Saturday, May 14, 2016

الحزب الشّيوعي السّوداني .. الله لا جاب يوم شكرك!




محمّد جلال أحمد هاشم

مقدّمة
كتبتُ هذه المقالة قبل أعوام وكان من المفترض أن تُنشر عشيّة انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشّيوعي السّوداني في يناير من عام 2009م. ولكن حالت دون ذلك الحوائل فانكفأنا على مقالنا ذلك ومن ثمّ توزّعناه على ثلاثة كتبٍ لنا ظهر منها إثنان ولا يزال الثّالث يكابد آلام مخاضه. فالكتاب الأوّل منها هو منهج التّحليل الثّقافي: مشروع الدّولة الوطنيّة وظاهرة الثّورة والديّموقراطيّة (الطّبعة السّابعة 2015)؛ ثمّ منهج التّحليل الثّقافي: صراع الهامش والمركز (الطّبعة الأولى 2014)؛ والثّالث منهج التّحليل الثّقافي: فشل مشروع الحداثة واستشراف ما بعد الحداثة (تحت الطّبع). وما جعلنا نقوم بتوزيع موضوعة مقالنا الوئيد ذلك على هذه الكتب الثّلاثة يعود بصورة أساسيّة لمعالجاتنا لمسألة الحداثة وبدء تشدينها في المجتمع السّوداني خلال عقود القرن العشرين والدور الرّائد الذي لعبه الحزب الشّيوعي االسّوداني في تدشينها والمثابرة على تكريسها.
وشهادتي هذه في الحزب الشّيوعي شهادة غير مجروحة كيفما استقبلتها. إذ لم أُؤمن بالاشتراكيّة منذ زمان شبابي الأوّل وإلى يومي هذا وقد شارفتُ على السّتّين من عمري. وكان مكمن عدم إيماني بها ــــ ولا يزال ــــ هو استحالة تطبيقها وفق ما عُرفت به من ميسمٍ ماركسيٍّ لينينيٍّ معلومٍ لها في فضاءٍ بخلاف فضاء الدّولة الشّموليّة. كما لا أرى أيّ اشتراكيّةٍ فيما جرى تطبيقه في بعض دول أوروبّا، من قبيل ما نعرف مثلاً في الدّول الإسكندنافيّة، أو حتّى ما نعرف عن التّجربة المسمّاة بالاشتراكيّة الفابيّة في بريطانيا وغيرها. إذ لا يعدو عندي الأمر أكثر من تسمية الأشياء بغير أسمائها لقوّةٍ شرائيّةٍ عالية وقتئذٍ لمصطلح الاشتراكيّة، أي قبيل منتصف القرن العشرين إلى ما بعده. عليه، تجيء شهادتي في الحزب الشّيوعي وهي خالية من أيّ غرض أو موالاة، ظاهرةً كانت أم خفيّة. لقد جمعتني علاقات شخصيّة وطيدة بقيادات بارزة من الحزب الشّيوعي، بل أكثر من ذلك انتظمت سبحة صداقاتي في غالبها على حبّات شيوعيّة، ذلك لذكائهم وسعة معارفهم، فضلاً عن ظرفهم وخفّة ظلّهم ودماثة خلقهم ونظافةٍ في اليد واللسان قلّما تتوافر في عديدٍ من النّاس ممّن ينتظمون في سلكٍ فكريٍّ نضيد. هذا دون أن أقول شيئاً عن عَلمانيّتهم وعِلمانيّتهم وتحرّرهم المجيد من أحابيل الشّعوذة والخرافة والدّجل، وأنا شخصٌ مجبولٌ من طينة العِلمانيّة والعَلمانيّة معاً (وتأمّل قارئي الكريم في افتراق واعتلاق المفهومين)، فمن لي بأفضل منهم صديقاً وخلاً وفيّا ولو افترقت بنا أشجارُ أفكارنا وأحزابنا وفروعُها! أقول هذا وأنا الذي خضتُ ــــ ولا أزال أخوض ــــ ضاريات المعارك مع مجموعة محدودة من النّوبيّين ناصبوني العداء شخصيّاً ومنشطيّاً بمحمل شيوعيّةٍ مزعومة ممّن بلغت بهم ضلالة الفكر والسّلوك حدّ أن يروا أنّ ريادة الحزب الشّيوعي للحداثة قد أصبحت حقّاً مكتسباً لا يحقّ لأيّ مجموعة أن تزاحمهم فيه. وقد بدأت هذه المعركة منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مع الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد (طيّب الله ثراها) ولا تزال فصولُها تدور وتدور كساقية جحا بفضل بعض القصّر فكريّاً وأخلاقيّاً ممّن ترهّل بهم جسم الحزب الشّيوعي في خريف عمره، وهذه قصّة أخرى قد أكملنا فيها ــــ أو كدنا أن نكمل ــــ كتاباً أمسكنا فيه بحِذَذِهم ثمّ جذذنا فيه عرانينهم كما تُجزُّ الحشائش فجلدنا فيه أسلاخَهم وكشفنا فيه أمساخَهم، ذلك لتنكّبهم دروب الحقّ والمحجّة الغرّاء، مفضّلين عليها التّدليس والكذبَ وليس فقط أخذَ النّاس بالشّبُهات، بل التّكذّب عليهم افتئاتاً. كلّ ذلك جمعناه وأحصيناه في كتابٍ مرقومٍ بما يفوق المئتين من الصّفحات، فيها نزلنا عليهم كما تنزل الصّقورُ من السّماء. فهؤلاء في واقع الحال ليسوا سوى جزء من أزمة الحزب الشّيوعي السّوداني التي نستعرضها هنا. وما بالينا بنُصح النّاصحين المشفقين بأنّ فضْحَنا لهذه المجموعة التي انتمت للحزب بموجب حالات التّضعضع لا بموجب أهليّتها الفكريّة والأخلاقيّة سوف يضرّ بالحزب؛ فقد أصبح المستورُ معلوماً ومكشوفاً، وبالتّالي لا مجال لإخفاء الرّؤوس تحت الرّمال.
أدناه لن نفعل شيئاً بأكثر من إيراد ما كتبناه بحقّ الحزب الشّيوعي السّوداني (وحركاتٍ أخرى) في سياق استعراضنا لمسيرة تدشين مشروع الحداثة. وضمن هذا يأتي نقدُنا للحزب، ذلك في سبيل ألاّ نكتفي بالمدح بل نرفقه بما نراه في دائرة الإمكان إصلاحاً وتدبّراً. ويأتي مقالنا هذا، ولو تأخّر عن النّشر سنواتٍ، في أعقاب انتشار الشّائعات بتمكّن جهاز أمن دولة الإنقاذ (ولا نقول "جهاز الأمن" بإطلاقٍ) في الوقوع على وثائق حصريّة وعالية السّرّيّة إمّا عبر اختراق جدار اللجنة المركزيّة الحصين أو عبر المداهمات المباغتة لحزب مسجّل وكامل الشّرعيّة. وهذا وحده يكشف ضلالة من لا يزالون يؤمنون بجدوى الوصول مع نظام الإنقاذ إلى صيغة من التّعايش المشترك.
إذن، أدناه ما قلناه في طبعاتنا من كتابنا أدناه منهج التّحليل الثّقافي: مشروع الدّولة ىالوطنيّة وظاهرة الثّورة والدّيموقراطيّة (طبعات 2012؛ 2013؛ 2015)، ذلك في سياق استعراض استهداف الأجهزة الأمنيّة للحزب، فضلاً عن النّتائج العكسيّة للمنهج المركزي الصّارم في إدارة الحزب:

الحزب الشّيوعي السّوداني وصمودُه عبر الزّمن
يمرّ الحزب الشّيوعي السّوداني بأخطر مرحلة في حياته الحافلة. فقد جرت سنّة الحياة فيه، فغيّب الموتُ رموزَه وقادته بانعطافة القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن بلوغ غالبيّتهم سنّ التّقاعد السّياسي طوعاً (أي فوق الخامسة والسّبعين من العمر). بجانب كلّ هذا، خرج الحزب الشّيوعي من تجربة سنوات الإنقاذ الأولى وهو مثقل بالجراحات؛ فقد استهدفه نظام الإنقاذ بوجه خاصّ لعقدة في نفوس القائمين بأمره. فخوفهم من هذا الحزب يُشبه الفوبيا، ذلك لأفضاله التّنظيميّة الاعتقاديّة عليهم من حيث تمثّلهم له في ابتنائهم الفكري العقدي والتّنظيمي. فقد جرى تعذيب وحشي وممنهج لعضويّة العديد من الأحزاب السّياسيّة فيما يعرف ببيوت الأشباح، بينما كان نصيب الشّيوعيّين كبيراً إذ أولاهم االنّظام الغاشم اهتماماً خاصّاً لا من باب الخوف منهم فحسب، بل من باب التّشفّي والتّنكيل المتعمّد. خرج الحزب من تلك التّجربة بجراحات غائرة مردّها إلى انكسار البعض من عضويّته تحت وطأة التّعذيب الوحشي. فقد كانت قياداته المعتقلة تُجابه بمعلومات ما كان ينبغي لأحد أن يطّلع عليها إلاّ أن يكون هناك اختراق، وهو بالضّبط ما كان جهاز الأمن الإنقاذي يسعى إلى زرعه في روع تلك القيادات التي خرجت من المعتقلات والشّكّ ينتهبها في صمديّة الانضباط والسّرّيّة المافيوزيّة للحزب.

الحزب الشّيوعي وروح التّسامح
يتميّز الحزب الشّيوعي السّوداني بروح التّسامح المركوزة عميقاً في واعيّة الشّعب السّوداني، وهي روح تسامحيّة لا يقدر عليها إلاّ ذوو الشّكيمة الفكريّة والأخلاقيّة الفذّة. في هذا الخصوص جاء في كتابنا الموسوم بالعنوان: منهج التّحليل الثّقافي: صراع الهامش والمركز (الطّبعة الأولى 2014) ما يلي:
لا تعكس المحاكم الصّوريّة التي عقدها نظام مايو بقيادة جعفر نميري بُعيد فشل محاولة 19 يوليو 1971م الانقلابيّة انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان والسّقوط المريع في درك الهمجيّة فحسب، بل تعكس صورةً نادرةً للجسارة وتحدي الموت وعدم خشيته من قِبَل قادة الحزب الشّيوعي السّوداني الذين سُحلوا بدمٍ بارد، ثمّ مضافاً إلى كلّ هذا إيمانٌ لا يتزعزع بالمبادئ والفكر ثمّ بالشّعب السّوداني. ويعود الفضل في أغلب هذا لشهيد الوطنيّة الحقّة عبد الخالق محجوب، الذي قاد حزباً إليه يعود الفضل في تدشين الحداثة وفق رؤية حداثويّة ووطنيّة راشدة. وقد فارق الشّهيد عبد الخالق محجوب الحياة وهو يهتف بمستقبل مشرق للشّعب السّوداني، وهو الشّعب الذي وهب له حياته القصيرة بعمر السّنوات الكبيرة بمستوى الإنجازات. ولا يزال الحزب الشّيوعي الذي تربّى على يدي عبد الخالق محجوب يقف قويّاً كالمارد ليسجّل حقيقة فرادته كونه الحزب الوحيد على مستوى العالم والبشريّة الذي سُحلت قيادته جميعُها ثمّ تمكّن من الوقوف مجدّداً. وقد عاد الرّئيس الأسبق، جعفر نميري، الذي أعدم قادة الحزب الشّيوعي، ومن ضمنهم عبد الخالق محجوب نفسه، بعد محاكم صوريّة، ليقضي أخريات سنواته بالسّودان دون أن تحرّك عودتُه أيّ غبائن داخل الحزب الشّيوعي ومنسوبيه؛ لقد تجاوزوا أحزانهم وهم يتغنّون بمستقبلٍ مشرق للشّعب السّوداني، بالضّبط كما فعل قادتُهم وهو يستقبلون فصائل الإعدام أو المشنقة.



