Thursday, August 08, 2019

مؤسسات وهياكل الحكم في ظل الثورة

مؤسسات وهياكل الحكم في ظل الثورة
الثورة مستمرة، ولكن ماذا عن مؤسساتها وهياكلها التي عبرها تحقق أهدافها؟

محمد جلال أحمد هاشم
19 يناير 2019م

بهذا تكون هذه الثورة المجيدة قد أكملت شهرها الأول، وبلتأكيد سوف تزيد عليه وتستمر إلى أن تحقق الهدف الأول منها، ألا وهو الإسقاط السياسي لنظام الإنقاذ لتواصل ذلك إلى أن تكمل المهمة بتفكيك نظام الإنقاذ من حيث قوانينه ومؤسساته. ولكن السؤال المهم يتعلق بمؤسسات الثورة البديلة وهياكلها لإدارة البلاد. فمن المؤكد الذي تجاوزه الزمن وانعقد عليه إجماع كل القوى المشاركة في الثورة أنها لن تقبل بأي تغيير من داخل النظام، أكان ذلك انقلاب قصر أو خلافه. وكذلك انعقد الإجماع على أنه من غير المقبول قيام مجلس عسكري بيده السيادة ويعمل تحته مجلس وزراء من قبيل ما حدث في أعقاب ثورة أبريل المجيدة (1985). كما تجاوز الإجماع الخلاف حول طول الفترة الانتقالية باتفاق جميع الأطراف الثورية على مدة الأربعة أعوام. ولكن ثم ماذا بعد هذا؟ ماذا عن مؤسسات الحكم في الفترة الانتقالية وطريقة تحديد الهياكل والمؤسسات؟
من بين كل الوثائق التي عالجت الفترة الحرجة التي ستعقب مباشرةً السقوط السياسي لنظام الإنقاذ (أي المرحلة التي عادةً ما تسرق فيها الثورة)، يمكنني أن أخلص إلى هذه المقترحات التي أطرحها للنقاش في تجمع أساتذة الجامعات ريثما يتم رفعها إلى باقي تشكيلات تجمع المهنيين. أثناء ابتناء هذا التصور، كانت تقف نصب أعيني مهام أساسية لو لم تحسمها الثورة في مرحلتها الثورية (أي خلال الفترة الانتقالية وليس فترة الشرعية الدستورية)، فإنها تكون قد سُرقت أو أجهضت. في هذا علينا أن ندرك أن الفترة الانتقالية هي فترة الشرعية الثورية. ولهذا سوف أحصر مقترحاتي حالياً على هذه الفترة الحرجة التي يمكن فيها أن ننجز أخطر وأهم واجبات الثورة، أو أن تُسرق الثورة. أما فترة الشرعية الدستورية فمعلقة بالطبع بمن يقع عليه اختيار الشعب.
لعله من نافلة القول إن الدولة الوطنية تقوم على مبدأ السيادة التي يقع عليها مناط الاستقلالية، ثم تحت هذا تأتي باقي مؤسسات الدولة التي تنقسم إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية. إذن فالثورة الشعبية هذه تقف الآن بصورة ملحة إزاء واجب تحديد شكل كل سلطة من هذه السلطات الأربع. اقتراحي أدناه سوف يتعلق بثلاث مؤسسات منها فقط، هي السيادة التشريع والتنفيذ. هذا بينما أترك السلطة الرابعة (القضائية) لاحقا بعد الفراغ من هذه السلطات الثلاث، دون أن يعني هذا عدم التعرض للقوانين والمحاكمات الخاصة التي بموجبها ينبغي محاكمة سدنة نظام الإنقاذ والحركة الإسلامية ورموز النظام وجيش الفاسدين وسارقي مال وموارد الشعب السوداني. والسبب في هذا أن السلطة القضائية ذات طبيعة تخصصية مغلقة، وليست كباقي السلطات الأخرى المفتوحة، حيث يمكن لأي فرد من الشعب عاقل وبالغ قانونيا أن يشغل أي منصب فيها. كما يصبح من نافلة القول إن جميع هذه السلطات الثلاث التي سوف ينحصر فيها الاقتراح تستمتد سلطاتها من الشرعية الثورية، ولهذا وسمناها بميسم "الثورية" في تسميتها.

