Thursday, July 14, 2011

هل هناك جنوبيون في شمال السودان؟

محمد جلال هاشم

توسيع لمقال نُشر بالجزيرة.نت في يوم 31 أبريل 2011م

(http://www.aljazeera.net/NR/exeres/BFF8158D-A4DD-4759-AF09-0FECD5BED538.htm)

خلع الجنسية جماعياً: عش الدبابير

في يوم 22 يونيو من عام 2011م قامت وزارة العمل بتعميم منشور إداري لجميع مرافق الدولة، وذلك وفق قرار سابق لمجلس الوزراء، بالشروع فوراً في إجراءات فصل جميع الجنوبيين من العمل وذلك بحكم سحب الجنسية السودانية الشمالية منهم جراء انفصال الجنوب، وذلك إلى حين ترتيب أوضاعهم إما كأجانب أو بالعودة إلى وطنهم بجنوب السودان. بل أكثر من ذلك، قامت وزراة العمل بتعميم نفس المنشور إلى مصالح القطاع الخاص.

قبل ذلك بأسابيع أعلنت حكومة الخرطوم عزمها على تسريح 21 ألف جندي من الجيش السوداني بوصفهم جنوبيين. هؤلاء لن يكون في مقدورهم العودة إلى الجنوب، لعدة أسباب، أولها أنهم سلخوا حياتهم وهم يحاربون الجيش الشعبي (قوام جيش دولة الجنوب الآن)، ثم كيف يمكن أن يعودوا إلى بلاد لا يعرفون عنها شيئاً ليبدؤوا من الصفر، مع انعدام جميع فرص العمل وكسب القوت. ثم ها هي حكومة الخرطوم تعلن عن عزمها على معاملة ملايين الشماليين (عددهم على أقل تقدير 4 مليون ونصف) على أنهم أجانب لا يتمتعون بأي حقوق لمجرد أن اصولهم تعود إلى الجنوب. ويكمن الشرك في أن تعريف الجنوبي ليس واضحاً من ناحية قانونية بالمرة، فالدولة الشمالية تبدو كما لو كانت تتعامل مع هذا الأمر بطريقة غير قانونية ودون أي مسوّغ. ويطرح هذا الواقع سؤالاً حرجاً، ألا وهو: من هو الجنوبي، ومن هو الشمالي فيما انقسمت عليه دولة السودان؟

بالطبع يمكن لأي دولة أن تقوم بخلع جنسية فرد من مواطنيها، ولا يتم هذا إلا عبر حيثيات قانونية معقودة على الحالة الشخصية. إلا أنه لا يوجد أي أساس أو مسوغ قانوني به يمكن للدولة السودانية بالشمال أن تقوم بخلع الجنسية جماعياً من أي مجموعة استحقت المواطنة السودانية، ولا اعتبار هنا لاتفاقية نيفاشا التي على أساسها انفصل الجنوب. فهذه الاتفاقية قد قامت بتقديم تعريف دقيق لمن هو الجنوبي بحيث لا يتم أي انتهاك للحقوق الأساسية للمواطنة وحقوق الإنسان، إذ رهنت المواطنة بالقانون الساري في البلاد ثم بالاختيار. في هذا المقال سوف نناقش وضع من تسميهم الدولة "بالجنوبيين" في شمال السودان بعد قيام دولة الجنوب المستقلة. فقد وقعت حكومة الخرطوم بإجراءاتها هذه في شرك قانوني أشبه بعش الدبابير.