لمن تُهدى الكتب!
وجاء في ديباجة الإهداء لكتابنا الموسوم بالعنوان: منهج التّحليل الثّقافي: فشل مشروع الحداثة وتحدّيات ما بعد الحداثة (تحت الطّبع) ما يلي:
قائمة العظماء طويلة ولا مجال لحصرها. ولا بأس من أن نستشهد ببعضهم ولنبدأ بقائمة الملوك السّنية: ألارا؛ كاشتا، بعانخي؛ ترهاقا؛ أركماني؛ أماني شكيتو؛ أمانيتوري؛ سمامون؛ قيرقا؛ زكريّا؛ مكاريوس؛ كنز الدّولة؛ كدنبس؛ نصر الدّين برشمبو؛ الأساقفة سيميون، نوح، وعيسو؛ عمارة دونقس؛ عبدالله جمّاع؛ إدريس ود الأرباب؛ سليمان سولونق، محمّد أبو جريدة؛ مكّي الدّقلاشي؛ فرح ود تكتوك؛ محمّد ود ضيف الله؛ محمّد أحمد المهدي؛ أحمد كاتب الشّونة؛ عبيد حاج الأمين، بابكر بدري؛ خليل فرح؛ عزّة محمّد علي، التّيجاني يوسف بشير؛ حمزة الملك طمبل؛ معاوية محمّد نور؛ فاطمة طالب؛ إيريانديت ــــ نبيّ الدّينكا المقاوم للاستعمار؛ كما لا ننسى سودانيّي الشّتات Diaspora، فيليكس دارفور، بخيتة الطّوباويّة، ودوسة محمّد علي ... وآخرين وآخرين لا مجال لحصرهم.
وقمّة هؤلاء العظام تتمثّل عندي في الشّهيد عبد الخالق محجوب، ذلك الرّجل المهيب الذي أفنى حياته القصيرة بعمر السّنوات، الحافلة بالإنجازات، من أجل الاستنارة، ثمّ صعد إلى المشنقة وهو يهتف بحياة الشّعب؛ ثمّ من قمّة عبد الخالق نصعد إلى قمّة الشّهيد محمود محمّد طه، ذلك الرّجل المطمئنّ الذي منح الإنسانيّةَ بسمةً غرّاء وهو على النّطع، لا يرفّ له جفنٌ ولا يزيغ له بصر، ثمّ تدلّى من المشنقة بسلام، لا لشيء سوى أنّه أفنى حياته المديدة من أجل الاستنارة السّلميّة؛ بيد أنّ قمّة القمّة هما الشهيدان علي عبد اللطيف وجون قرنق؛ فالأوّل وضع خطّة الاستقلال وبذر بذرة الخلاص الوطني، ثمّ وضع حجر الأساس للعمل التّنظيمي الوطني، كما حرّك الجماهير وألهمها؛ أمّا الثّاني فهو ريحانةُ شهداء الوطنيّة بلا منازع. لقد قاد الجماهير السّودانيّة الكوشيّة ممّن نبذتهم ثقافة الإقصاء والأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة الغاشمة العمياء، لا لشيء سوى لسواد سحناتهم، فسامتهم سوم العبيد، في ثورة هي الأولى من نوعها في تاريخ البشريّة، ذلك عندما سعى المستعبَدون لتحرير المتسيِّدين من عِماية الأيديولوجيا وضلالاتها النّكراء، فكانت حركة تحرير السّودان ومشروع السّودان الجديد.