مجلس السيادة الثوري
يمثل المجلس الثوري سيادة البلاد ويتكون في أعضائه بطريقة رمزية تعمل على الاعتراف بالمظالم التاريخية والحالية التي تعرضت لها العديد من قطاعات الشعب السوداني. في هذا الصدد، يُقترح أن يتم اختيار أعضاء هذا المجلس على أساس المناطق، وبوجه خاص المناطق التي استهدفتها دولة الإنقاذ البائدة بحروبها وإفقارها. ويتكون من 7 أعضاء يمثلون الأقاليم التّالية: دارفور (شخص واحد يمثل كل المجموعات التي تعرضت للإبادة والتهجير القسري والاغتصاب الممنهج)، كردفان (شخص واحد يمثل جبال النوبة وأبيي بوصفها المناطق التي تعرضت للقتل الجماعي والحرب من قبل دولة الإنقاذ)، الشمالية (شخص واحد يمثل ضحايا السدود وتحديداً ضحايا سد مروي بوصفه يمثل كل الشمالية التي وقعت تحت طائلة السدود)، الشرق (شخص واحد يمثل ضحايا مجزرة بورتسودان التي كانت نموذجاً مبكرا للطريقة التي تعامل بها نظام الإنقاذ مع ثورة ديسمبر المجيدة ولا يزال)، الخرطوم (شخص واحد يمثل العاصمة المثلثة ويكون اختياره من المناطق التي برزت بوصفها رأس الرمح لهذه الثورة مثل بري والجريف شرق وود نوباوي وشمبات)، الإقليم الأوسط (يشمل المنطقة الواقعة بين النيلين ويمثلها شخص واحد منتدب من تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل)، والنيل الأزرق (ويمثلها شخص واحد تختاره المجموعات التي وقع عليها الاستهداف الممنهج لآلة الحرب تقتيلا وتهجيرا، وذلك بأعلى إقليم النيل الأزرق). ويكون خلف كل عضو في مجلس السيادة مجلس مصغر خاص به يتكون من عدد 10 أشخاص تتم تسميتهم بالتشاور مع أهل المنطقة.

المجلس التشريعي الثوري
يتكون هذا المجلس من القوى الثورية بمعنى القوى التي شاركت بفاعلية في الثورة الشعبية التي بدأت بأواخر شهر ديسمبر إلى اليوم الراهن، دون أن تكون لها أي تحالفات مع نظام الإنقاذ. يتكون هذا المجلس التشريعي الثوري من 60 عضوا. وتكون مهامه اتخاذ القرارات الثورية اللازمة بموجب الشرعية الثورية ومن ثم إضفاء الصفة الرسمية لها. علينا تذكير الشعب بمقولة الصادق المهدي الذي سئل لماذا حكم طيلة سنوات 1986م – 1989م تحت قوانين سبتمبر 1983م برغم مقولته في الفترة الانتقالية بأنها لا تساوي المداد الذي كتبت به. جاء قوله بأن تغيير تلك القوانين كان يفترض أن يتم في فترة الشرعية الثورية (أي في الفترة الانتقالية)، وليس في مرحلة الشرعية الدستورية ممثلة في فترة الحكم الانتخابي الديموقراطي. وعليه، هذا ما يتوجب علينا فعله الآن ونحن على أعتاب الفترة الانتقالية ذات الشرعية الثورية. ولهذا يجب أن نطالب من الآن، والثورة لا تزال مشتعلة، بأن تُتخذ في الفترة الانتقالية القرار التاريخي بالعودة بقوانين البلاد إلى مرحلة ما قبل القوانين الإسلامية، أي العودة إلى قوانين 1974م/1975م (بالطبع بعد معالجة بعض وجوهها المتعلقة بشكل الحكم من قبيل رئاسية الدولة أم برلمانيتها). هذا بجانب صياغة الدستور وإجازته في استفتاء شعبي (دون أن يوكل أمره إلى فترة الشرعية الدستورية كونها قد تكون عامرة بالخلافات اللولبية بسبب الحكومات الائتلافية وضعفها وعدم اتفاق كلمتها كما شهدنا ذلك من قبل). وكذلك إحقاق الحق بإلغاء سحب الجنسية من ملايين السودانيين الذين تعود أصولهم الإثنية لدولة جنوب السودان بينما لم يشاركوا بتسجيل أسمائهم أو بالتصويت في استفتاء جنوب السودان. وكذلك ترتيب الأوضاع مواطني دولة جنوب السودان الشقيقة لاستعادة الوحدة على أسس جديدة ولو باتحاد دولتين مستقلتين، بأن يبدأ ذلك بإلغاء استثناء مواطني جنوب السودان من الحق الدستوري في ازدواجية الجنسية. ثم بجانب كل هذا إجازة قوانين المحاسبة والمحاكمات الخاصة برومز الإنقاذ وخلافها.
يتكون هذا المجلس على النحو التالي (مع ضرورة التمثيل الكافي والعادل للمرأة والشباب بحيث ترجح كفتهم عبر التمييز الإيجابي): تجمع المهنيين (20 عضوا)؛ لجان المدن والأحياء والقرى (25 عضوا)؛ القوى السياسية والقطاعية الموقعة على بيان "االحرية والتغيير" أعضاء)؛ الحركة الشعبية لتحرير السودان (عضو واحد من أعضائها المدنيين بالداخل)؛ حركة تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد النور (عضو واحد من أعضاءها المدنيين بالداخل)؛ مقعد للشرطة؛ مقعد للجيش؛ مقعد للأمن.