من الذي اختار انفصال الجنوب؟

هناك نظرة غير علمية وغير صحيحة مفادها تحميل الجنوبيين (وبخاصة الشماليين الذين تعود أصولهم إلى الجنوب) مسئولية اختيار الانفصال. وهذا خطل في الرأي كبير. إذ ينبغي تحميل المسئولية للجهات التي صنعت شروط الانفصال بحيث أصبح من المستحيل للجنوبيين أن يعيشوا في كنف الدولة الواحدة. ولكن، تمشياً مع هذا الرأي، لا يجوز تحميل الجنوبي الذي لم يلعب أي دور في اختيار الانفصال مسئولية ما آل إليه الأمر. لقد اختار أهل الجنوب المقيمون بالجنوب (وعددهم حوالي 8 مليون، صوّت منهم حوالي 4 مليون) زائداً عدد حوالي 80 ألف مواطن شمالي ينتمون لمجموعات إثنية أصولها مستوطنة بجنوب السودان، خيار الانفصال بدلاً عن الوحدة.

بهذا، وباستثناء الأجانب الرسميين، يصبح جميع من يوجدون بشمال السودان سودانيين شماليين. فكيف يمكن تحميل هؤلاء (أربعة مليون ونصف) مسئولية فعل لم يفعلوه؟

شهادة الجنسية والاستحالة اللوجستية والفنية للترحيل الجماعي

ولكن، بدءاً، ما هي القاعدة التي بموجبها سيتم تحديد من هو الجنوبي؟ بالطبع يمكن النظر إلى شهادة الجنسية السودانية باعتبارها فيصلاً في هذه المسألة وذلك بحكم أن سؤال القبيلة يعتبر محورياً في اختبار أحقية المتقدمين بطلب الحصول على الجنسية. ولكن قيمة شهادة الجنسية تقل كثيراً إذا علمنا أن جميع الذين حصلوا على شهادات الجنسية منذ الاستقلال لم يتجاوز عددهم 12 مليون من جملة أربعين مليون سوداني، بما فيهم الذين غادروا الحياة وانتقلوا إلى الآخرة. كما ليس من العملي أن تستوقف الدولة المواطنين في الشارع لفحص شهادات جنسياتهم وذلك لفرز من منهم ينتمي لقبائل مستوطنة بالجنوب. فمن منا حمل شهادة الجنسية منذ استخراجها؟ إذ ليس لها فائدة عملية ولا يُقبل بها كوثيقة من الدولة نفسها إلا في حالة استخراج جواز السفر. فضلاً عن هذا فقد تعرضت وثائق الجنسية السرية لتلف كبير، به ضاعت ملاين الملفات.

إلى هذا لا تملك الدولة بشمال السودان القدرة اللوجستية، فضلاً عن المسوّغ القانوني، لطرد ما يفوق الأربعة مليون مواطن ترى أن أصولهم تعود إلى قبائل بجنوب السودان. فهي من ناحية لوجستية قد عازتها هذه القدرة فيما يتعلق بالسودانيين الذين تعود أصولهم إلى غرب أفريقيا (يفوقون العشرة مليون)؛ إذ شهدت الساحة السودانية الرسمية في الماضي القريب العديد من المحاولات بهذا الشأن، إلا أنها جميعاً فشلت.

التعداد السكاني وإغفال بينة الإثنية

ليس لدى حكومة شمال السودان أي حق في أن تقوم بترحيل هذا العدد إذ ليس لديها أي سجل رسمي وفقه يمكنها أن تزعم بوجود عدد بعينه من أي إثنية تعود أصولها إلى جنوب السودان. فتعداد ما يسمون بالجنوبيين في آخر تعداد سكاني (بعد الاتفاقية) لم يتجاوز 500 ألف نسمة في شمال السودان. والجميع يعلم بخطأ هذا الرقم وأنه نتاج عدم دقة التعداد الذي دفع بأهل جنوب كردفان لرفضه والمطالبة بتعداد آخر كيما يسمحوا للانتخابات بأن تُجرى. من هؤلاء الـ 500 ألف نسمة قام 160 ألف بالتسجيل للاستفتاء، فصوّت حوالي نصفهم لخيار الوحدة. فكيف يجوز، من جانب، تحميل هؤلاء انفصال الجنوب؛ وكيف يجوز، من جانب آخر، الزعم بأن تعداد هؤلاء يفوق رقم الأربعة مليون نسمة (على أقل تقدير)؟ فوفق أي سجل رسمي سوف تقوم الحكومة بهذا؟ ثم كيف سيكون في مقدور الحكومة تحديد ما إذا كان أيّ شخص ينتمي لقبيلة الدينكا أو النوير أو أي قبيلة مستوطنة بجنوب السودان؟ فقد رفضت الحكومة أن يتضمن التعداد السكاني أي معلومة متعلقة بالقبيلة والإثنية، في سابقة لم يشهد مثلها في أي تعداد حكومي على وجه الأرض. قامت الدولة بهذا متحديةً في ذلك جميع القوى السياسية، فضلاً عن جميع الآراء الفنية البحتة التي أشارت إلى وجوب اشتمال بينات التعداد على الإثنية والقبيلة.