تدشين الحداثة في القرن العشرين
ثمّ بعد هذا نُدلف لدور الحزب الشّيوعي في تدشين الحداثة في سودان القرن العشرين في نفس كتابنا المشار إليه أعلاه:
يمكن إحالة معظم ما بلغنا من حداثة في هذا الشّأن، على ضآلته، إلى أربع روافد رئيسيّة سنقوم بتبيانها أدناه. أوّلاً، في مجال السّلوك الاجتماعي الذي لم يُجترح وفق رؤية نظريّة بعينها، بل جرى اكتسابه بالتّثاقف، لا أجد غير المجموعات السّوداء (بمعايير اللون السّودانيّة ـ فجميع السّودانيّين  لدينا سود) المنبتّة قبليّاً، والتي انحدر أغلبُها من مؤسّسة الرّقّ، وانحدروا هم أنفسهم من المؤسّسة العسكريّة أوّل القرن العشرين. فهذه الطّبقة لم تقم فحسب بريادة العديد من المؤسّسات الإبداعيّة فيما اشتُهر عنها، مثل مؤسّسة الرّقص والغناء، خاصّةً عندما تحامته القبائل ذات الأصول العربيّة بوسط السّودان ومراكزه الحضريّة، بل قطعت أشواطاً أكبر بكثير. إذ تكاد أن تكون لوحدها التي أدخلت جميع الأطعمة التي نعرفها في السّودان ذي الثّقافة العربيّة الإسلاميّة اليوم. كما هي التي دشّنت السّلوك المنزلي البيتي الذي نعرفه الآن، من جلوس على الكراسي ونومٍ على الأسرّة، وتناول الطّعام على السّفرة، أي على تربيزة وليس جلوساً على الأرض. هذا بخلاف اشتمال المنزل على أرفف للكتب بغية مطالعتها بُعيد الغداء، ثمّ وجود الفونوغراف للاستماع للموسيقى ... وهكذا. ثمّ هي نفسها الطّبقة التي رادت تعليم المرأة وتخديمها، فضلاً عن ريادتها ومقاربتها الرّشيدة لمفهوم الحركة الوطنيّة السّودانيّة الحديثة ممثّلةً في حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م التي قادها الزّعيم علي عبد اللطيف ومعه إخوة ينتمون لنفس الأرومة الطّيّبة مثل ثابت عبد الرّحيم وعبد الفضيل الماظ وغيرُهم كثر من روّاد حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م.
الرّافد الثّاني للحداثة هو تحرير السّلوك العام من رِبْقة التّقليديّة دون فقدان الأصالة. وهذا ما أرى أنّه لا يمكن إحالته إلاّ إلى مدرسة فكريّة بعينها، هي الحركة اليساريّة ممثّلةً في الحزب الشّيوعي السّوداني. إذ ليس من اليسر أن نقع على مبدعٍ في مجال الشّعر أو الأغنية أو الرّسم أو الفكر عامّة (ثمّ التّحرّر العام)، خلال منتصف القرن العشرين إلى نهاياته، لم يُدْلَفْ إلى المشهد العام عبر رواق الحزب الشّيوعي ومشايعيه من المثقّفين عامّة. هذا فضلاً عن حداثويّة العمل النّقابي وتفعيل العمّال والمزارعين بسيطي التّعليم بحيث ينالوا درجة عالية من الوعي بحقوقهم وبقضايا أخرى تتعلّق بالحقوق العامّة، السّياسيّة والوطنيّة. وهو ما أخذته عنهم باقي القوى السّياسيّة باعتباره معطىً وأمراً مسلّماً به. أمّا الرّافد الثّالث فذلك الذي يدخل في مجال السّلوك الدّيني المتسامح والمستنير؛ ولا أجد غير حركة الجمهوريّين التي رادها وقادها شهيد الفكر الأستاذ محمود محمّد طه، وقدّم حياته ثمناّ لها. فقد قدّم الجمهوريّون، يحدوهم أستاذُهم العملاق، نموذجاً حيّاً لكيف ينبغي أن يكون المسلم عفّاً في لسانه، هادئاً في طبعه، شجاعاً في فكره دون تنطّع؛ ثمّ شخصاً مسالماً لا يؤمن بالعنف باعتباره من أسلحة الجهاد الأصغر. ولا غرو فقد استقبلوا عهد الجهاد الأكبر، فكان أن سلم النّاس من يدهم ومن لسانهم، وبالتّالي قدّموا نموذجاً حيّاً لما ينبغي للمسلم أن يكونه في هذا العصر. كما أدخل الجمهوريّون أدب الحوار والمناظرة الفكريّة (أركان النّقاش)، وهذا، في رأينا أهمّ مؤسّسة فكرانيّة لعبت دوراً فريداً في تطوّر الفكر السّياسي في الأجيال الصّاعدة بالجامعات. هذا فضلاً عن ثاقب نظرة الأستاذ محمود محمّد طه في مسائل عديدة سبق فيها زمانه ربّما بقرون وليس مجرّد عقود. من ذلك رؤيته الصّمدانيّة في أنّ الحداثة تنبع من داخل تلافيف ثقافة المجتمع ومعتقداته، لا من الخارج باستزراعها بالخنوع أو بالإخضاع. وتجلّت رؤيته هذه بصورة عمليّة في حادثة الختان الفرعوني برفاعة التي قاد فيها ثورة الأهالي. كما يتّضح ثاقب فكره في مناقشته لقضيّة الشّرق الأوسط ونصيحته للعرب بمصالحة إسرائيل، وهي النّصيحة التي عملوا بها ربّما بعد فوات الأوات وبعد أكثر من عقدين من تاريخ تقديمها لهم. اتّبعوا نصيحته بعد كلّ هذا دون أن يشكروا من صدع بها. وفي الحقِّ، فإن ثاقب نظر الأستاذ محمود محمّد طه ونفاذ بصيرته لممّا يحتاج إلى وقفة بذاتها، ذلك لتعدّد مواقفه وعمقها وبعيد أثرها. ولا نغادر موقعنا هذا دون إشادة بما فعله أخونا عبدالله الفكي البشير عندما كشف ليس فقط عن ثاقب فكر الأستاذ الشّهيد محمود محمّد طه، بل كشف مع ذلك حجم تآمر المثقّفين ضدّه عندما نهلوا من معينه دون أن يعترفوا ودون أن يشكروا، واتّبوع خطواته بعد جهدٍ منهم لتعمية ريادته. أمّا الرّافد الرّابع فهو ما يأتي من الحداثة ضربة لازمٍ by default، أي عبر الاحتكاك الحضاري العام، والذي لا مناص منه. فبينما توقّف رفد المجموعتين الأولتين، لا تزال المجموعتان الأخيرتان تعملان، الأولى منهما ببطء، لكن بفعاليّة مؤكّدة، والثّانية منهما بخطى متسارعة غير مؤكّدة الفعاليّة. من المؤكّد أنّ هناك جهات عديدة قد لعبت دورها في مقاربة المجتمع السّوداني للحداثة، إلاّ أنّها لم تبلغ الشّأو الذي بلغته الرّوافد التي أشرنا إليها أعلاه. فالحداثة التي نحن عليها يصعب وصفها بهذا الاسم إلاّ من باب المجاز.
ربّما ينعى بعضُ النّاس أنْ من أسفٍ أنّ الرّوافد الثّلاثة الأولى (وهي الرّئيسيّة بحكم وطنيّتها) قد عانت، ولا تزال تعاني، من التّحامل الممنهج والقهر والإقصاء الذي يستخدم في كثيرٍ من حالاته عصا السّلطة الغليظة، هذا بالرّغم من أنّ المجتمع الذي عبره يُمارس عليها كلّ هذا لا يني يعتلف ما تُتيحه له من غذاءٍ روحي وحضاري. وقد يقول قائل بأنّ هذا كان دائماً ثمن الرّيادة وصناعة التّاريخ. وعلى صحّة هذه المقولة لا أجد عذراً أقبح منها في باب التّبرير. فنظرة سريعة لمنسوبي كلّيّات التّمريض في زماننا الحاضر سوف تكشف ضآلة حضور أبناء وبنات المجموعة الأولى، مع أنّها كانت الرّائدة قبل عقود قليلة في مجال هذه المهنة الكريمة. والآن نتعامل مع اختلاط الجنسين في مؤسّسات التعليم كما لو كان أمراً مسلّماً به، مع أنّ المجموعة الثّانية كان لها الفضل والدّور الأكبر في «تبريد» نار المعارضة الاجتماعيّة لهذا السّلوك. والآن يتخبّط أبناؤنا وبناتنا في تأسيس علاقاتهم النّوعيّة بلا مرشدٍ فكري وطني يستهدون به في مجال الحداثة، بخلاف الأخذ كفاحاً (ولات حين كفاح) ممّا ترفد به حداثة العولمة ضربةَ لازمٍ، أو بخلاف ما يرفد به التّراث الإسلامي السّلفي الرّافض لمبدأ اختلاط الجنسين، وإن كان يأتي به.
ربّما أصبح الحزب الشّيوعي نفسه يخوض مع الخائضين، وهو الذي غلبته الحيلة من قبل (جرّاء التّحامل المؤسّسي) في ترفيع وترميز قياداته وطنيّاً، وهي التي سُحلت، وبالمكشوف في عام 1971م، بطريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها كانت منافية لأيّ قيمة إنسانيّة. فالطّريقة التي واجهوا بها التّعذيب، ثمّ الموت، ممّا ينبغي لكلّ ذي حسٍّ وشجاعة أن يُعجب بها، مع تسجيل الإدانة لفظائعها. هذا بينما كانت قطاعات عديدة من الشّعب قد جرفها تيّار غلواء الانتقام الغاشم، فكانوا يهتفون ويهلّلون لصوت رصاصات الدّروة الدّاوي، وشهداء الحزب الشّيوعي يستقبلون مطر الرّصاص وهم يهتفون بحياة الشّعب في حبّ وإيمان بمستقبل أفضل له. عبر الحزب الشّيوعي جسر أحزانه دون أن يستصحب معه أيّ مرارات أو عداوات، فتساموا على الجريمة التي ارتُكبت بحقّ قياداته. في هذا يمكن النّظر إلى الحزب الشّيوعي باعتباره بين الحركات النّادرة عدداً في تاريخ البشريّة التي سُحلت قياداتُها ثمّ تمكّنت من الوقوف على قدميها مرّةً أخرى. في عام 1986م احتفل الحزب الشّيوعي بعيد ميلاده الأربعين في احتفالٍ مهيب، غلبت عليه علامات الفرح والوقار، ثمّ الأحزان. في تلك الاحتفالات المضيئة تغنّى شباب الحزب لشهدائهم بأن أهدوا نضالاتهم وموتهم المجيد للشّعب. في هذا سوف تبقى غنوة «رذاذ الدّم» من كلمات شاعر الشّعب، شاعر أفريقيا، محجوب شريف، تخليداً إبداعيّاً غير مسبوق لنبل هذا الحزب العظيم، منسابةً بصوت فنّان الوجدان الملتزم مصطفى سيد أحمد وآمال النّور وباقي مجموعة الكورس يقودهم الفنّان المناضل الهادي جمعة:
من دمانا الأرض شربت موية عذبة،
كلّ ذرّةْ رمل شربت حبّة، حبّة،
موية أحمر لونها قاني،
فتّقت ورد الأغاني:
تهدي اسمك للوطن رمز المحبّة!
**
يا رذاذ الدّم حبابك!
يا شهيد الشّعب أهلاً
مش بتطلع كلّ يوم الشّمس أجمل؟
والنّخله أطول؛
جيد وقامة؟
**
لمّا شفتك، ياما، ياما،
ياما شفت البدر طالع،
في سما الوطن ابتسامة!
أمّا الجمهوريّون فقد فازوا بفوز أستاذهم الذي عرف في لحظة التّجلّي أن الشّعب يبحث عمّن يفديه، فتقدّم ليكون الكبش، فواجه الموت وفي محيّاه ترتسم بسمة النّفس المطمئنّة وراحة يقين اليقين. وعلى هذا حافظ الجمهوريّون على تماسكهم الاجتماعي، وعلى شدّة الإيمان بفكرهم. ولعلّ هذا ممّا جعلهم عصيّين على الاستهداف؛ فهم في السّاحة هناك، وليسوا هناك. سوف تبقى كتب الجمهوريّين نبراساً يضيء في دياجير الدّين للبشريّة جمعاء، أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. إذ سوف تقف تجربتهم وكتبهم دليلاً وشاهداً لحالة فريدة وغير مسبوقة ربّما إلاّ بتجربة سقراط وبعده المسيح  عيسى بن مريم بمئات السّنين. فنحن بإزاء حالة تمارس فيها حركة دينيّة الدّعوة لمذهبها مع إيمان تام، فكريّاً وسلوكيّاً، بحرّيّة الآخرين في أن يصبحوا ما شاؤوا؛ ثمّ لمّا ضاق بها النّاس من قبيل السّلطة ذرعاً، استهدفوها متّخذين من سلميّتها نقطة ضعف إذ أمنوا ردّة الفعل، فساقوا كبيرهم إلى المشنقة وتلاميذه ينظرون في سكينة وطمأنينة أن لن يمسّه إلاّ ما كتب الله ﴿وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى﴾، فاستقبل حبل المشنقة كما استقبل سقراط كوب السّمّ الزّعاف وكما استقبل المسيح صليبه المنصوب. كما ستبقى أناشيدهم العرفانيّة، بجانب كونها نبعاً صافياً للجمال والعشق الإلهي الصّوفي، مثالاً حاضراً للمكانة المتميّزة التي احتلّتها المرأة في تلك الحركة الرّائدة، إذ علا صوتها صادحاً بالعرفان الإلهي جنباً إلى جنب مع شقيقها الجمهوري.
ولا ينبغي أن نتجاوز مقام العظماء هذا دون أن نشير إلى نبوءته المتعلّقة بسيطرة قوى الهوس على مؤسسّة الدّولة، وهي نبوءة «السّوافي السبعة». إذ قال عام 1977م لدى ظهور أعراض فيروس الهوس الدّيني على مؤسسّة الدّولة: «من الأفضل للشّعب السّوداني أن يمرّ بتجربة حكم الهوس الدّيني، إذ إنّها (1) سوف تكون تجربة مفيدة للغاية؛ (2) وسوف تكشف لأبناء هذا الشّعب مدى زيف شعارات هذه الجماعة؛ (3) وسوف يستولون على السّودان سياسيّاً واقتصاديّاً ولو بالوسائل العسكريّة؛ (4) وسوف يُذيقون الشّعب الأمرّين؛ (5) وسوف يختلفون فيما بينهم؛ (6) وسوف يُدخلون البلاد في فتنةٍ تُحيلُ نهارَها إلى ليل؛ (7) وسوف يُقتلعون من أرض السودان اقتلاعا»، فما أشبه الليلة بالبارحة.

حركة اللواء الأبيض وتدشين مشروع الحداثة
تبلور المشروع النّهضوي في حركة اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف، حيث برزت المجموعات المنحدرة غالبُها من مؤسّسة الرّقّ والمنبتّة قبليّاً بوصفها رأس الرّمح في مشروع الحداثة. هذه الحركة هي التي دشّنت مفهوم ومصطلح «الأمّة السّودانيّة» بما يعني جميع أهل السّودان في استقلاليّة تامّة. لقد تمكّنت هذه المجموعات من تحرير نفسها من مركّبات النّقص التي عادة ما تصاحب تجربة الرّقّ، وذلك بحكم الحداثويّة التي تمتّعوا بها في مقابل شعب تقليدي. وهي تشبه تجربة تحرّر المماليك بمصر من نفس المركّبات، وذلك بوصفهم رقيقاً تمّ شراؤهم بالمال بغرض التّخديم في العسكريّة. ولهذا نجحت في تدشين الحداثة بالرّغم من خضوعها التّام لعمليّات إعادة إنتاجها داخل حقل الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. كما كرّست هذه الحداثويّة التي وضعتهم على قيادة المجتمع من حقيقة تحرّرهم من مركّبات النّقص المصاحبة لتجربة الرّق.
كان بروز هذه المجموعة كرائدة للحداثة مدعومة بخبرة طويلة من التّثاقف الحضاري والانفتاح نحو الثّقافات الرّائدة في المنطقة، مثل الثّقافة المصريّة، التّركيّة، الإيطاليّة والفرنسيّة، ثمّ ثقافات المحيط العربي الأوسطي. هذا في مقابل انغلاق الأوضاع في السّودان. لهذا كان من الطّبيعي لهذه المجموعة أن تقود المجتمع حداثويّاً بُعيد مجيء الاستعمار البريطاني المصري. لقد دار صراع كبير بين مجموعة أفنديّة كان المستعمر البريطاني يظنّ أنّه قد تمّ تدجينهم لصالحه، ألا وهي المجموعات المنبتّة عن قبائلها جرّاء الرّقّ أو طول الانخراط في العسكريّة، وبين مجموعة أفنديّة أخرى كان المستعمر المصري يظنّ أنّه قد تمّ تدجينهم لصالحه تماماً. خرجت المجموعة الأولى من تجارب ذات جراحات غائرة وهي أكثر وطنيّة وأكثر أملاً في وطنٍ يسع الجميع؛ هذا بينما انكفأت المجموعة الثّانيّة على ثقافة البجاح التي عُرفت بها الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة في السّودان الأوسط الشّمالي. ولكن المجموعة الأولى أثبتت أنّها، على عكس ما ظنّ المستعمر، أكثر وطنيّةً وأكثر تأهّلاً لقيادة المجتمع، ذلك عندما قدّمت مشروعها للوطنيّة السّودانيّة باعتبار أن السّودان هو وطن الجميع، بمستعربيه وأفارقته. هذا بينما أثبتت المجموعة الثّانيّة أنّها أشدّ تمترساً في مواقعها الأيديولوجيّة القائمة على فرية نقاء ورفعة الدّم العربي مقابل دونيّة الدّم الأفريقي.
هذه هي المجموعات السّوداء في غالبها الأعمّ، يشاركُها روّاد الاستنارة من مستعربي وسط وشمال السّودان، التي كوّنت جمعيّة اللواء الأبيض كتنظيم بديل لجمعيّة الاتّحاد السّوداني التي كوّنتها بدورها المجموعات المتمترسة في بجاح الاستعراب. ففي البدء تأسّست جمعيّة الاتّحاد السّوداني، ولكن لم تلبث أن انحلّت بمجرّد انضمام علي عبد اللطيف إليها؛ إذ لم تكن مواعينُها الفكريّة تتّسع لاستيعاب سودانٍ أفريقيٍّ فاحم السّواد، ولو كان قد خضع لعمليّة الاستعراب، خاصّةً إذا كانت تحوم حوله معرّة الرّقّ. وعلى هذا تكوّنت جمعيّة اللواء الأبيض ليرأسها المناضل علي عبد اللطيف. كان نشاط الأخير امتداداً للرّسالة التي بعث بها للمستعمر، متقدّماً بجملة مطالب من شأنها أن تؤدّي إلى نهضة الأمّة السّودانيّة (وكانت تلك أوّل مرّة يتمّ فيها استخدام لفظة «الأمّة» في الإشارة إلى الشّعب السّوداني في تاريخ السّودان).
كانت إستراتيجيّة اللواء الأبيض هو استقلال السّودان من كلا القوّتين المستعمرتين للبلاد؛ ولهذا جاء تكتيكُها على أن تفصل بين شقّي المستعمر، مصر وبريطانيا، فكان أن تبنّت شعار وحدة وادي النّيل تحييداً للشّقّ المصري بينما منع دستور الجمعيّة انضمام أيّ مصري إليها. (لمزيد من التّفاصيل، راجع كوريتا، 1997). وكانت هذه بذرة الحركتين الاستقلاليّة من جانب (حيث تمخّضت عن حزب الأمّة ـ لاحظ الاسم) والاتّحاديّة من جانب آخر. ولا غرو أن تحقّق الاستقلال من خلال نفس التّكتيك بعد ذلك بعقود. كما كانت جمعيّة حركة اللواء الأبيض أوّل تنظيم سياسي سوداني يقوم على حداثويّة العلمانية. وقد كان لهذا أكبر الأثر على الأجسام الطّائفيّة من جانب، وطبقة الأفنديّة من جانب آخر. فقد قفل عليهما الباب في ابتناء تنظيمات طائفيّة بحتة، فكان أن عمدت إلى التّحايل على هذا بابتناء تنظيمات تبدو في ظاهرها كما لو كانت علمانيّة، بينما هي في داخلها طائفيّة حتّى النّخاع. فحزب الأمّة تقف خلفه طائفة الأنصار بإمامها من بيت المهدي، بالرّغم من تزيّنه بمجموعة من الأفنديّة الذين يبدون كما لو كانوا علمانيّين، وما هم بذلك. أمّا الحركة الاتّحاديّة فتقف خلفها طائفة الختميّة بمرشدها من بيت الميرغني، بينما تزّينها مجموعة من الأفنديّة الذين يبدون كما لو كانوا علمانيّين، وما هم بذلك. وقد تقاسمت هذه الأحلاف الأفندويّة والطّائفيّة الأدوار، فكانت المجموعة الأولى تقوم بتسيير دفّة الحزب والبلاد بما يتوافق والخطّ العام للطائفة وزعيمها اللذين كان يقع على عاتقهما توفير السّند الجماهيري، مع استقلاليّة ظاهريّة لمجموعة الأفنديّة عن الطّائفة. ولا غرو أن تمدّدت الطّائفة في كلا الحالتين، الاستقلاليّين والاتّحاديّين، على حساب الأفنديّة فأمسكت بزمام الأمور؛ ولم لا وهي التي تملك مفاتيح الجماهير. وهذا وحده يكشف الطّبيعة الاستغلاليّة لكلا الأفنديّة والطّائفيّة فيما يتعلّق بالشّعب وتسخيره لخدمة أغراضهم. وهذا يعكس الدّور الذي كان يمكن أن تلعبه حركة اللواء الأبيض لو قُدّر لها أن تمتدّ أيّامُها. فقد كال لها الاستعمار لما نظر إليه على أنّه تنكّر من جانب المجموعات فاحمة السّواد التي تعامل معها على أنّها ربيبتُه.
فالاستعمار البريطاني المصري كان يرى أنّ هذه المجموعة تحديداً ينبغي أن تدين له بالولاء لما رأى أنّه أفضال كثيرة منه عليها. فهو الذي علّمها ورفع شأنها وجعلها تصعد في مراقي المجتمع بعد أن كانت في درجة العبيد. وبهذا صُدم فيها وخاب فألُه، فعمل من حينها على استبدالها بالمجموعة المستعربة بوسط السّودان، وهي التي شملها خطاب قادة الطّائفيّة للمستعمر الذي سخرت فيه من تصدّي أمثال علي عبد اللطيف لقيادة المجتمع. ومنذ ذلك الحين، تواطأت هذه الفئات بمثقّفيها وطائفيّيها ضدّ هذه المجموعات، فأزرت بها عرقيّاً، وعيّرتها بسابقة عبوديّة أسلافها، ثمّ زحزحتها تدريجيّاً عن منصّة الرّيادة والقيادة، يدعمهم في ذلك الاستعمار الثّنائي. وقد بدأت هذه اللحظة من العفو عن علي البنّا وهو على النّطع ينتظر تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرّصاص في الدّروة؛ ثمّ تلا ذلك اغتيال شخصيّة علي عبد اللطيف واتّهامه بالجنون، ثمّ سجنه من قبل مصر بمصحّ عقلي إلى أن مات غبناً، رغم شكواه المتكرّرة لذويه بأنّه معتقل ليس إلاّ. وكذلك قتل قادة الحركة الآخرين الذين ماتوا إمّا في المنافي أو في السّجون. وهكذا امتدّ هذا الصّراع الخفي الظّاهري إلى ما يُعرف بصراع الأبروفيّين (أولاد القبايل) ضدّ الفيليّين (أولاد العبيد). وتواصل هذا الأمر، أمر الأبروفيّين، حتّى في الحزب الشّيوعي، حيث قاموا بزحزحة أوّل أمين عام، وهو د. عبد الوهاب زين العابدين عبد التّام (عبد الغفّار محمّد أحمد، 2007: 18، إشارة هامشيّة رقم 39)، لينتهي الأمر أخيراً بابن أبوروف عبد الخالق محجوب كسكرتير عام للحزب بعد عوض عبد الرّازق (لمعرفة المزيد عن تفاصيل لصّراع الأبروفيّين والفيليّين وعلاقته بطبقة الأفنديّة، يُرجى مراجعة: خالد الكد، 1987).  لقد سعت هذه التّكتيكات في مآلاتها إلى إعادة حشر هذه المجموعات السّودانيّة الرّائدة في خانة الصَّغار والدّونيّة ومرّكبات النّقص المرتبطة بمؤسّسة الرّق.
هذه هي الحركة التي دشّنت قيام الأجسام السّياسيّة العلمانيّة بدرجة أصبح معها من المستحيل للأجسام الطّائفيّة أن تتصدّى للعمل العام سافرة الوجه واللسان، فكان أن تخفّت خلف أجسام تبدو كعلمانيّة في خارجها، بينما هي طائفيّة في جوهرها. ولهذا سيطرت عليها في عاقبة أمرها. كما هذه هي الحركة التي أرست خطّة نيل الاستقلال من حيث التّحالف مع الشّريك الضّعيف بدغدغة أحلامه في الوحدة الاستيعابيّة الابتلاعيّة، ريثما يتمّ التّخلّص من الشّريك الأقوى. وبالفعل هذا ما حدث، إذ تبنّى الأنصاريّون مفهوم الأمّة والاستقلال، بينما تبنّى الختميّون مفهوم الاتّحاد. ليس هذا فحسب، بل قام الاتّحاديّون بإعلان استقلال السّودان مع أنّه كان في مقدورهم إعلان الاتّحاد مع مصر. ونقول إنّه ما كان يمكن لذلك الجيل من الأفنديّة الذي تحالف مع الطّائفيّة أن يُذهلَ عن تكتيكات علي عبد اللطيف وهم الذين كانوا جميعاً يعيشون في مدينة لم تكن أكثر من قرية كبيرة حينها. أي أنّهم كانوا، بالتّعبير العامّي العربي، «أولاد حلّة». لقد كانوا على وعي تام بهذه الاستراتيجيّة وما يتبعها من تكتيكات، وربّما ابتهجوا بإزاحة المستعمر الغاشم لقادة اللواء الابيض من طريقهم. فقد توّفرت لذلك الجيل فرصة تاريخيّة في أن يبنوا بلادَهم وينتقلوا بها من خانة التّخلّف والرّجعيّة إلى خانة التّقدّم والازدهار، ذلك إذا ما امتلكوا مشروعاً وطنيّاً حقيقيّاً. ولكن يبدو أنّهم لم يكونوا يملكون شيئاً بخلاف ما أثروه عن حركة اللواء الأبيض من إستراتيجيّة وتكتيكات. فكلّ الذي فعلوه يبدو كما لو كان تطبيق خطّة معدّة مسبقاً من قبل آخرين، فأنفذوها دون أن يحفظوا لمن أعدّوها جميلاً أو شكرا.

الحزب الشّيوعي وعبء التّنظيم المركزي
هذا بعض ما قلناه في كتابنا منهج التحليل الثّقافي: مشروع الدّولة الوطنيّة وظاهرة الثّورة والدّيموقراطيّة (الطّبعة السّابعة 2015) عن عبء التّنظيم المركزي بالنّسبة للحزب الشّيوعي السّوداني والثّمن الغالي الذي ربّما دفعه ولا يزال يدفعه جرّاء ذلك:
ظلّت الأحزاب الشّيوعيّة تتراوح بين عدّة أقطاب متناقضة، ذلك منذ أن أعلن لينين أنّها طليعة الطّبقة العاملة. فالشّيوعيّة في أهمّ جوانبها تقوم في جوهرها على فكرٍ نظريٍّ عالي التّجريد وشديد التّعقيد؛ وفي جانبٍ آخر تقوم الشّيوعيّة على مبدأ إحقاق الحقوق لطبقة شاءت لها طبيعتُها الطّبقيّة بحسبما تواتر عنها إجملاً أن تكون قليلة الحظّ من حيث الزّمن للتّفكير النّظري بحسب طبيعة العمل اليدوي والجسماني الشّاق، فضلاً عن قلّة التّعليم. وعليه، بخلاف القيادات عالية الذّكاء والقدرات استثناءً، يفوت على أغلبها استيعاب الأعماق النّظريّة لفكر الذي من المفترض أن يخلّصهم من الاستغلال الرّأسمالي. وفي جانب ثالث يقوم الحزب الشّيوعي بوصفه طليعةً للطّبقة العاملة على كوادر قد صدرت في أصلها من البرجوازيّة الصّغيرة وليس لها من فضيلة طبقيّة خلاف نكرانها لذاتها وإيثارها للطّبقة العاملة ونذرانها لنفسها خدمةً لهذه الطّبقة المستغلّة ـــ هذا مع احتمال نكوصها وارتدادها عن تزكيتها لذاتها. في جانب رابع، نلاحظ أنّ الحزب الشّيوعي عادةً ما ينشأ في ظلّ ظروف يكون فيها مطارداً من قبل أجهزة النُّظم القائمة الأمر الذي يحتّم عليه اتّباع تكتيكات تنظيمية أشبه بتكتيكات المافيا من حيث السّرّيّة والمركزيّة. وفي جانب خامس، عادةً ما يقوم الحزب الشّيوعي باستقطاب عضويّته الجديدة من بين صفوف الشّباب الأيفاع عبر التّأسيسات الفكريّة التّاريخية التي غالباً ما يكون قد عفا عليها الزّمن وتجاوزها وبالتّالي لم يبق منها غير انطباعاتها النّظريّة دون التّطبيقيّة. وهذا ما وسمناه بمصطلح البيدوفيليا السّياسيّة، إذ تكبر هذه الأجيال لتجد نفسها قد تورّطت في شبكة علاقات تنظيميّة غاية في المركزيّة والانصياع ويكون مطلوباً منها تجاوز ما آمنت به من رؤى لتبنّي رؤى جديدة قد لا تكون هي نفسها قد تبلورت. ثمّ في جانب سادس، اتّبعت الأحزاب الشّيوعيّة بصورة عامّة تكتيك إداري قائم على البيروقراطيّة بما ينجم عنه تكديس مبالغ فيه للوثائق. وفي الحقّ، ما أضرّ بالحزب شيء مثلما أضرّت به عادته التّنظيميّة في تكديس وثائق العمل المكتبي؛ فمجرّد اعتقال شيوعي بارز ومداهمته من حيث لم يكن يحتسب، قد تنجم عنها عدّة كيلوغرامات من الوثائق التي يُستفاد منها في استحلاب معلومات إضافيّة من معتقلين آخرين بزعم الاختراق أو انكسار أعضاء آخرين، ولا يفِتُّ في عضُد العضو الملتزم بأكثر من هذا. جرى كلّ هذا للحزب الشّيوعي السّوداني والماركسيّة اللينينيّة تتصدّع جدرانها السّميكة وتتداعى حجراً بعد الآخر، تاركةً الدّول ومعها الأحزاب التي كانت تجد منها الرّعاية الأبويّة كما الأيتام.
خرج الحزب من كلّ هذا وهو مهيض الجناح، منحسر العضويّة، فاقداً للجسارة الفكريّة والسّياسيّة، ميّالاً إلى التّسويّة الفكريّة. وقد تحوّل، بفضل تكتيكاته البيدوفيليّة من جانب، وبجميع العوامل أعلاه من جانب آخر، إلى شيء أشبه بالمعتقل الفكري، يستقطب الأجيال الصّاعدة ما وسعته الحيلة بفكرٍ لم يعد يعمل وفق موجّهاته، فيجمّد طاقاتهم ويحبسها في شراك التّردّد والشكّ المقيم، فضلاً عن انبهام الرّؤية وضبابيّتها.
من المؤكّد أنّ الحزب الشّيوعي السّوداني يقف كحالة ماثلة لتجاوز الزّمن لمشروع فكري وإنساني ضخم بحجم الماركسيّة. هذا من جانب، إلاّ أنّه، من جانب آخر، بوصفه الحزب الرّائد في تدشين الحداثة، والأضخم إنجازا في مجالها، يقف كحالة نكوصيّة ورجعيّة في بنية الثّقافة السّودانيّة. فقد ظلّ هذا الحزب يتعرّض للاستهداف طيلة عمره السّنِي الموشّى بلون الدّماء ورائحة الموت، تتناوشه الاتّهامات وتلاحقه النّقمات بالطّعن في عقيدته وإنسانيّته. وقد صمد في وجه هذه العواصف كالطّود الأشمّ، إلاّ أنّ ليل الرّجعيّة، شأنه شأن كلّ الليالي المدلهمّة، قادر على إخفاء الجبال الشّوامخ. إنّ تشريع وجود مثل هذه الحركات تشريعاً ثقافيّاً واجتماعيّاً كاملاً سيظلّ أحد أهمّ المؤشّرات في تنامي الحقوق الإنسانيّة في المجتمعات التّقليديّة التي تسعى لاستشراف الحداثة.

الحزب الشّيوعي وعبء الاسم
تنادت بعض الأصوات مؤخراً من داخل أسوار الحزب تنادي بضرورة تغيير الاسم؛ بعض هذه الأصوات تعود لقيادات عليا مؤهّلة لتسنّم قيادة الحزب. وفي الحقِّ، فإن هذه الدعوة قديمة ليس فقط بالنسبة للحزب الشّيوعي السّوداني بل لازمت أغلب الأحزاب الشّيوعيّة حول العالم، ومنها من قامت بالفعل بتغيير اسمها فلم تقم لها قائمة بعد ذلك أبداً. إذن فقد تنادت العديد من الأصوات بضرورة تغيير اسم الحزب حبّاً منهم للحزب وتمنيّاً منهم للحزب بعمرٍ مديد؛ من بين هذه الأصوات من غادر صفوف الحزب بينما لا يزال على حبّه المقيم. ولكن لا ينبغي أن نغفل أنّ من بين الأصوات التي تنادي بضرورة تغيير اسم الحزب يتخفّى أُناسٌ لم يخرجوا فحسب على الحزب بل منهم من انشقّ عنه خيانةً وتنكّباً، والمنشقّ كالمنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. هؤلاء المنشقّون والخارجون على الحزب يعيشون تحت رحمة أرقٍ سرمديّ يعود لعميق إحساسهم بأنّهم قد سقطوا في معيار أخلاقهم. هؤلاء ربّما لا شفاء لهم. فمع خروجهم من الحزب وانشقاقهم عنه يعيشون ولا همّ لهم غير تتبّع ما يدور داخل الحزب الشّيوعي، فمرّةً تجدهم شامتين، ومرّةً أخرى تجدهم في ثوب الثّعلب عندما برز يوماً في ثياب النّاصحينا، وهكذا تجدهم كلّ يومٍ في دورٍ لهم يلعبونه ريثما يتبدّلوا عنه لدورٍ جديد. ولكن أخطر أدوارهم عندما يبرزون للنّاس باعتبار أنّهم ماركسيّون ولا يزالون على شيوعيّتهم ولو أنّ أكثر النّاس لا يعلمون. ولكن ماذا يريدون! إنّهم يريدون العودة إلى حظيرة الحزب الشّيوعي ولكن بعد أن يتحرّر الحزب من الدّرع الحديديّة للماركسيّة والشّيوعيّة بحسب زعمهم. هكذا إذن! إنّهم ماركسيّون وشيوعيّون "على حدّ السّكّين"، ولكنّهم يريدون حزباً غير شيوعي وغير ماركسي، فتصوّروا! ماذا يريدُ هؤلاء النّاس في حقيقة الأمر؟ إنّهم يريدون من الحزب أن يفعل فعلتَهم النّكراء! يريدون من الحزب الشّيوعي السّوداني أن يخرج على الحزب الشّيوعي السّوداني، وأوّل هذا الطّريق خطوة تتمثّل في تغيير اسم الحزب.

هكذا إذن، واليوم والحزب الشّيوعي مقبل على مؤتمره الخامس بعد واحدٍ وأربعين عامً من مؤتمره الرّابع، تصاعدت هذه النّغمة من عدّة جهات، بعضها من خارج أسوار الحزب. وها أنذا من خارج الحزب أتوجّه لقادة الحزب ولمنسوبيه ناصحاً لهم بعدم تغيير اسم الحزب. فتغيير الاسم سوف يجعل الحزبَ منبتّاً عن أصوله، فاقداً للاستمراريّة؛ ليس فقط استمراريّة التّجربة الشّيوعيّة السّودانيّة، وهي بحقّ تجربة فريدة، غير مسبوقة، رادها أناسٌ أفذاذ مشوا على صفحة الأيّام والتّاريخُ ينظر إليهم معجباً بهم ليسطّر سيرتهم كأنصع ما تكون السّير. فسيرة هؤلاء العظام سوف تنقطع وتنحجب عن الحزب في حال تغيير اسمه. ولكن أهمّ من هذا انقطاع سيرة الحركة الشّيوعيّة يخصوصٍ ثمّ الحركة الاشتراكيّة بعمومٍ وانحجاب بركاتها الفكريّة عن الحزب في حال تغيير اسمه. فالشّيوعيّة الآن بالتّحديد بعد أن زال عنها بريقُها السّياسي انكشف لها بريق خلاّب في جميع مؤسّسات الفكر الإنساني المستنير، الحر. هذا البريق ليس بجديد بل كان محجوباً عن الأنظار بالبريق السّياسي السّاطع للشّيوعيّة وقتها. كشف هذا البريق عن شيء جدّ خطير، ألا وهو أنّ الشّيوعيّة ليست مجرّد فكر سياسي يهدف إلى الوصول للسّلطة، بل هو فكر إنساني. هذه جملة تبدو بسيطة وليست ذات خطر إذا ما نظر إليها المرء بطريقة نظرة الطّائر العابرة غير المدقّقة. إلاّ أنّه عند التّدبّر وإمعان النّظر سوف ينكشف خطر هذه الجملة الصّغيرة في عدد كلماتها، الخطيرة في دلالاتها. فالشّيوعيّة انطلقت منذ لحظتها الأولى ومركزيّة وعيها بضرورة وجودها تتمحور حول الإنسان وكيف أنّه بمحض وجوده كإنسان يستحقّ أن يعيش سعيداً ومرفّهاً ما أمكن ثمّ بالضّرورة متحرّراً من الاستغلال والظّلم والقهر. وإلاّ فيم كتب الشّيوعيّون منذ ماركس مروراً بمدرسة النّظريّة النّقديّة (مدرسة فرانكفورت) عن الاغتراب. لقد حملوا هموم الإنسان أينما وُجد الإنسان، وشاقهم ما بدا لهم أنّه مصير غير سعيد ذلك الذي تسير عليه البشريّة تحت قيادة الغرب الرّأسمالي، فشابت كتاباتِهم نبرة تشاؤم وحزن نبيل لا يمكن أن يتغشّى من النّاس إلاّ أكثرهم شفافيّةً وإنسانيّةً. كما تكشّفت للماركسيّة بركات علميّة أخرى كونها تنطوي على منهجٍ يمكن عبره تفسير التّاريخ ثمّ الحاضر لا من باب الإيمان بالماركسيّة، بل من بإيفاء المسائل الأكاديميّة حقّها من الاستقصاء والتّدبّر. ولهذا تجد مناهج الماركسيّة تُدرّس في غالب جامعات الغرب الرّأسمالي وعلى رأسها كبرى الجامعات بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. فمناهج الماركسيّة لا غنى عنها للباحث في علوم الاجتماع والأنثربولوجيا والفولكلور، دع عنك الفلسفة. ولا يأتي هذا من باب الإيمان بها، بل من باب استصحاب التّجربة الفكريّة الإنسانيّة. لهذا، كون الماركسيّة قد أصبحت فكراً إنسانيّاً يعني أنّ الحاجة إليها لن تنتهي بتجاوز التّجربة السّياسيّة.
إنّ تغيير اسم الحزب سوف يحجب كلّ هذه البركات الإنسانيّة عن الحزب الجديد، ذلك لأنّه لن يكون وريثاً شرعيّاً لذلك التّراث الضّخم مهما ادّعى. نعم، يرى البعض أنّ الماركسيّة تمثّل تركةً legacy ثقيلة ليس في مصلحة الحزب أن يصرّ على حملها طالما توقّف عن التّبشير المذهبي بها. ولكن في المقابل لن يكون في مقدور أيّ حزب لا يحمل اسم الشّيوعيّة صراحةً الحقّ في أن يبرز بين النّاس بوصفه ينتمي بالأصالة لذلك التّراث heritage الضخم. ليس مطلوباً من الحزب الشّيوعي أن يكون أورثودوكسيّاً متحجّراً فيُصِرُّ على التّمسّك بالماركسيّة المدرسيّة كمذهب غير قابل للتّفكيك وإعادة التّركيب. فهذا دونه خرط القتاد وليس من سنّة الفكر في شيء. إذ يمكنه أن يتطوّر فكريّاً انطلاقاً من إرثه التّليد. وليعلم الشّيوعيّون أنّ التّاريخ لا يعطينا أيّ تجربة لفكر غير مسنود بقداسة السّماء تمكّن من إقامة دولته بخلاف الفكر الماركسي. وهذا وحده يعكس المدى الإنساني العميق لهذا الفكر الذي لولاه لما جذب إليه القلوب والأفئدة لدرجة أن يقيموا دولاً وحكوماتٍ بموجبه. كما لا ينبغي للشّيوعيّين السّودانيّين أن ينسوا أنّ التّاريخ لا يعطينا ولو تجربةً واحدةً لحزبٍ سياسيٍ بخلاف الحزب الشّيوعي السّوداني وقف كالمارد عندما انجلت سحابة غبار المعركة التي سُحلت فيها قيادته بدمٍ بارد؛ تلك القيادات التي ذهبت إلى الموت ليست فقط بقلوبٍ مطمئنّة وصدورٍ مكشوفة لمطر الرّصاص ورقابٍ تشرئبّ شموخاً وخيلاء لحبل المشنقة ــــ ليس هذا فحسب، بل وهي تغنّي للشّعب وتتشوّف عبر سمادير المعركة المنهزمة وغبارها الكثيف ذلك الفجر الجميل المخضلّ بالنّدى والحبّ والتّسامح الذي سيأتي به المستقبل.
في هذا خرج أحد شعراء الحزب المجيدين (كمال الجزولي) وهو يتغنّى بعد المعركة مباشرةً:
الشّعرُ الليلةَ مطرُ الدّمْ!
رعّافٌ يهدرُ في الفمْ!
صخّابٌ ظهرُ أبي وخصيبٌ رحِمُ الأمْ؛
فلنُشعل نارَ الدّوبيتْ،
ولنوقد جمرَ النّمْ،
ولنفرد أجنحةَ التُّمْ تُمْ،
ولنعرض ببنادقنا بين الأخواتْ.
أنشد هذا وهو بعدُ ابن عشرين سنةً تزيد بسنةٍ أو سنتين! خرج من المعركة وهو يتغنّى للحبّ والجمال وهو لا يزال يُمسك بالبندقيّة! لم يدعُ للانتقام إذ لم تسيطر عليه روح التّشفّي والغضب الأعمى. ألا ليت شعري هل في مقدور شباب السّودان والأجيال النّاشئة أن يتملّوا هذه الدّروس العظام ومن اجترحوها لا يزالون على ظهر الأرض يأكلون الطّعام ويمشون بين النّاس في الأسواق!
وبعد؛ إذا تمّ تغيير الاسم، انحجبت عن الحزب الجديد البركات. هؤلاء فعلوا ذلك بوصفهم شيوعيّين ولن يقبلوا أن يتغنّى بأمجادهم حزب لم يعد يحمل اسمهم. فلتنظروا إلى الشّباب الغضّ الذي يتراقص منجذباً مع كورال الحزب الشّيوعي عندما يتغنّى بسيرة أولئك الأبطال الأفذاذ! كيف يمكن لهم أن يفعلوا هذا في حال تغيير الاسم.المشكلة تمكن في شيءخطير، هو أنّ الشّيوعيّين لن يتمكّنوا من استكناه خطورة تغيير اسم الحزب إلاّ بعد أن يقوموا بتغييره، وعندها لن يكون في مقدورهم العودة مرّة أخرى إلى الاسم الأصلي. لا تغيّروا اسم الحزب! فاسم "الحزب الشّيوعي" ليس مجرّد اسم حزب والسّلام! لا يا سادتي! إنّه تراث إنساني في حدّ ذاته، أي أنّه ينبغي أن يتمّ التّعامل معه بوصفه أحد الآثار الإنسانيّة التي تستحقّ أن يُحافظ عليها. لا تكونوا مثل طالبان عندما نسفوا ما يليهم من آثار إنسانيّة بمنطقة باميان. فلتحافظوا لنا (نعم، لنا! نحن جميع النّاس ثمّ السّودانيّين بوجهً خاص والشّيوعيّين بوجهٍ أخصّ) إرثنا الإنساني ممثّلاً في حزب اسمه "الحزب الشّيوعي السّوداني".

الحزب الشّيوعي وعبء الاسم
تنادت بعض الأصوات مؤخراً من داخل أسوار الحزب تنادي بضرورة تغيير الاسم؛ بعض هذه الأصوات تعود لقيادات عليا مؤهّلة لتسنّم قيادة الحزب. وفي الحقِّ، فإن هذه الدعوة قديمة ليس فقط بالنسبة للحزب الشّيوعي السّوداني بل لازمت أغلب الأحزاب الشّيوعيّة حول العالم، ومنها من قامت بالفعل بتغيير اسمها فلم تقم لها قائمة بعد ذلك أبداً. إذن فقد تنادت العديد من الأصوات بضرورة تغيير اسم الحزب حبّاً منهم للحزب وتمنيّاً منهم للحزب بعمرٍ مديد؛ من بين هذه الأصوات من غادر صفوف الحزب بينما لا يزال على حبّه المقيم. ولكن لا ينبغي أن نغفل أنّ من بين الأصوات التي تنادي بضرورة تغيير اسم الحزب يتخفّى أُناسٌ لم يخرجوا فحسب على الحزب بل منهم من انشقّ عنه خيانةً وتنكّباً، والمنشقّ كالمنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. هؤلاء المنشقّون والخارجون على الحزب يعيشون تحت رحمة أرقٍ سرمديّ يعود لعميق إحساسهم بأنّهم قد سقطوا في معيار أخلاقهم. هؤلاء ربّما لا شفاء لهم. فمع خروجهم من الحزب وانشقاقهم عنه يعيشون ولا همّ لهم غير تتبّع ما يدور داخل الحزب الشّيوعي، فمرّةً تجدهم شامتين، ومرّةً أخرى تجدهم في ثوب الثّعلب عندما برز يوماً في ثياب النّاصحينا، وهكذا تجدهم كلّ يومٍ في دورٍ لهم يلعبونه ريثما يتبدّلوا عنه لدورٍ جديد. ولكن أخطر أدوارهم عندما يبرزون للنّاس باعتبار أنّهم ماركسيّون ولا يزالون على شيوعيّتهم ولو أنّ أكثر النّاس لا يعلمون. ولكن ماذا يريدون! إنّهم يريدون العودة إلى حظيرة الحزب الشّيوعي ولكن بعد أن يتحرّر الحزب من الدّرع الحديديّة للماركسيّة والشّيوعيّة بحسب زعمهم. هكذا إذن! إنّهم ماركسيّون وشيوعيّون "على حدّ السّكّين"، ولكنّهم يريدون حزباً غير شيوعي وغير ماركسي، فتصوّروا! ماذا يريدُ هؤلاء النّاس في حقيقة الأمر؟ إنّهم يريدون من الحزب أن يفعل فعلتَهم النّكراء! يريدون من الحزب الشّيوعي السّوداني أن يخرج على الحزب الشّيوعي السّوداني، وأوّل هذا الطّريق خطوة تتمثّل في تغيير اسم الحزب.

هكذا إذن، واليوم والحزب الشّيوعي مقبل على مؤتمره الخامس بعد واحدٍ وأربعين عامً من مؤتمره الرّابع، تصاعدت هذه النّغمة من عدّة جهات، بعضها من خارج أسوار الحزب. وها أنذا من خارج الحزب أتوجّه لقادة الحزب ولمنسوبيه ناصحاً لهم بعدم تغيير اسم الحزب. فتغيير الاسم سوف يجعل الحزبَ منبتّاً عن أصوله، فاقداً للاستمراريّة؛ ليس فقط استمراريّة التّجربة الشّيوعيّة السّودانيّة، وهي بحقّ تجربة فريدة، غير مسبوقة، رادها أناسٌ أفذاذ مشوا على صفحة الأيّام والتّاريخُ ينظر إليهم معجباً بهم ليسطّر سيرتهم كأنصع ما تكون السّير. فسيرة هؤلاء العظام سوف تنقطع وتنحجب عن الحزب في حال تغيير اسمه. ولكن أهمّ من هذا انقطاع سيرة الحركة الشّيوعيّة يخصوصٍ ثمّ الحركة الاشتراكيّة بعمومٍ وانحجاب بركاتها الفكريّة عن الحزب في حال تغيير اسمه. فالشّيوعيّة الآن بالتّحديد بعد أن زال عنها بريقُها السّياسي انكشف لها بريق خلاّب في جميع مؤسّسات الفكر الإنساني المستنير، الحر. هذا البريق ليس بجديد بل كان محجوباً عن الأنظار بالبريق السّياسي السّاطع للشّيوعيّة وقتها. كشف هذا البريق عن شيء جدّ خطير، ألا وهو أنّ الشّيوعيّة ليست مجرّد فكر سياسي يهدف إلى الوصول للسّلطة، بل هو فكر إنساني. هذه جملة تبدو بسيطة وليست ذات خطر إذا ما نظر إليها المرء بطريقة نظرة الطّائر العابرة غير المدقّقة. إلاّ أنّه عند التّدبّر وإمعان النّظر سوف ينكشف خطر هذه الجملة الصّغيرة في عدد كلماتها، الخطيرة في دلالاتها. فالشّيوعيّة انطلقت منذ لحظتها الأولى ومركزيّة وعيها بضرورة وجودها تتمحور حول الإنسان وكيف أنّه بمحض وجوده كإنسان يستحقّ أن يعيش سعيداً ومرفّهاً ما أمكن ثمّ بالضّرورة متحرّراً من الاستغلال والظّلم والقهر. وإلاّ فيم كتب الشّيوعيّون منذ ماركس مروراً بمدرسة النّظريّة النّقديّة (مدرسة فرانكفورت) عن الاغتراب. لقد حملوا هموم الإنسان أينما وُجد الإنسان، وشاقهم ما بدا لهم أنّه مصير غير سعيد ذلك الذي تسير عليه البشريّة تحت قيادة الغرب الرّأسمالي، فشابت كتاباتِهم نبرة تشاؤم وحزن نبيل لا يمكن أن يتغشّى من النّاس إلاّ أكثرهم شفافيّةً وإنسانيّةً. كما تكشّفت للماركسيّة بركات علميّة أخرى كونها تنطوي على منهجٍ يمكن عبره تفسير التّاريخ ثمّ الحاضر لا من باب الإيمان بالماركسيّة، بل من بإيفاء المسائل الأكاديميّة حقّها من الاستقصاء والتّدبّر. ولهذا تجد مناهج الماركسيّة تُدرّس في غالب جامعات الغرب الرّأسمالي وعلى رأسها كبرى الجامعات بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. فمناهج الماركسيّة لا غنى عنها للباحث في علوم الاجتماع والأنثربولوجيا والفولكلور، دع عنك الفلسفة. ولا يأتي هذا من باب الإيمان بها، بل من باب استصحاب التّجربة الفكريّة الإنسانيّة. لهذا، كون الماركسيّة قد أصبحت فكراً إنسانيّاً يعني أنّ الحاجة إليها لن تنتهي بتجاوز التّجربة السّياسيّة.
إنّ تغيير اسم الحزب سوف يحجب كلّ هذه البركات الإنسانيّة عن الحزب الجديد، ذلك لأنّه لن يكون وريثاً شرعيّاً لذلك التّراث الضّخم مهما ادّعى. نعم، يرى البعض أنّ الماركسيّة تمثّل تركةً legacy ثقيلة ليس في مصلحة الحزب أن يصرّ على حملها طالما توقّف عن التّبشير المذهبي بها. ولكن في المقابل لن يكون في مقدور أيّ حزب لا يحمل اسم الشّيوعيّة صراحةً الحقّ في أن يبرز بين النّاس بوصفه ينتمي بالأصالة لذلك التّراث heritage الضخم. ليس مطلوباً من الحزب الشّيوعي أن يكون أورثودوكسيّاً متحجّراً فيُصِرُّ على التّمسّك بالماركسيّة المدرسيّة كمذهب غير قابل للتّفكيك وإعادة التّركيب. فهذا دونه خرط القتاد وليس من سنّة الفكر في شيء. إذ يمكنه أن يتطوّر فكريّاً انطلاقاً من إرثه التّليد. وليعلم الشّيوعيّون أنّ التّاريخ لا يعطينا أيّ تجربة لفكر غير مسنود بقداسة السّماء تمكّن من إقامة دولته بخلاف الفكر الماركسي. وهذا وحده يعكس المدى الإنساني العميق لهذا الفكر الذي لولاه لما جذب إليه القلوب والأفئدة لدرجة أن يقيموا دولاً وحكوماتٍ بموجبه. كما لا ينبغي للشّيوعيّين السّودانيّين أن ينسوا أنّ التّاريخ لا يعطينا ولو تجربةً واحدةً لحزبٍ سياسيٍ بخلاف الحزب الشّيوعي السّوداني وقف كالمارد عندما انجلت سحابة غبار المعركة التي سُحلت فيها قيادته بدمٍ بارد؛ تلك القيادات التي ذهبت إلى الموت ليست فقط بقلوبٍ مطمئنّة وصدورٍ مكشوفة لمطر الرّصاص ورقابٍ تشرئبّ شموخاً وخيلاء لحبل المشنقة ــــ ليس هذا فحسب، بل وهي تغنّي للشّعب وتتشوّف عبر سمادير المعركة المنهزمة وغبارها الكثيف ذلك الفجر الجميل المخضلّ بالنّدى والحبّ والتّسامح الذي سيأتي به المستقبل.
في هذا خرج أحد شعراء الحزب المجيدين (كمال الجزولي) وهو يتغنّى بعد المعركة مباشرةً:
الشّعرُ الليلةَ مطرُ الدّمْ!
رعّافٌ يهدرُ في الفمْ!
صخّابٌ ظهرُ أبي وخصيبٌ رحِمُ الأمْ؛
فلنُشعل نارَ الدّوبيتْ،
ولنوقد جمرَ النّمْ،
ولنفرد أجنحةَ التُّمْ تُمْ،
ولنعرض ببنادقنا بين الأخواتْ.
أنشد هذا وهو بعدُ ابن عشرين سنةً تزيد بسنةٍ أو سنتين! خرج من المعركة وهو يتغنّى للحبّ والجمال وهو لا يزال يُمسك بالبندقيّة! لم يدعُ للانتقام إذ لم تسيطر عليه روح التّشفّي والغضب الأعمى. ألا ليت شعري هل في مقدور شباب السّودان والأجيال النّاشئة أن يتملّوا هذه الدّروس العظام ومن اجترحوها لا يزالون على ظهر الأرض يأكلون الطّعام ويمشون بين النّاس في الأسواق!
وبعد؛ إذا تمّ تغيير الاسم، انحجبت عن الحزب الجديد البركات. هؤلاء فعلوا ذلك بوصفهم شيوعيّين ولن يقبلوا أن يتغنّى بأمجادهم حزب لم يعد يحمل اسمهم. فلتنظروا إلى الشّباب الغضّ الذي يتراقص منجذباً مع كورال الحزب الشّيوعي عندما يتغنّى بسيرة أولئك الأبطال الأفذاذ! كيف يمكن لهم أن يفعلوا هذا في حال تغيير الاسم.المشكلة تمكن في شيءخطير، هو أنّ الشّيوعيّين لن يتمكّنوا من استكناه خطورة تغيير اسم الحزب إلاّ بعد أن يقوموا بتغييره، وعندها لن يكون في مقدورهم العودة مرّة أخرى إلى الاسم الأصلي. لا تغيّروا اسم الحزب! فاسم "الحزب الشّيوعي" ليس مجرّد اسم حزب والسّلام! لا يا سادتي! إنّه تراث إنساني في حدّ ذاته، أي أنّه ينبغي أن يتمّ التّعامل معه بوصفه أحد الآثار الإنسانيّة التي تستحقّ أن يُحافظ عليها. لا تكونوا مثل طالبان عندما نسفوا ما يليهم من آثار إنسانيّة بمنطقة باميان. فلتحافظوا لنا (نعم، لنا! نحن جميع النّاس ثمّ السّودانيّين بوجهً خاص والشّيوعيّين بوجهٍ أخصّ) إرثنا الإنساني ممثّلاً في حزب اسمه "الحزب الشّيوعي السّوداني".

الحزب الشّيوعي السّوداني، هل فعلاً نضب معينه الفكري؟
من الممكن أن تعيش تنظيمات فكريّة بعينها حالة النّضوب والجفاف الفكري، إذ تكون فيها قد استهلكت طاقتها الفكريّة، بينما لا تزال بها بقيّة من طاقة تنظيميّة. ولا يعني هذا وجوب كتابة شهادة موت لمثل هذه الأحزاب؛ فالفكر حالة ديناميكيّة متجدّدة لا تموت. الذي يموت فعلاً هو الجسم الحامل للفكر دون الفكر. فقولنا أعلاه ينبغي أن يُحمل على محملٍ مجازيّ. فالفكر يتشكّل بقوالب سلوكيّة بعينها؛ هذه القوالب قد تموت أو تنتهي فعاليّتها بمرور الزّمن. عندها يكون المطلوب هو تحقيق استقلاليّة الأفكار عن هذه القوالب السّلوكيّة لتعود إلى حالة بكارتها وعذريّتها الأولى كيما يتمّ تكشيلها في قوالب سلوكيّة جديدة ريثما يتجاوزها الزّمن بدورها.
في هذا ربّما يقف الحزب الشّيوعي السّوداني كحالة ماثلة؛ فقد نُقل عن القيادي البارز وعضو اللجنة المركزيّة سليمان حامد قوله في مقابلة صحفيّة: «الحديث عن الاشتراكيّة الآن وهم، ناهيك عن الشّيوعيّة» (جريدة الصّحافة 4/6/2008م). فإذا كان هذا كهذا، علينا أن نتساءل عن الأهداف ذات الأساس الفكري التي يعمل الحزب على بلوغها. لا ينبغي أن نلوم الرّجل في حال صدقه؛ فالحقيقة أنّه ربّما يكون الحزب بالفعل قد استهلك طاقته الفكريّة، بينما لا يزال يحتفظ بطاقته التّنظيميّة بدرجة أو بأخرى. وهذا لا يعني أنّه من غير المؤمّل أو المنظور أن يقوم الحزب بتجديد نفسه فكريّاً، كأن يتبنّى فكراً جديداً غير منبتّ الأصول عن منابع ماركسيّته الأولى بالضّبط كما فعل قرامشي وكما حاولت مدرسة فرانكفورت من بعده. هذا ممكن، إلاّ أنّ الواقع يشير بوضوح إلى أن مسألة ابتناء فكر جديد سوف تقع بالضّرورة على عاتق قيادة الحزب (نسبةً لصرامة رأسية تداول السّلطة داخل التّنظيم). في هذه الحالة تبرز حقيقة أخرى ليست أقلّ خطراً من حقيقة استهلاك التّنظيم لطاقته الفكريّة، ألا وهي أنّ العضويّة القديمة التي تنتمي إلى الفكر البائد تكون قد سيقت كما لو الأنعام إلى فكر لم يدر في خلدها في أيّ يومٍ من الأيّام. ويعكس لنا هذا ما نعنيه بأنّ مثل هذه الأحزاب ربّما تقوم بتغريب الإنسان عن هويّته وعن ذاته.
مثل هذه الأزمة لا ينبلج صباحُها إلاّ والحزب يمرّ بحالتين خطيرتين: الأولى انفضاض الأعضاء الأذكياء من ذوي الشّكيمة الفكريّة الذين تُزعجهم الأسئلة الفكريّة فلا ينالون قسطاً من الرّاحة إلاّ ليلجوا في مشكلة أخرى. في حال عدم انفضاضهم من الحزب، ينحو هؤلاء إلى الابتعاد عن التّنظيم، فلا هم يواظبون على حضور اجتماعاته ولا هم يقومون بدغع اشتراكاتهم ... إلخ الواجبات التّنظيميّة. وقد شهد الحزب الشّيوعي حالة طاغية من هؤلاء إلى درجة تسميتهم بالمبتعدين، اي دون تطبيق اللائحم عليهم، ومن ثمّ طردهم. الحالة الثّانية بقاء شغّيلة خليّة النّحل على وفائهم المطلق والأعمى للحزب، وهؤلاء هم الغالبية التي تمثّل عمدة الأجهزة الحزبيّة العاملة apparat. ويُعرف عن هذه المجموعة عدم انشغالها بالفكر، إذ لا تشغلها مزعجاتُه وعادةً ما تكتفي بالخطوط العامّة منه. ويكون لهذه المجموعة شأنُها الخطير في الحزب كونها تقوم بحراسته تنظيميّاً ومنشطيّاً، بينما تقوم المجموعة الأولى بحمايته فكريّاً وسياسيّاً. يُعرف عن المجموعة الثّانية التي جرت تسميتُها في أدبيّات الحزب الشّيوعي السّوفيتي بالأبَراتشيك apparatchik، بالنّفوذ والهيمنة على المفاصل الأساسيّة داخل بنية التّنظيم. فهي ربّما لا يلحظها أحد من خارج التّنظيم كونها لا تحبّ الأضواء؛ فلا هي متحدّثة لبقة، ولا هي قادرة على تقديم نفسها وفكرها بطريقة جذّابة، فضلاً عن فقدان أغلب هذه الكوادر للجاذبيّة القياديّة (راجع الخاتم عدلان، 2012).
مكمن الأزمة هنا أنّ الحزب الشّيوعي قد أصبح، بوصفه طليعة للطّيقة العاملة بحسب زعمه، حزباً فكريّاً في المقام الأوّل كونه يقوم على أطروحة فكريّة غاية في التّعقيد الفلسفي والمنهجي. ولهذا جعل نفسه طليعةً للطّبقة العاملة التي ربّما لا يكون في مقدورها تدبّر الزّمن والقدرات اللازمة لهضم مثل هذا الفكر، فتكتفي منه بشعاراته وخطوطه العامّة دون تفاصيله. لهذا يجذب الحزب المثقّفين الذين تشغلهم الأسئلة الفكريّة والفلسفيّة. وهؤلاء هم أنفسهم الذي يحتلّون مقاعد القيادة فيه. بالطّبع يمكن لأحد العمّال أن يحتلّ موقع القيادة، لكن ليس قبل أن يطوّر نفسه فكريّاً ليصبح في عداد المثقّفين والمفكّرين. فقادة هذا الحزب ليسوا مطالبين فقط بتقديم الحلول العمليّة للمشكلات النّقابيّة والسّياسيّة، بل يفترض فيهم أيضاً القدرة على تقديم الحلول النّظريّة أيضاً وبسط الرّؤى الفلسفيّة. مع تخشب مفاصل الفكر داخل هذا التّنظيم وانفضاض العاملين بالفكر والثّقافة فيه، يبقى الأبارتشيك وهم أقلّ قدرة في بسط الفكر وتقديمه. وهذا وحده يشي بما قلنا من أنّ الحزب يكون كمن فقد طاقته الفكريّة بينما لا تزال به بقيّة طاقة تنظيميّة هي التي تدفعه (راجع الخاتم عدلان، 2012).
في رأينا أنّه يمكن للحزب الشّيوعي أن يخرج من هذا المأزق بتدوير وتنشيط حراك فكري جديد داخل عضويّته، ومن خارجها، من شأنه أن يؤدّي إلى بروز تيّار فكري متجدّد عن التّراث الماركسي الضّخم، وتراث ممارسته السّودانيّة الضّخم بدوره، يكون قادراً لجذب القطاعات الشّبابيّة الماركسيّة إليه. ويتطلّب هذا أن تكون هناك حرّيّة كافية، إذ لا يمكن لمثل هذا التّحريك الفكري أن يحدث داخل الغرف التّنظيميّة المغلقة. وهذا بدوره يتطلّب من الحزب أن يفتح خياشيمه التّنظيميّة كيما يشمّ الهواء المنعش النّقي. لذا، عليه أن يُحدث تغييراً جذريّاً في أنماط أدائه الرّأسي الصّارمة، متيحاً قدراً أكبر من الأداء الأفقي. وفي الظّنّ أنّ هذا هو عين ما يفعله الآن، ما جعل الكثيرين ينظرون إليه على أنّه تراخٍ جرّاء ضعف الحزب، وما هو بذلك.

خاتمة
وبعد، هذا ما كتبناه قبل سنوات عن الحزب الشّيوعي السّوداني. ففي الرّأي، لا يكون السّودان بخير عندما يختفي حزب بهذا الحجم من الإنجاز والرّؤية الثّاقبة والفكر المنير، فضلاً عن الذّكاء وعمق البصيرة الفكريّة ونجابة النّساء والرّجال وجسارتهم في الحياة وعند الموت. هذا بجانب حبّهم الجمّ للوطن وإيمانهم العميق بالشّعب وقدرته على بلوغ مرافئ الوعي والخلاص.
بخصوص آفاق التّطوّر الفكري، يقف الاقتصاد التّعاوني، في رأينا، كأحد أوسع الآفاق لتطوير الاشتراكيّة الماركسيّة واللينينيّة؛ إنّه نفس الاقتصاد التّعاوني الذي لم يؤثر عن ماركس أيّ شيء بخصوصه بخلاف سطر واحد ذهب فيه إلى ما معناه أنّه لا بأس به إلى حين بلوغ الاشتراكيّة. وهو نفسه الاقتصاد التّعاوني الذي قام حاكم يوغسلافيا الأسبق تيتو بتبنّيه ليس فقط عوضاً عن اشتراكيّة الاتّحاد السّوفيتي وكتلته، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بأن نظر إليه على أنّه الاشتراكيّة الحقّة. وفي الحقّ لم يكن ذلك أكثر من تسمية الأشياء بغير أسمائها، ذلك لجاذبيّة عاطفيّة طاغية انطوت عليها دعاوى الاشتراكيّة من قبل زمان ماركس إلى ما بعد زمان لينين. اليوم في مقدور الحزب الشّيوعي عبر منتدياته الفكريّة القاعديّة، وليس عبر لجنته المركزيّة، أن يقوم بتطوير هذا الفكر إذ ما حرّر نفسه من ربْقة الماركسيّة اللينينيّة كخط واجب الاتّباع لا كتركة. ولا يعني قولي هذا بأيّ حال من الأحوال تغيير اسم الحزب. فلي أصدقاء كثْر في الحزب يتوزّعون ما بين قمّته القياديّة إلى وسطه القيادة إلى قاعدته ممّن ترى ضرورة تغيير اسم الحزب وأنا في هذا أعارضهم بشدّة. وهذا ما قلتُه بحقّ المرحوم الخاتم عدلان. فتغيير اسم الحزب يعني أوّل ما يعني قيام تنظيم جديد بلا ذاكرة وبالتّالي بلا تاريخ. إنّ المرء عادةً ما يمرّ بأطوارٍ عديدة في مسيرة حياته، يتقلّب فيها ذات اليمين وذات اليسار، لكنّه قلّما يقوم بتغيير اسمه. ولا أدري وجه الذّكاء ولا وجه الشّطارة في أن ينبذ المرءُ تاريخاً عريقاً وضارباً في القدم وذا أمجادٍ ربّما لم تواتِ غيره كما هو الحال مع الأحزاب الشّيوعيّة ليبدأ من الصّفر، بلا ماضٍ يصنع له المصداقيّة وبلا ذاكرة وبلا تاريخ.
نعم، يبقى على الحزب الشّيوعي أن يتخلّص أولاً من حكم الأباراتشيك apparatchik ليستعيد وجهه وسَمْتَه الفكري الجذّاب الأنيق؛ ثمّ ثانياً عليه أن يتخلّص من منهج الإدارة المركزيّة والأسلوب المافيوزي في الإدارة بكلّ ما ينطوي هذا من سرّيّة كما لو كان يدبّر انقلاباً عسكريّاً، فضلاً عمّا ينجم عن كلّ هذا من تكدّس للوثائق بما يغري أيّ أجهزة أمنيّة مهما بلغت بها درجة الغباء وانعدام الذّكاء (بمثلما عليه حال أجهزتنا في العالم الثّالث بصور عامّة) لأن تخترق هذا الحصن المنيع. فما من قلعة حوصرت وامتدّ بها الحصار واشتدّ إلاّ وسقطت في خاتمة مطافها؛ ثالثاً عليه أن يفتح شبابيك الدّيموقراطيّة غير المركزيّة حتّى يدخل ضوء الشّمس ويتجدّد الهواء داخل دهاليز الحزب المعتمة فتأتي قيادات جدية أغلبُها وُلد بسنوات منذ انضمام أغلب الأعضاء الحاليّين للجنة المركزيّة. ثمّ قبل كلّ هذا وبعده ينبغي للقيادة الحاليّة (ولو كانت هي نفسها ما نعنيه بالأباراتشيك apparatchik) أن تدرك تاريخيّة اللحظة الرّاهنة فتكتسب بعضاً من الحسّ التّاريخي فتميل للنَّصَفةِ والحكم بالعدل لا تخشى في ذلك لومة لائم فتقوم وبسرعة بعزل البصل المتعفّن في مخزن لجنتها المركزيّة (وهو طبعاً قلّة مهما فاحت نتانتُه) عن باقي البصل المعافى. عليها أن تفعل هذا حتّى لو كان هذا آخر قرار لها ستتّخذه. بهذا وحده يمكنها أن تنقذ الحزب من أمراضه التي يعاني منها أكانت اختراقاً أمنيّاً، أم تكتّلاً حزبيّاً داخليّاً، أم استمراءً للجلوس في كراسي القيادة من باب التّبطّل والتّكاسل.
ولا نختم بغير ما بدأنا به: الحزب الشّيوعي السّوداني .. الله لا جاب يوم شكرك!