مجلس الوزراء
يتكون مجلس الوزراء من التكنوقراط المشهود لهم بالكفاءة العالية والتماسك الثوري والنزاهة والعفة، ويقوم المجلس التشريعي الثوري باختيارهم. ويكون لكل وزير مجلس استشاري يتكون من 10 أشخاص من ذوي الكفاءة يقوم المجلس التشريعي الثوري باختيارهم ويكون إجماعهم حول السياسات ملزما للوزير المعني. تكون الوزارات مركزة تلافيا للتضخم في الخدمة المدنية. بمجرد اختيار الوزراء ومجالسهم الاستشارية، يطلب الوزراء من العاملين بالخدمة المدنية، كل واحد منهم مما يليه من وزارة، بتنظيف وزارتهم وذلك بإعطائهم فرصة نادرة لإثبات ثوريتهم وذلك بتسمية الفاسدين وذوي التمكين السياسي وإبعادهم وربما محاسبتهم بحسب كل حالة. بعد ذلك مباشرةً تتم دعوة جميع من فصلوا للصالح العام للتبليغ في المكاتب التي فصلوا منها متى ما آنسوا في أنفسهم الرغبة والقدرة على ذلك.
يتكون مجاس الوزراء من التالي:
أولا: رئيس الوزراء
ثانيا:
1) وزارة المالية والاقتصاد والتجارة
2) وزارة الدفاع
3) وزارة
4) وزارة الداخلية
5) وزارة الخارجية والمغتربين
6) وزارة العدل
7) وزارة الحكم المحلي
8) وزارة الزراعة والأغذية
9) وزارة الري والموارد المائية
10) وزارة المرافق العامة (المياه والكهرباء وغيرها)
11) وزارة الإعلام والاتصالات
12) وزارة الثقافة والمرأة والشباب والرياضة
13) وزارة الصحة
14) وزارة الصناعة
15) وزارة التربية والتعليم
من بين هذه الوزارات، تقف وزارة الحكم المحلي في قمة الهرم بحكم أنها هي التي ستقوم بتسيير شئون الأقاليم (المديريات) عبر الضباط الإداريين، المفصولين منهم من الخدمة تعسفيا بغرض التمكين بصورة خاصة، في استعادة للنظام القديم بما فيه تدوير كبار الموظفين بين المديريات، اكتسابا منهم للخبرة، ثم تشربا منهم لثقافات المجموعات التي يعايشونها. كما يقف جهاز الأمن كوحدة مستقلة تتبع لمجلس الوزراء. وتقف وزارة المالية والاقتصاد والتجارة متعاونةً مع وزارة الزراعة والأغذية، أمام تحدٍ كبير يتمثل في ضرورة العمل على تخفيف معاناة المعيشة ورفع الأجور بجانب العمل على النهوض بالبلاد اقتصاديا.
أدناه تلخيص لمهام مجلس الوزراء بصورة عامة:
العمل على عقد المؤتمر الدستوري وصياغة دستور يحفظ حقوق الجميع ويُستفتى عليه الشعب ثم على أساسه تجري الانتخابات العامة على أن تسبق ذلك وخلال الفترة الانتقالية إجراء انتخابات الحكم المحلي. ثم العمل الجاد على وقف التدهور الاقتصادي وتعافيه بوقف الفساد وتوظيف موارد البلاد العديدة توظيفاً إسعافياً ثم العمل على وضع الخطط التنموية متوسطة وبعيدة المدى مع توظيف مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث والدراسات لتخدم كهيئات استشارية لمجلس الوزراء الثوري في الفترة الانتقالية. وكذلك العمل على وقف الحرب الأهلية وتحقيق السلام المنشود انطلاقاً من الاعتراف بأن الحرب الأهلية نجمت عن مجمل السياسات غير الموفقة وغير الوطنية السابقة، كما تقف خلفها مطالب مشروعة بعدم الاستجابة لها تصبح الحرب الأهلية في حكم الضرورة.
بعد هذا يأتي الجانب العدلي ويشمل صياغة قوانين ومحاكم خاصة بموجبها تتم محاكمة سدنة نظام الإنقاذ ورموزه وجيش المفسدين وناهبي موارد البلاد خلال ثلاثين عاما. العمل على استرداد الأموال المنهوبة بالداخل والخارج ومطاردة سارقي أموال الشعب داخل البلاد وخارجها وتقديمهم للمحاكمات العادلة. ثم تأتي مهمة استعادة علاقاتنا الخارجية القائمة على المصالح المشتركة وعدم التدخل في شئون الآخرين ومد يد الصداقة وتدعيم السلام الإقليمي والعالمي انطلاقاً من إعادة النظر في مجمل الاتفاقيات الخارجية التي أرستها دولة الإنقاذ المارقة. من ثم يأتي العمل الجاد على إعادة بناء القوات النظامية من جيش وبوليس وأمن وتفكيك المليشيات السياسية والإثنية بما من شأنه أن يحافظ على سلامة الشعب ووحدة تراب وسيادة جمهورية السودان.أما بخصوص التعليم والخدمة المدنية والصحة، فينبغي أولاً إعادة بناء مؤسسات التعليم العام والعالي ومجانيته بجانب تأهيلها لتلعب دورها في إنتاج المعرفة والعلم ورفع القدرات وإنتاج الكوادر البشرية المؤهلة. وكذلك إعادة بناء الخدمة المدنية وتطهيرها من العناصر الإنقاذية التمكينية ومن ثم جعلها الجهاز الرئيسي في إدارة شئون الدولة في العاصمة والأقاليم بدلاً من الأجهزة المترهلة فيما يعرف زوراً وبهتاناً بالحكم اللامركزي من معتمدين وولاة ووزراء ومستشارين .. إلخ. ثمّ أيضاً إعادة بناء المؤسسات الخدمية الصحية من مستشفيات ومراكز صحية وشفخانات .. إلخ مع كفالة حق العلاج المجاني. وكذلك اتخاذ كل الخطوات اللازمة في سبيل بسط سيطرة وسيادة الدولة على الأراضي التي خرجت عن سيادة الدولة السودانية عن طريق التغول وجراء تفريط نظام الإنقاذ المارق في السيادة الوطنية.ثم تأتي واحدة من أخطر المهام الثورية، ألا وهي إجراء المحاكمات العادلة والنافذة لرموز وقيادات دولة الإنقاذ وكذلك لرموز الفساد والمروجين للحرب ولأمرائها وقادة المليشيات السياسية والإثنية في دارفور وجميع مناطق الحروب والنزاعات والاقتصاص لجميع جرائم القتل الجماعية والفردية غير القانونية أينما وقعت في السودان.ثم أخيرا وليس آخرا، العمل مع دولة جنوب السودان الشقيقة لإحلال السلام في شقي الوطن وإلغاء استثناء مواطني دولة جنوب السودان من الحق الدستوري في التمتع بازدواجية الجنسية ومن ثم السعي لاستعادة الوحدة عبر اتحاد كونفيدرالي بين دولتين مستقلتين.

سياسات إسعافية مقترحة
هناك مقولة يرددها البعض بأن نظام الإنقاذ يبدو كما لو لم يضمن فقط سقوطه كنظام فاشل، بل ضمن كذلك سقوط كل الأنظمة التي سوف تعقبه، ذلك بموجب تدميره لكل بنيات الإنتاج واستفحال الفساد المؤسس بما من شأنه استعصاء، بل ربما استحالة، أن يحقق أي نظام بعده النهضة والوقوف مرة أخرى من بين هذا الحطام. المؤكد أنه بمجرد سقوط نظام الإنقاذ سوف يتوجب على النظام الذي سيخلفه أن يقوم بتوفير الخبز والوقود، بجانب توفير الأمن، فضلا عن العمل على الانتقال من مرحلة الإنقاذ الديكتاتورية الفاشية، الفاشلة وصولا إلى دولة الثورة الشعبية الديموقراطية التي تعبر عن كل قطاعات الشعب الشعب السوداني. وهذا يقتضي بالضرورة أن من يقودون هذه الثورة يفترض فيهم أنهم يعرفون ما ينبغي عمله من حيث تخطيط السياسات من جانب، ثم طريقة وكيفية إنفاذها. وهذا ما نحن بصدده من اقتراحات.

العلاقات الخارجية
من أخطر المهام التي ينبغي لحكومة الثورة الشعبية أن تضطلع بها هي انتهاج سياسة خارجية متوازنة تبعد عن المحاور دون استعداء أيٍّ منها. فاليوم السياسة الداخلية لأي بلد من بلدان العالم الثالث هو أيضا شأن دولي. وليس أخطأ في هذا المجال من استعداء الدول الكبرى التي دفعتها مصالحها، بجانب ضعف نظام الإنقاذ، للتدخل في شئوننا. وتكمن خطورة هذه المرحلة الانتقالية في أن نظام الإإنقاذ غير الوطني قام بعرض البلاد في المزاد الدولي putting Sudan on sale، بحيث لا نعلم الآن بصورة محددة ما تم بيعه والجهاة (أو الجهات) التي قامت بالشراء. ويعني هذا أن هؤلاء المشترون الافتراضيون (وهم في أغلب الأحوال الدول الكبرى بجانب دول المنطقة العربية المجاورة) لا يريدون الآن أن يسقط نظام الإنقاذ قبل أن يعرفوا الجهة التي ستخلفه وعما إذا كانت ستلتزم بالاتفاقيات التي وقعها معها نظام الإنقاذ المباد. وليس أدل على هذا من موقف روسيا في مجلس الأمن وتدخلها للحيلولة دون مناقشة ما يجري في السودان من تقتيل مجاني للمتظاهرين المدنيين. ويعني هذا أن أن هناك لاعبين آخرين من خارج السودان يرون أن تغيير نظام الإنقاذ لم يعد شأنا داخليا، بل هو شأن إقليمي ودولي أيضا.
ولكن هذا لا يعني رهن عملية الثورة بالتسويات الدولية والإقليمية. فطالما أن الدول الكبرى لا تملك لاعبين داخليين على الأرض، فإن إنجاز الثورة بالطريقة التي تضمن تحقيق مصالح الشعب السوداني قبل كل شيء تصبح أمرا ممكنا طالما تسلحنا بالوعي الثوري اللازم لإنجاز الثورة. ولكن التوفيق بين هاتين العمليتين (تأمين مكاسب الثورة من جانب وتأمين عدم معاداة الدول الكبرى) يستلزم ما يشبه "اللعب بالبيضة والحجر"، ذلك من حيث التمسك بمكاسب الثورة والعمل على تحقيق أهدافها العليا من جانب، ومن الجانب الآخر عدم استعداء القوى العظمى حتى لو سعت لعدائنا. وهذا يستدعي توافر كفاءات دبلوماسية عالية الخبرة وفي نفس الوقت ثورية الانتماء. وتكمن خطورة وزارة الخارجية والمغتربين في أنها، متعاونةً مع الجاليات السودانية في دول المهجر بشرقيها وغربيها، ثم متعاونةً مع وزارة المالية والاقتصاد والتجارة، سوف يقع عليها عبء معالجة الديون الخارجية، فضلا عن علاقة السودان بالعالم أجمع.
إلا أن أهم من كل هذا ما يلي معاش الناس من خبز وصحة وتعليم وأمن، ثم القدرة الإدارية العبقرية على "حلحلة" مشاكل الشعب اليومية. فماذا يا ترى يوجد بأيدي الحكومة الثورية لتقوم بهذا الواجب على أكمل أوجه؟ هناك جوانب محددة لو تمكنت الحكومة الثورية من تأمينها، فإنها تكون قد أوفت بما يليها من مسئولية، وهي ستة وجوه: تبدأ أولا بالخبز، ثم الصحة، وبعدها الغرامات، فالفساد، ثم المحروقات، وأخيرا الصادرات كيفما كانت ولو كانت رمل الصحراء. أدناه بعض المقترحات المفتوحة للنقاشات بخصوص هذه المواضيع الثلاثة.