بهذا حرمت الحكومة نفسها رسمياً من أن تصدع بأي رأي رسمي يفيد بأن عدد الدينكا أو الشلك أو النوير أو الباريا أو الأشولي بشمال السودان يبلغ كذا من الأرقام. على هذا لا يبقى أمام دولة الشمال غير السحنة لتحديد من هو الجنوبي، وهذا باب كبير في الفتنة لن يكون في مقدور دولة الشمال قفله إذا ما قامت بفتحه. كما ليس في مقدور دولة الشمال الصمود أمام الحملة المحلية والإقليمية والدولية التي سوف تتمخض بمجرد أن تشرع في ترحيل هؤلاء السودانيين الشماليين من أصول جنوبية. فتقنين مثل هذا السلوك كفيل بأن يثير زوبعة وعاصفة دولية متعلقة باستهجان هذا التمييز العنصري، وهي تهمة قد لحقت بالحكومات السودانية، وبنظام الإنقاذ على وجه التحديد.

من هو الجنوبي؟

إذا لم يكن هناك أيّ مسوّغ قانوني لدولة شمال السودان به تخلع جنسيّة الذين تعود بهم أصولُهم إلى جنوب السّودان، فكيف سيتم تعريف من هم "الجنوبيون". فهل كون أي شخص جنوبي تتحدد بالضرورة بانتمائه إلى إحدى القبائل المستوطنة بجنوب السودان، أي التي تعود أصولها إلى جنوب السودان؟ فعلي عبد اللطيف، قائد ثورة 1924م، يقع ضمن هذه المجموعات؛ والقائد البطل عبد الفضيل الماظ تعود أصوله إلى جنوب السودان؛ وكذلك عبد المجيد إمام رئيس القضاء الأسبق الذي رفض السماح بإطلاق الرصاص في وجه ثوار أكتوبر عام 1964م، ينتمي عرقياً لقبيلة الدينكا. ليس هذا فحسب، بل يمكن النظر إلى بعض القبائل السودانية، مثل الفلاتة والهوسا، على أنها تستوطن بجنوب السودان، مثل بحر الغزال، بنفس الدرجة التي تجعل منها قبائل مستوطنة بالقضارف وكسلا وشرق السودان بعموم، ثم بدارفور وكردفان، في شمال السودان. هذا فضلاً عن العديد من القبائل السودانية التي هاجرت إليه من بلاد الجوار، بما فيها المجموعات العربية، مثل الرشايدة الذين هاجروا من الجزيرة العربية أو الأقباط الذين هاجروا من مصر.

وعلى هذا يمكن لمجموعات إثنية موطنها الأصلي بجنوب السودان أن تكون متوطنة أيضاً بشمال السودان، ذلك طالما استدامت واستمرت إقامتها بالشمال لفترة كافية من الزمن تؤهلها لنيل المواطنة وفق قوانين الجنسية السودانية (خمس سنوات). فإذا كانت هناك فترة كافية بها يمكن للشخص الذي جاء إلى السودان وهو يحمل جنسية مغايرة أن يصبح سودانياً متى ما قضاها بالبلاد، فكيف وبأي حق يسقط هذا الحق عن الشخص الذي لم يأتِ إلى الشمال بوصفه أجنبياً، بل جاء إليه بوصفه جزءاً من وطنه، ومن ثمّ ظلّ يعيش به لنفس الفترة الكافية التي بموجبها يمكن للأجنبي أن يحصل على الجنسية السودانية؟ عليه، الشمالي هو ذلك السوداني الذي يعيش في شمال السودان مستحقاً بذلك المواطنة بصرف النظر عن خلفيته الإثنية؛ والجنوبي هو ذلك السوداني الذي يعيش بجنوب السودان مستحقاً المواطنة بصرف النظر عن خلفيته الإثنية.

حكومة الخرطوم وثقافة نقض العهود

باتخاذها هذه الإجراءات تكون حكومة الخرطوم قد تقضت عهداً آخر مهرته بخط يدها في سلسلة العهود التي درجت حكومات الخرطوم على نقضها. فمنذ نوفمبر 2010م وإلى الثالث عشر من مايو 2011م جرت مفاوضات بين الحركة الشعبية من جانب والمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) من جانب آخر في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تحت رعاية لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى برئتسة الرأئيس الأسبق لدولة جنوب أفريقيا ثابو امبيكي (لجنة امبيكي)، حيث تمخضت تلك المداولات والمفاوضات إلى ما يعرف بالاتفاق الإطاري. قام الاتفاق الإطاري على ثمانية نقاط اشتملت على حسم جميع المشاكل العالقة من إنجاز المشورة الشعبية بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والوصول إلى اتفاق بخصوص الترتيبات الأمنية، ثم إجراء استفتاء أبيي، وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والاتفاق حول موضوع النفط، وتطوير أوجه الاعتماد المشترك من تجارة إلى حرية الانتقال والحركة بشرية، ثم تبادل المعلومات الأمنية بما يضمن الأمن في الشمال والجنوب، والتحرك الفوري لوقف أي شكل من أشكال التصعيد وذلك بمشاركة الاتحاد الأفريقي. من بين النقاط التي تم الاتفاق عليها موضوع الجنسية.

فيما يتعلق بموضوع الجنسية اتفق الطرفان (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) على عدم اتخاذ أي قرارات بخصوص المواطنة أو الجنسية من شأنها التأثير سلباً على حياة المواطنين العاديين وعلى حقوقهم الأصيلة في المواطنة. فنص الاتفاق في هذا الصدد يقرأ: "بالتوافق مع نصوص اتفاقية السلام الشاملة، أكد الطرفان ثانيةً أن المواطنة أو الجنسية السودانية لأي شخص لن تتغير خلال الفترة المؤقتة لإنفاذ الاتفاقية، وأنه خلال هذه الفترة سوف يستمر جميع المواطنين السودانيين يحتفظون بالمواطنة والجنسية حيثما كانوا في القطر، وأنه لن توضع أي عوائق إزاء حريتهم في التنقل، أو في العمل، أو حصولهم على الخدمات العامة في أي مكان بالسودان". هذا ما قالته نصوص الاتفاق الإطاري الموقع بين المؤتمر الوطني من جانب وبين الحركة الشعبية من جانب آخر بخصوص المواطنة خلال الفترة المحددة لتطبيق اتفاقية السلام الشاملة. أما بخصوص الفترة التي تلي إجراء الاستفتاء، وفي حال قرر الجنوبيون الانفصال، فقد نص الاتفاق الإطاري على الآتي: "في حال حدوث أي تغيير في قوانين الجنسية أو المواطنة، اتفق الطرفان على وجوب أن تقوم الدولتان بالتأكيد على أن حقوق المواطنين لن تتأثر عكسياً، وأنه سيكون للمواطنين الحق في الاستمرار بالعيش في أيٍّ من القطرين، وذلك بما يتوافق مع القانون، في حال رغبتهم في أن يستمروا في أوضاعهم السابقة، وأنه سوف تمنح لهم الفترة الكافية في حال اختيارهم تغيير جنسيتهم وذلك بما يساعدهم على توفيق أوضاعهم الفردية".

هذا ما عاهدت عليه حكومة المؤتمر الوطني نفسها وعاهدت به الحركة الشعبية في فبراير من عام 2011م بأديس أبابا فيما يعرف بالاتفاق الإطاري وتحت إشراف لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى بقايدة الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو امبيكي. ويفهم من نصوص هذه الاتفاقية أن جنوبية السوداني من شماليته سوف تتحدد بالرغبة والتأهل للمواطنة وفق القانون. بهذا يصبح الشماليون من أصول جنوبية في حل من هذه المطاردة المحمومة التي تقوم بها دولتهم ممثلةً في حكومة الخرطوم والمؤتمر الوطني. فهم قد استحقوا المواطنة بحكم أن إقامتهم في الشمال تمتد لأكثر من خمسة أعوام؛ كما استحقوا هذه المواطنة بحكم أنهم قد مارسوا حقهم بالاختيار بين الجنسيتين، وهو الحق المكفول لهم في صلب الاتفاقية، وذلك عندما قرروا بمحض إرادتهم عدم المشاركة في التسجيل للاستفتاء. إذ لا يتجاوز عدد الذين سجلوا للمشاركة في الاستفتاء، وبالتالي يكونوا قد اختاروا أن يصبحوا جنوبيين، أكثر من 200 ألف مواطن. ما عدا ذلك يصبح الباقون، الذين يفوق عددهم الأربعة مليون، شماليين وإن كانت أصولهم تعود إلى جنوب السودان، بالضبط كما لدينا مجموعات ثقافية كاملة تعود أصولها إلى خارج السودان، والعرب أولهم.

ولكن، مع كل هذا، قامت حكومة الخرطوم، ودون أن يطرف لها جفن، بنقض هذا الاتفاق الذي وقعته قبل شهور قلائل. بل شرعت المصالح الحكومية قبل تعميم منشورة وزارة العمل في رد هؤلاء الشماليين (من أصول جنوبية) إلى أعقابهم متى ما تقدموا إلى أي مصلحة في سبيل الحصول على الخدمات الأساسية، مثل الأراضي والإسكان، العلاج، وباقي الخدمات التي تتيحها المصالح الحكومية لمواطنيها. فقد ظلوا يتلقون الرد التالي: لا حقوق لكم هنا؛ إذهبوا إلى دولتكم الجديدة!

حالة البدون والقانون الدولي

تنص جميع المواثيق الخاصة بحقوق الإنسان على حق المرء في وطن له، وذلك منذ لحظة ولادته. ولكن حالة اللا وطن (البدون) على وجه التحديد، قد حرمها القانون الدولي منذ إجازة معاهدة 1961م التي نصت على عدم قانونية حالة اللا وطن (البدون)، وهي المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1975م، والسودان موقّع ومصادق عليها. هذه المعاهدة لا تمنع فقط حالة البدون، بل تمنع الدول في أن تشرعن حالة البدون. وما نحن بصدده الآن محاولة حكومية رسمية لا لشرعنة حالة البدون فحسب، بل لصنعها من العدم. فالمادة رقم (1) في هذه المعاهدة تنص على الآتي: "ينبغي لأي دولة موقعة [على هذه المعاهدة] أن تضمن منح الجنسية لأي شخص مولود داخل حدودها في حال إذا ما كان سيصبح بلا دولة". وحتى إذا لم يكن الشخص سيصبح بلا دولة، تمنع المعاهدة سحب الجنسية على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الأساس السياسي". وهذا لعمري عين ما تقوم به حكومة الخرطوم في حق الشماليين الذين تعود أصولهم إلى جنوب السودان.

هناك حالة في القانون الدولي يطلق عليها "خلافة الدولة" State Succession، وذلك عندما تنبثق دولة جديدة من دولة سابقة الوجود ذات سيادة، وبالتالي تصبح لدينا دولتان. وهذا هو الوضع الذي ينطبق على السودان. في هذا الصدد نجد أن لقانون الدولي ينص صراحةً على الآتي وفق المادة رقم (1) في مجموعات المواد التي تبنتها مفوضية الأمم المتحدة للقانون الدولي: من حق أي شخص، في موعد وقوع خلافة الدولة، كان قد حصل على المواطنة في الدولة السابقة، بصرف النظر عن الطريقة التي حاز بها على هذه المواطنة، أن يحصل على واحدة من الجنسيتين على أقل تقدير". كما تنص باقي المواد على أنه ينبغي للدول المعنية (أو الدولتين المعنيتين) أن تبذل كل ما وسعها للحيلولة دون أن يتحول المواطنون إلى حالة اللا دولة في أعقاب أي ظروف متعلقة بخلافة الدولة؛ كما لا ينبغي أن يتم حرمان المواطنين من الاحتفاظ بجنسياتهم السابقة لحالة خلافة الدولة تحت أي حجة، أو حرمانهم من الحصول على أيٍّ من الجنسيتين.

ثورة البدون الآتية

سيواصل الشماليون (من أصول جنوبية) العيش في شمال السودان وليس من المتوقع أن يقبلوا بأي تضييق ممنهج ومؤسس من قبل الدولة، من قبل معاملتهم على أنهم "بدون". فهم ليسوا بحمائم وديعة تؤثر السلام والاستكانة؛ فقد خاضوا من الحروب ما فيه الكفاية لتقوية شكيمتهم النضالية. هذا فضلاً عن تميزهم بالمؤازرة القوية التي سوف تستمر في التنامي من جميع القطاعات السودانية التي تعمل من أجل استعادة الوحدة. فتواجد هؤلاء الجنوبيين بالشمال يمثل معملاً نفسانياً مفتوحاً لتحرير جوّانيّات السودانيين من الشوفينية والكراهية والعنصرية التي وسمت الشخصية الشمالية إزاء كل ما هو أفريقي أسود. فهذا بلد أفريقي أسود، وجميع سكانه من السود، وهكذا تنظر إليهم باقي شعوب المعمورة بما فيهم العرب العاربة، إلا أن منهم مجموعات كبيرة أعمى الله بصيرتها فإذا هي تنظر إلى نفسها على أنها ليست أفريقية وليست سوداء، بل تشمئزّ من كل ما هو أسود، وتسعى في في وسعها لتبييض بشرتها، فإذا هي في خاتمة مطافها وقد أصبحت كالغراب، لا هو احتفظ بمشيته ولا هو استطاع تقليد مشية الآخرين. إذن، ليس هناك ما يدعو الشماليين من أصول جنوبية لأن يقبلوا بأي اضطهاد أو تمييز، ذلك لأنّهم سوف يواصلون النّظر إلى أنفسهم على أنّهم مواطنون سودانيّون على قدم المساواة. ولكن هل سيجرّدهم الانفصال عمليّاً من أيّ رموز قياديّة من بني جلدتهم في ظل تنامي الوعي الإثني مؤخراً، وهي القيادات التي سوف تكون قد انضمّت إلى دولة الجنوب؟ لا، نرى ذلك. فالجواب على هذه النقطة الهامة تكمن في بروز الحركة الشعبية الشمالية التي سوف تعمل كظهير قيادي لهؤلاء الشماليين الذين تعود أصولهم إلى جنوب السودان، فضلاً عن مجموعات الهامش التي سوف تمد يدها إلى بعضها البعض في سبيل تحرير السودان من قبضة حزب المؤتمر الوطني، وذلك في جولة الحروب الأهلية التي اندلعت مؤخراً والتي من المتوقع أن تنتشر من اتجاه إلى آخر.

No comments: