب الشيعي أو الصوفي مقابل المذهب السني. ففي رأينا لم تعد هذه المذاهب مؤهلة كفايةً لقيادة المسلمين في عصر العولمة وما بعد الحداثة. إن المسلمين اليوم في أشد الحاجة لمراجعة دينهم حتى يخلصوا من كل ذلك بفقه يسمح لهم بأن يعيشوا في انسجام مع مرحلة ما بعد الحداثة، ذلك كيما يقوموا بلعب دورهم التاريخي في صنع الحضارة كما كانوا صانعيها من قبل.