الخبز .. الخبز!
هذه معضلة أخرى سوف تواجه الثورة منذ لحظة سقوط نظام الإنقاذ البائد إلى حين انتخاب حكومة الشرعية الدستورية. في هذا دعونا نتأمب تاريخانية الخبز في بلادنا في مرحلة ما بعد الاستعمار. بحلول نظام الفريق عبود (1958 – 1964)، بدأت المعونات الأمريكية تتدفق على البلاد، ذلك بعد أن رفضتها كل الأنظمة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال. أولى أوجه المساعدات الأمريكية كانت منحات القمح بلا مقابل لعدة سنوات. بعد ثورة أكتوبر الشعبية في عام 1964 تقلصت فترة القمح المجانية وهكذا رويدا، رويدا حتى أصبحت فاتورة القمح جزءا أساسيا من فاتورة الضروريات الغذائية. وبعد، في مرحلة الثورة، ما الذي ينبغي علينا اتخاذه؟ ببساطة إيقاف استيراد القمح بالمرة ولو اضطر الناس لأن يأكلوا الفتريتة بأن "يعوسوها كسرة" و"يموصوها موية". وللعلم، فإن الفتريتة أكثر فائدة للإنسان من القمح بمجمل أنواعه؛ فالقمح مليء بالمادة الغروية Glutting وهو السبب الرئيسي في كل أمراض العصر من سكري وضغط وقلب وشرايين .. إلخ. متساوقا مع هذا يأتي الموقف من السكر بوصفه أحد أكبر المسئولين عن ذات الأمراض المشار إليها أعلاه. وعليه، ينبغي، أولا، تنوير الشعب بهذه المضار، وثانيا تنويره بأن أي نقص في سلعة السكر لن يعالج بالاستيراد مهما بلغت درجة النقص فيه.

الصحة
ينبغي اتخاذ قرار ثوري بمجانية العلاج بما يمهد الطريق لاستعادة دولة الرعاية بدلا عن دولة الجباية. من المؤكد أن المستشفيات العامة، شأنها في هذا كشأن جميع المرافق العامة، قد تعرضت للتدمير الممنهج والمقصود (من قبيل سياسات مامون حميدة في إغلاق المستشفيات الحكومية واستبداله بمستشفياته الخاصة). وبالرغم من أن اتخاذ القرار لا يعني توفر الخدمات الطبية، إلا أن استراتيجة اتخاذ القرار تكمن في أنه رسميا سيقف بمثابة علامة فارقة تمايز بين دولة الرعاية المرجوة، ودولة الجباية البائدة.

دولة الغرامات الواجبة بدلا عن دولة الجبايات المنهوبة
بوصفها دولة تنتمي للاقتصاد الريعي وما يتبع من ضرائب ومكوس، كان من الطبيعي لدولة الإنقاذ أن تصل إلى الغاية التي ما بعدها غاية من حيث التفنن في جمع الضرائب والمكوس. تفوقت الإنقاذ على سوء الظن عندما تجاوزت ذلك بأن سعت إلى جمع الضرائب والمكوس من النساء المحتطبات عصرا وعشيا. وفي هذا قال الشاعر:
حكومة السجم يا خايسة .. وكيلك خايب
تربطي للعوين في الحطب! .. شن جايب؟
ولكن كيفما كان رأينا في الجبايات، لا يمكن إنكار أنها كانت تقوم "بحلحلة" مشاكل يومية لا تني تتكرر وتتردد على مكاتب الحكومة ممثلة في أدنى مكاتبها. بمجرد انتصار الثورة سوف يتم إيقام هذه الجبايات اليومية التي كانت تدر على الخزينة قدرا كبيرا من المال. نعم، كانت أغلب تلك الأموال يتم "تجريفها" في قنوات الفساد. ولكن لا مجال لهذا أن يحدث في حكومة الثورة الشعبية التي ستعقب نظام الإنقاذ المباد. ولكن السؤال الملح هو: من أين يمكن أن نعوض تدفق تلك الأموال اليومية التي من المؤكد أنها كانت تعالج العديد من القضايا والمشكلات اليومية؟
الإجابة على هذا السؤال سهلة ومتاحة دون أن نتعب ظهر المواطن الفقير بأي جبايات غير ضرورية. إنها مقاضاة سائقي السيارات بغير ما مسئولية وبطريقة تنم أن غالبيتهم يقودون سياراتهم كما لو كانوا يقودون الحمير، ذلك من حيث ركن سياراتهم ومن حيث دخول الشارع، بجانب تجاوز السرعة المسموحة في الشارع وضرورة التقيد بها. بالطبع، فإن ملاك وسائقي السيارات يعتبرون من الفئات المميزة اقتصاديا، وعليه لا مندوحة من جعلهم يدفعون أخطاء ما يقومون به. والجدير بالذكر أن الفوضى في هذا المجال قد بلغت درجة لا يمكن تخيلها. وعليه، نقترح أن تكون هناك تشريعات فورية تقضي بغرامات عالية للمخالفات المرورية من طريقة إيقاف وركن السيارة غير القانونية، فضلا عن ضرب "بوري" بطريقة مزعجة وخاصةً في الليل وأمام المستشفيات وخلافه مما كان معمولا به في مرحلة ما قبل الإنقاذ، بجانب غرامات أعلى من ذلك بخصوص الترخيص ورخص القيادة .. إلخ. هذه الغرامات من المؤمل أن تفي بما كانت تدره مجمل الغرامات العشوائية، أو بعضها، لكنها في هذه الحالة سوف تذهب لمصلحة المواطن.
ما ذكرناه هنا لا يعدو كونه مجرد نموذج في كيفية تدبر أمر الغرامات اليومية بما يخدم مصلحة الوطن ومصلحة الثورة ويؤدي إلى تكريسها. وكما يقال، الشيء بضده يعرف! فإذا كانت الجبايات التي لا تخدم المواطن هي سمة نظام الإنقاذ، فإن الغرامات الواجبة (وليس الجبايات) هي التي سوف تفعل فعلها في سبيل تجريد المواطنين وانتشالهم من عادات الإنقاذ البائدة. أما من يقاوم كل هذا، فعليه أن يلوم نفسه.

الفساد والرقابة الشرطية والأمنية وغيرها
الكثير من قطاعات الشعب فقدت ثقتها بالكامل أو جزئيا في جهاز الشرطة. وكما يقال هذا للشرطة، يقال لباقي توابعها من
سجون ومرور وخلافه، حتى القضاء. وقد أثار الكثيرون العديد من التساؤلات بخصوص كيفية تصحيح الوضع في جهاز الشرطة وما قد صار يتبعها من قوات (مثل قوات السجون وحرس الصيد وخلافه). الموضوع أيضا بسيط! إذ ليس هناك أيسر من معالجة أوجه الفساد! كيف؟ تصوروا معي في زمن العولمة هذا، وبحكم المد الثوري، أن فريقا من الإعلاميين المتطوعين (ولاحقا المستوظفين رسميا) يقومون بتصوير رجل شرطة فاسد يتلقى رشوة مسجلة بالفيديو، ثم يبث هذا الفيديو في جميع القنوات التلفزيونية بجانب المواقع الإسفيرية المعنية، وما يتبع ذلك من محاسبة ومعاقبة! تخيلوا النتيجة! ترى كم من الفيديوهات المسجلة والموثقة سوف نحتاج كيما يحذر الآخرون من مغبة الارتشاء؟ وبالطبع، هذا لا يعني أي وضع تسامحي مع الذين يثبت ارتشاؤهم، بل ستقف العقوبات بحقهم كدليل على أن الثورة الشعبية تعني ما تقوله.

الطاقة والمحروقات
تشمل الطاقة، بصورة إجمالية، الكهرباء بمختلف استخداماتها، بجانب المحروقات البترولية مثل الجازولين والبنزين، بجانب الغاز الذي يستعمل في الوقود، ثم وقود الطائرات وخلافه. لقد ظلت بلادنا تعاني من شح في هذه الحروقات منذ استقلال دولة جنوب السودان. وبالطبع، لا مجال للخوض في أسباب هذه الأزمة بخلاف سوء تدبير دولة الإنقاذ وقلة ذكائها في تقدير تداعيات انفصال جنوب السودان. كما لا يمكن أن نعتمد على الهبات من دول الجوار أو خلافها. إذ ينبغي علينا أن نضع أسوأ الاحتمالات. من المؤمل أن تنفرج هذه الأزمة بمعالجة أصول الأزمة المتمثلة في الانفصال الذي أقامت شروطه دولة الإنقاذ بما لم يدع مجالا للجنوبيين من بد للانصياع له. وبما أن هذه المسألة قد تأخذ وقتا ربما يطول، فإن حكومة الثورة الشعبية لا يمكن أن تننتظر الحلول من السماء. وعليه، لا يبقى غير العمل بموجب المثل القائل: لا بد مما ليس منه بد! على حكومة الثورة أن تبذل كل ما في وسعها من حيث محاصصة الوقود للسيارات الخاصة بموجب كروت، على أن تمنح الأولوية للمواصلات العام. ولكن إذا لم تجدِ هذه السياسة، فعدها لا يبقى غير الكي. هنا ينبغي وقف صرف جميع أنواع البترول من جاز وبنزين (بخلاف بنزين الطائرات والغاز ذي الاستخدام المنزلي) إلا للمواصلات العامة بجانب خدمات الإسعاف. بالطبع، سوف يتطلب هذا القرار استجلاب مجموعة كبيرة للغاية من البصات العامة وذلك في فترة الستة شهور الأولى (إن لم يكن في الثلاثة شهور الأولى أو الأربعة). وهنا نعني وزراء الدولة حيث يتوجب عليهم أن يذهبوا إلى مواقع عملهم بالترحيل الجماعي. وفي هذا سوف يتساوى جميع أفراد الشعب السوداني، بدلاً من فوز بعضهم بالامتيازات على حساب البعض.

الصادرات
ما من دولة انهارت عملتها إلا وكان خلاصها في تكثيف صادراتها وتقليل الإجراءات في هذا المجال. فالمعادلة البسيطة تقول بالآتي: عملة ضعيفةX صادرمحلي = عائد جيد بالعملة الصعبة. وهذا يعني تشجيع التصدير بكل أنواعه مع ضبطه. هذا في المرحلة الأولى، إلا أن على دولة الثورة أن تعمل على تنظيم تصدير هذه المحاصيل الأولية بغية تصديرها بعد إخضاعها للمعالجة الأولية ريثما تتطور هذه المعالجة لتبلغ المرحلة الثانية، ألا وهي تصديرها بعد معالجتها أولياً، ثم رويداً رويدا تتم معالجتها بصورة كاملة. وبالطبع فإن التكلان بعد الله على الموارد الغنية والمتعددة التي يتمتع بها السودان. فمن المفترض ألا تستمر المعاناة وربط الأحزمة على البطون لأكثر من موسمين إنتاجيين. والتحدي الأكبر هنا هو حسن الإدارة والتدبير.

وبعد؛
هذه بعض مقترحات لا غير. لا أزعم أني أعرف أكثر من غيركم، كما لا أزعم بأن لي أي دعم من أي جهة ما. هي نصيحة لله وللوطن أمحصها في هذا الوقت الذي تنازعته تيارات الطموحات الشخصية من جانب والطموحات التنظيمية من الجانب الأخر. هي مفاكرة لوجه الوطن لا غير، والمجد للشعب السوداني العظيم!
محمد جلال أحمد هاشم
19 يناير 2019م

No comments: