Thursday, July 14, 2011
Beware Khartoum Government! Those are Northerners, not Southerners!
هل هناك جنوبيون في شمال السودان؟
محمد جلال هاشم
توسيع لمقال نُشر بالجزيرة.نت في يوم 31 أبريل 2011م
(http://www.aljazeera.net/NR/exeres/BFF8158D-A4DD-4759-AF09-0FECD5BED538.htm)
خلع الجنسية جماعياً: عش الدبابير
في يوم 22 يونيو من عام 2011م قامت وزارة العمل بتعميم منشور إداري لجميع مرافق الدولة، وذلك وفق قرار سابق لمجلس الوزراء، بالشروع فوراً في إجراءات فصل جميع الجنوبيين من العمل وذلك بحكم سحب الجنسية السودانية الشمالية منهم جراء انفصال الجنوب، وذلك إلى حين ترتيب أوضاعهم إما كأجانب أو بالعودة إلى وطنهم بجنوب السودان. بل أكثر من ذلك، قامت وزراة العمل بتعميم نفس المنشور إلى مصالح القطاع الخاص.
قبل ذلك بأسابيع أعلنت حكومة الخرطوم عزمها على تسريح 21 ألف جندي من الجيش السوداني بوصفهم جنوبيين. هؤلاء لن يكون في مقدورهم العودة إلى الجنوب، لعدة أسباب، أولها أنهم سلخوا حياتهم وهم يحاربون الجيش الشعبي (قوام جيش دولة الجنوب الآن)، ثم كيف يمكن أن يعودوا إلى بلاد لا يعرفون عنها شيئاً ليبدؤوا من الصفر، مع انعدام جميع فرص العمل وكسب القوت. ثم ها هي حكومة الخرطوم تعلن عن عزمها على معاملة ملايين الشماليين (عددهم على أقل تقدير 4 مليون ونصف) على أنهم أجانب لا يتمتعون بأي حقوق لمجرد أن اصولهم تعود إلى الجنوب. ويكمن الشرك في أن تعريف الجنوبي ليس واضحاً من ناحية قانونية بالمرة، فالدولة الشمالية تبدو كما لو كانت تتعامل مع هذا الأمر بطريقة غير قانونية ودون أي مسوّغ. ويطرح هذا الواقع سؤالاً حرجاً، ألا وهو: من هو الجنوبي، ومن هو الشمالي فيما انقسمت عليه دولة السودان؟
بالطبع يمكن لأي دولة أن تقوم بخلع جنسية فرد من مواطنيها، ولا يتم هذا إلا عبر حيثيات قانونية معقودة على الحالة الشخصية. إلا أنه لا يوجد أي أساس أو مسوغ قانوني به يمكن للدولة السودانية بالشمال أن تقوم بخلع الجنسية جماعياً من أي مجموعة استحقت المواطنة السودانية، ولا اعتبار هنا لاتفاقية نيفاشا التي على أساسها انفصل الجنوب. فهذه الاتفاقية قد قامت بتقديم تعريف دقيق لمن هو الجنوبي بحيث لا يتم أي انتهاك للحقوق الأساسية للمواطنة وحقوق الإنسان، إذ رهنت المواطنة بالقانون الساري في البلاد ثم بالاختيار. في هذا المقال سوف نناقش وضع من تسميهم الدولة "بالجنوبيين" في شمال السودان بعد قيام دولة الجنوب المستقلة. فقد وقعت حكومة الخرطوم بإجراءاتها هذه في شرك قانوني أشبه بعش الدبابير.
من الذي اختار انفصال الجنوب؟
هناك نظرة غير علمية وغير صحيحة مفادها تحميل الجنوبيين (وبخاصة الشماليين الذين تعود أصولهم إلى الجنوب) مسئولية اختيار الانفصال. وهذا خطل في الرأي كبير. إذ ينبغي تحميل المسئولية للجهات التي صنعت شروط الانفصال بحيث أصبح من المستحيل للجنوبيين أن يعيشوا في كنف الدولة الواحدة. ولكن، تمشياً مع هذا الرأي، لا يجوز تحميل الجنوبي الذي لم يلعب أي دور في اختيار الانفصال مسئولية ما آل إليه الأمر. لقد اختار أهل الجنوب المقيمون بالجنوب (وعددهم حوالي 8 مليون، صوّت منهم حوالي 4 مليون) زائداً عدد حوالي 80 ألف مواطن شمالي ينتمون لمجموعات إثنية أصولها مستوطنة بجنوب السودان، خيار الانفصال بدلاً عن الوحدة.
بهذا، وباستثناء الأجانب الرسميين، يصبح جميع من يوجدون بشمال السودان سودانيين شماليين. فكيف يمكن تحميل هؤلاء (أربعة مليون ونصف) مسئولية فعل لم يفعلوه؟
شهادة الجنسية والاستحالة اللوجستية والفنية للترحيل الجماعي
ولكن، بدءاً، ما هي القاعدة التي بموجبها سيتم تحديد من هو الجنوبي؟ بالطبع يمكن النظر إلى شهادة الجنسية السودانية باعتبارها فيصلاً في هذه المسألة وذلك بحكم أن سؤال القبيلة يعتبر محورياً في اختبار أحقية المتقدمين بطلب الحصول على الجنسية. ولكن قيمة شهادة الجنسية تقل كثيراً إذا علمنا أن جميع الذين حصلوا على شهادات الجنسية منذ الاستقلال لم يتجاوز عددهم 12 مليون من جملة أربعين مليون سوداني، بما فيهم الذين غادروا الحياة وانتقلوا إلى الآخرة. كما ليس من العملي أن تستوقف الدولة المواطنين في الشارع لفحص شهادات جنسياتهم وذلك لفرز من منهم ينتمي لقبائل مستوطنة بالجنوب. فمن منا حمل شهادة الجنسية منذ استخراجها؟ إذ ليس لها فائدة عملية ولا يُقبل بها كوثيقة من الدولة نفسها إلا في حالة استخراج جواز السفر. فضلاً عن هذا فقد تعرضت وثائق الجنسية السرية لتلف كبير، به ضاعت ملاين الملفات.
إلى هذا لا تملك الدولة بشمال السودان القدرة اللوجستية، فضلاً عن المسوّغ القانوني، لطرد ما يفوق الأربعة مليون مواطن ترى أن أصولهم تعود إلى قبائل بجنوب السودان. فهي من ناحية لوجستية قد عازتها هذه القدرة فيما يتعلق بالسودانيين الذين تعود أصولهم إلى غرب أفريقيا (يفوقون العشرة مليون)؛ إذ شهدت الساحة السودانية الرسمية في الماضي القريب العديد من المحاولات بهذا الشأن، إلا أنها جميعاً فشلت.
التعداد السكاني وإغفال بينة الإثنية
ليس لدى حكومة شمال السودان أي حق في أن تقوم بترحيل هذا العدد إذ ليس لديها أي سجل رسمي وفقه يمكنها أن تزعم بوجود عدد بعينه من أي إثنية تعود أصولها إلى جنوب السودان. فتعداد ما يسمون بالجنوبيين في آخر تعداد سكاني (بعد الاتفاقية) لم يتجاوز 500 ألف نسمة في شمال السودان. والجميع يعلم بخطأ هذا الرقم وأنه نتاج عدم دقة التعداد الذي دفع بأهل جنوب كردفان لرفضه والمطالبة بتعداد آخر كيما يسمحوا للانتخابات بأن تُجرى. من هؤلاء الـ 500 ألف نسمة قام 160 ألف بالتسجيل للاستفتاء، فصوّت حوالي نصفهم لخيار الوحدة. فكيف يجوز، من جانب، تحميل هؤلاء انفصال الجنوب؛ وكيف يجوز، من جانب آخر، الزعم بأن تعداد هؤلاء يفوق رقم الأربعة مليون نسمة (على أقل تقدير)؟ فوفق أي سجل رسمي سوف تقوم الحكومة بهذا؟ ثم كيف سيكون في مقدور الحكومة تحديد ما إذا كان أيّ شخص ينتمي لقبيلة الدينكا أو النوير أو أي قبيلة مستوطنة بجنوب السودان؟ فقد رفضت الحكومة أن يتضمن التعداد السكاني أي معلومة متعلقة بالقبيلة والإثنية، في سابقة لم يشهد مثلها في أي تعداد حكومي على وجه الأرض. قامت الدولة بهذا متحديةً في ذلك جميع القوى السياسية، فضلاً عن جميع الآراء الفنية البحتة التي أشارت إلى وجوب اشتمال بينات التعداد على الإثنية والقبيلة.
بهذا حرمت الحكومة نفسها رسمياً من أن تصدع بأي رأي رسمي يفيد بأن عدد الدينكا أو الشلك أو النوير أو الباريا أو الأشولي بشمال السودان يبلغ كذا من الأرقام. على هذا لا يبقى أمام دولة الشمال غير السحنة لتحديد من هو الجنوبي، وهذا باب كبير في الفتنة لن يكون في مقدور دولة الشمال قفله إذا ما قامت بفتحه. كما ليس في مقدور دولة الشمال الصمود أمام الحملة المحلية والإقليمية والدولية التي سوف تتمخض بمجرد أن تشرع في ترحيل هؤلاء السودانيين الشماليين من أصول جنوبية. فتقنين مثل هذا السلوك كفيل بأن يثير زوبعة وعاصفة دولية متعلقة باستهجان هذا التمييز العنصري، وهي تهمة قد لحقت بالحكومات السودانية، وبنظام الإنقاذ على وجه التحديد.
من هو الجنوبي؟
إذا لم يكن هناك أيّ مسوّغ قانوني لدولة شمال السودان به تخلع جنسيّة الذين تعود بهم أصولُهم إلى جنوب السّودان، فكيف سيتم تعريف من هم "الجنوبيون". فهل كون أي شخص جنوبي تتحدد بالضرورة بانتمائه إلى إحدى القبائل المستوطنة بجنوب السودان، أي التي تعود أصولها إلى جنوب السودان؟ فعلي عبد اللطيف، قائد ثورة 1924م، يقع ضمن هذه المجموعات؛ والقائد البطل عبد الفضيل الماظ تعود أصوله إلى جنوب السودان؛ وكذلك عبد المجيد إمام رئيس القضاء الأسبق الذي رفض السماح بإطلاق الرصاص في وجه ثوار أكتوبر عام 1964م، ينتمي عرقياً لقبيلة الدينكا. ليس هذا فحسب، بل يمكن النظر إلى بعض القبائل السودانية، مثل الفلاتة والهوسا، على أنها تستوطن بجنوب السودان، مثل بحر الغزال، بنفس الدرجة التي تجعل منها قبائل مستوطنة بالقضارف وكسلا وشرق السودان بعموم، ثم بدارفور وكردفان، في شمال السودان. هذا فضلاً عن العديد من القبائل السودانية التي هاجرت إليه من بلاد الجوار، بما فيها المجموعات العربية، مثل الرشايدة الذين هاجروا من الجزيرة العربية أو الأقباط الذين هاجروا من مصر.
وعلى هذا يمكن لمجموعات إثنية موطنها الأصلي بجنوب السودان أن تكون متوطنة أيضاً بشمال السودان، ذلك طالما استدامت واستمرت إقامتها بالشمال لفترة كافية من الزمن تؤهلها لنيل المواطنة وفق قوانين الجنسية السودانية (خمس سنوات). فإذا كانت هناك فترة كافية بها يمكن للشخص الذي جاء إلى السودان وهو يحمل جنسية مغايرة أن يصبح سودانياً متى ما قضاها بالبلاد، فكيف وبأي حق يسقط هذا الحق عن الشخص الذي لم يأتِ إلى الشمال بوصفه أجنبياً، بل جاء إليه بوصفه جزءاً من وطنه، ومن ثمّ ظلّ يعيش به لنفس الفترة الكافية التي بموجبها يمكن للأجنبي أن يحصل على الجنسية السودانية؟ عليه، الشمالي هو ذلك السوداني الذي يعيش في شمال السودان مستحقاً بذلك المواطنة بصرف النظر عن خلفيته الإثنية؛ والجنوبي هو ذلك السوداني الذي يعيش بجنوب السودان مستحقاً المواطنة بصرف النظر عن خلفيته الإثنية.
حكومة الخرطوم وثقافة نقض العهود
باتخاذها هذه الإجراءات تكون حكومة الخرطوم قد تقضت عهداً آخر مهرته بخط يدها في سلسلة العهود التي درجت حكومات الخرطوم على نقضها. فمنذ نوفمبر 2010م وإلى الثالث عشر من مايو 2011م جرت مفاوضات بين الحركة الشعبية من جانب والمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) من جانب آخر في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا تحت رعاية لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى برئتسة الرأئيس الأسبق لدولة جنوب أفريقيا ثابو امبيكي (لجنة امبيكي)، حيث تمخضت تلك المداولات والمفاوضات إلى ما يعرف بالاتفاق الإطاري. قام الاتفاق الإطاري على ثمانية نقاط اشتملت على حسم جميع المشاكل العالقة من إنجاز المشورة الشعبية بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والوصول إلى اتفاق بخصوص الترتيبات الأمنية، ثم إجراء استفتاء أبيي، وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والاتفاق حول موضوع النفط، وتطوير أوجه الاعتماد المشترك من تجارة إلى حرية الانتقال والحركة بشرية، ثم تبادل المعلومات الأمنية بما يضمن الأمن في الشمال والجنوب، والتحرك الفوري لوقف أي شكل من أشكال التصعيد وذلك بمشاركة الاتحاد الأفريقي. من بين النقاط التي تم الاتفاق عليها موضوع الجنسية.
فيما يتعلق بموضوع الجنسية اتفق الطرفان (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) على عدم اتخاذ أي قرارات بخصوص المواطنة أو الجنسية من شأنها التأثير سلباً على حياة المواطنين العاديين وعلى حقوقهم الأصيلة في المواطنة. فنص الاتفاق في هذا الصدد يقرأ: "بالتوافق مع نصوص اتفاقية السلام الشاملة، أكد الطرفان ثانيةً أن المواطنة أو الجنسية السودانية لأي شخص لن تتغير خلال الفترة المؤقتة لإنفاذ الاتفاقية، وأنه خلال هذه الفترة سوف يستمر جميع المواطنين السودانيين يحتفظون بالمواطنة والجنسية حيثما كانوا في القطر، وأنه لن توضع أي عوائق إزاء حريتهم في التنقل، أو في العمل، أو حصولهم على الخدمات العامة في أي مكان بالسودان". هذا ما قالته نصوص الاتفاق الإطاري الموقع بين المؤتمر الوطني من جانب وبين الحركة الشعبية من جانب آخر بخصوص المواطنة خلال الفترة المحددة لتطبيق اتفاقية السلام الشاملة. أما بخصوص الفترة التي تلي إجراء الاستفتاء، وفي حال قرر الجنوبيون الانفصال، فقد نص الاتفاق الإطاري على الآتي: "في حال حدوث أي تغيير في قوانين الجنسية أو المواطنة، اتفق الطرفان على وجوب أن تقوم الدولتان بالتأكيد على أن حقوق المواطنين لن تتأثر عكسياً، وأنه سيكون للمواطنين الحق في الاستمرار بالعيش في أيٍّ من القطرين، وذلك بما يتوافق مع القانون، في حال رغبتهم في أن يستمروا في أوضاعهم السابقة، وأنه سوف تمنح لهم الفترة الكافية في حال اختيارهم تغيير جنسيتهم وذلك بما يساعدهم على توفيق أوضاعهم الفردية".
هذا ما عاهدت عليه حكومة المؤتمر الوطني نفسها وعاهدت به الحركة الشعبية في فبراير من عام 2011م بأديس أبابا فيما يعرف بالاتفاق الإطاري وتحت إشراف لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى بقايدة الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو امبيكي. ويفهم من نصوص هذه الاتفاقية أن جنوبية السوداني من شماليته سوف تتحدد بالرغبة والتأهل للمواطنة وفق القانون. بهذا يصبح الشماليون من أصول جنوبية في حل من هذه المطاردة المحمومة التي تقوم بها دولتهم ممثلةً في حكومة الخرطوم والمؤتمر الوطني. فهم قد استحقوا المواطنة بحكم أن إقامتهم في الشمال تمتد لأكثر من خمسة أعوام؛ كما استحقوا هذه المواطنة بحكم أنهم قد مارسوا حقهم بالاختيار بين الجنسيتين، وهو الحق المكفول لهم في صلب الاتفاقية، وذلك عندما قرروا بمحض إرادتهم عدم المشاركة في التسجيل للاستفتاء. إذ لا يتجاوز عدد الذين سجلوا للمشاركة في الاستفتاء، وبالتالي يكونوا قد اختاروا أن يصبحوا جنوبيين، أكثر من 200 ألف مواطن. ما عدا ذلك يصبح الباقون، الذين يفوق عددهم الأربعة مليون، شماليين وإن كانت أصولهم تعود إلى جنوب السودان، بالضبط كما لدينا مجموعات ثقافية كاملة تعود أصولها إلى خارج السودان، والعرب أولهم.
ولكن، مع كل هذا، قامت حكومة الخرطوم، ودون أن يطرف لها جفن، بنقض هذا الاتفاق الذي وقعته قبل شهور قلائل. بل شرعت المصالح الحكومية قبل تعميم منشورة وزارة العمل في رد هؤلاء الشماليين (من أصول جنوبية) إلى أعقابهم متى ما تقدموا إلى أي مصلحة في سبيل الحصول على الخدمات الأساسية، مثل الأراضي والإسكان، العلاج، وباقي الخدمات التي تتيحها المصالح الحكومية لمواطنيها. فقد ظلوا يتلقون الرد التالي: لا حقوق لكم هنا؛ إذهبوا إلى دولتكم الجديدة!
حالة البدون والقانون الدولي
تنص جميع المواثيق الخاصة بحقوق الإنسان على حق المرء في وطن له، وذلك منذ لحظة ولادته. ولكن حالة اللا وطن (البدون) على وجه التحديد، قد حرمها القانون الدولي منذ إجازة معاهدة 1961م التي نصت على عدم قانونية حالة اللا وطن (البدون)، وهي المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1975م، والسودان موقّع ومصادق عليها. هذه المعاهدة لا تمنع فقط حالة البدون، بل تمنع الدول في أن تشرعن حالة البدون. وما نحن بصدده الآن محاولة حكومية رسمية لا لشرعنة حالة البدون فحسب، بل لصنعها من العدم. فالمادة رقم (1) في هذه المعاهدة تنص على الآتي: "ينبغي لأي دولة موقعة [على هذه المعاهدة] أن تضمن منح الجنسية لأي شخص مولود داخل حدودها في حال إذا ما كان سيصبح بلا دولة". وحتى إذا لم يكن الشخص سيصبح بلا دولة، تمنع المعاهدة سحب الجنسية على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الأساس السياسي". وهذا لعمري عين ما تقوم به حكومة الخرطوم في حق الشماليين الذين تعود أصولهم إلى جنوب السودان.
هناك حالة في القانون الدولي يطلق عليها "خلافة الدولة" State Succession، وذلك عندما تنبثق دولة جديدة من دولة سابقة الوجود ذات سيادة، وبالتالي تصبح لدينا دولتان. وهذا هو الوضع الذي ينطبق على السودان. في هذا الصدد نجد أن لقانون الدولي ينص صراحةً على الآتي وفق المادة رقم (1) في مجموعات المواد التي تبنتها مفوضية الأمم المتحدة للقانون الدولي: من حق أي شخص، في موعد وقوع خلافة الدولة، كان قد حصل على المواطنة في الدولة السابقة، بصرف النظر عن الطريقة التي حاز بها على هذه المواطنة، أن يحصل على واحدة من الجنسيتين على أقل تقدير". كما تنص باقي المواد على أنه ينبغي للدول المعنية (أو الدولتين المعنيتين) أن تبذل كل ما وسعها للحيلولة دون أن يتحول المواطنون إلى حالة اللا دولة في أعقاب أي ظروف متعلقة بخلافة الدولة؛ كما لا ينبغي أن يتم حرمان المواطنين من الاحتفاظ بجنسياتهم السابقة لحالة خلافة الدولة تحت أي حجة، أو حرمانهم من الحصول على أيٍّ من الجنسيتين.
ثورة البدون الآتية
سيواصل الشماليون (من أصول جنوبية) العيش في شمال السودان وليس من المتوقع أن يقبلوا بأي تضييق ممنهج ومؤسس من قبل الدولة، من قبل معاملتهم على أنهم "بدون". فهم ليسوا بحمائم وديعة تؤثر السلام والاستكانة؛ فقد خاضوا من الحروب ما فيه الكفاية لتقوية شكيمتهم النضالية. هذا فضلاً عن تميزهم بالمؤازرة القوية التي سوف تستمر في التنامي من جميع القطاعات السودانية التي تعمل من أجل استعادة الوحدة. فتواجد هؤلاء الجنوبيين بالشمال يمثل معملاً نفسانياً مفتوحاً لتحرير جوّانيّات السودانيين من الشوفينية والكراهية والعنصرية التي وسمت الشخصية الشمالية إزاء كل ما هو أفريقي أسود. فهذا بلد أفريقي أسود، وجميع سكانه من السود، وهكذا تنظر إليهم باقي شعوب المعمورة بما فيهم العرب العاربة، إلا أن منهم مجموعات كبيرة أعمى الله بصيرتها فإذا هي تنظر إلى نفسها على أنها ليست أفريقية وليست سوداء، بل تشمئزّ من كل ما هو أسود، وتسعى في في وسعها لتبييض بشرتها، فإذا هي في خاتمة مطافها وقد أصبحت كالغراب، لا هو احتفظ بمشيته ولا هو استطاع تقليد مشية الآخرين. إذن، ليس هناك ما يدعو الشماليين من أصول جنوبية لأن يقبلوا بأي اضطهاد أو تمييز، ذلك لأنّهم سوف يواصلون النّظر إلى أنفسهم على أنّهم مواطنون سودانيّون على قدم المساواة. ولكن هل سيجرّدهم الانفصال عمليّاً من أيّ رموز قياديّة من بني جلدتهم في ظل تنامي الوعي الإثني مؤخراً، وهي القيادات التي سوف تكون قد انضمّت إلى دولة الجنوب؟ لا، نرى ذلك. فالجواب على هذه النقطة الهامة تكمن في بروز الحركة الشعبية الشمالية التي سوف تعمل كظهير قيادي لهؤلاء الشماليين الذين تعود أصولهم إلى جنوب السودان، فضلاً عن مجموعات الهامش التي سوف تمد يدها إلى بعضها البعض في سبيل تحرير السودان من قبضة حزب المؤتمر الوطني، وذلك في جولة الحروب الأهلية التي اندلعت مؤخراً والتي من المتوقع أن تنتشر من اتجاه إلى آخر.
التغيير في السودان: لماذا أصبح حتمياً؟
محمد جلال هاشم
(مقال اعتذرت الجزيرة.نت عن نشره منتصف شهر فبراير 2011م)
حتمية التغيير
لواحدٍ وعشرين عاماً، وعبر انقلاب عسكري، ظل الإسلاميون يحكمون السودان دونما معارضة مدنية ملموسة، الأمر الذي لا يترك لهم فرصة للتحجج بأي تخذيل داخلي قد يكون سبباً في عدم تمكنهم من تحقيق ما جاؤوا من أجله. وقد شهدت سنوات حكمهم تدهوراً في كلّ شيء، بما في ذلك الوحدة الوطنية والسيادة على الأرض. واليوم بعد هذه الأعوام، أصبح من الواضح أن تسونامي التغيير الذي بدأ يكتسح المنطقة لا محالة سيطول نظام الحكم في السودان. فلماذا يا ترى أصبح تغيير نظام الحكم بالخرطوم أمراً حتمياً؟
دعونا نقوم بجرد حساب لنظام الخرطوم خلال هذه السنوات الواحدة والعشرين، وذلك باستعراض البيان الأول للانقلاب الذي أذاعه وقتها العميد عمر حسن البشير في معرض تبريره لقيامهم بالانقلاب. وهو الانقلاب الذي قام الإسلاميون بتدبيره دون أن يملكوا الجرأة أو الشجاعة للاعتراف به. فحسبما قاله زعيم الإسلاميين بالسودان ومهندس الانقلاب، الدكتور حسن الترابي: "قلت له [أي لعمر البشير]، إذهب أنت إلى القصر وأذهب أنا إلى السجن" وذلك تحرياً لخداع الشعب، بما يعني أن الشعب ما كان ليسمح باستيلائهم على السلطة لو هم أقرّوا بأنهم يقفون خلف ذلك الانقلاب. وقد ظل قادة الانقلاب ينفون بأغلظ الإيمان أن يكون الإسلاميون هم الذين دبروا الانقلاب. لهذا اختفى قيادات التنظيم الإسلامي، وقبعوا خلف الكواليس لحوالي عام، ثم شرعوا في الظهور رويداً رويدا.
ما سنقوم به هو مقارنة ما عليه الحال الآن ببعض مقاطع وردت في ذلك البيان الانقلابي الأول الذي أذاعه حينها العميد عمر البشير قائد الانقلاب.
الحرب الأهلية
جاء في البيان الأول، صباح 30 يونيو 1989م للعميد وقتها عمر البشير، أن "العبث السياسي" كان من أهم الأسباب التي دفعتهم للقيام بانقلابهم، ذلك لأنه "... قد أفشل الحرية والديمقراطية وأضاع الوحدة الوطنية بإثارته النعرات العنصرية والقبلية في حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد إخوانهم في دارفور وجنوب كردفان علاوة على ما يجري في الجنوب في مأساة وطنية وسياسية".
وقتها لم تكن الحرب الأهلية قد اندلعت في دارفور، إذ لم تتجاوز حد النزاعات القبلية. بعد ذلك في أخريات تسعينات القرن العشرين سوف تندلع الحرب الأهلية بدارفور لتصبح محرقة تحصد ما تقديره حوالي 300 ألف قتيل مدني، حسب الأرقام المعترف بها عالمياً، وذلك جراء حرب بالوكالة قامت بها جماعات عربية استقدمتها حكومة البشير من بلدان مجاورة. خذخ هي المحرقة التي أقر الرئيس عمر البشير بأن عدد ضحاياها لم يتجاوز العشرة آلاف ضحية فقط! هذا دون أن نُشير إلى العديد من المزاعم عن الاغتصاب وتقتيل النساء والعجّز والأطفال.
وكذلك لم تكن حرب الجنوب تُدار بوصفها جهاداً من المؤمنين ضد الكفار، مثلما فعلت حكومة البشير، كما لم يكن الجنوب يطالب بتقرير المصير عبر إغراء حكومة البشير لفصائله لتنحو هذا المنحى المطلبي الذي قاد إلي تفتيت وحدة البلاد. وقد صاحبت تلك الحرب اتهامات قوية من جهات وطنية ودولية لحكومة الخرطوم بإعادة إحياء مؤسسة الرق، حيث تم رصد العديد من الحالات التي تم فيها استرقاق الجنوبيين من قبل أناس مجموعات مستعربة.
كما لم تكن الحرب الأهلية قد انتشرت إلى مناطق الشرق وباقي مناطق السودان مثل جبال النوبة بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. ففي عام 1989م، عندما جاء انقلاب العميد عمر البشير، كانت الحرب محصورة في جنوب السودان فقط؛ هذا بينما انتشرت إلى جميع أقاليم السودان بأخريات عام 1999م باستثناء أقصى شمال السودان، وهو الذي يشهد الآن احتقاناً حاداً يتوقع الكثير من المراقبين انفجاره بين لحظة وأخرى.
السيادة على الأرض
وجاء في البيان الأول أن البلاد "... أصبحت .. عرضة للاختراقات والاستلاب من أطرافها العزيزة ..."؛ وجاء قوله أيضاً: "... تلبية لنداء الواجب الوطني الأكبر في إيقاف التدهور المدمر ولصون الوحدة الوطنية في الفتنة والسياسة وتامين الوطن وانهيار كيانه وتمزق أرضه ...".
هذا مع أن مثلث حلايب على البحر الأحمر حتى تلك اللحظة كان تحت السيادة السودانية واليوم هو تحت السيادة المصرية لدرجة تعذر إجراء التعداد السكاني والانتخابات بالمثلث. ويرى أكثر المراقبين السياسيين السودانيين أن حكومة عمر البشير تنازلت عن حلايب سراً لمصر مقابل أن تغفر لها الأخيرة تورط الخرطوم في مؤامرة اغتيال حسني مبارك بالعاصمة الإثيوبية في 1995م، وذلك ضمن صفقة أكبر بوجبها تنال مصر حوالي 6 مليون فدان في الحوض النوبي بشمال السودان لمدد قد تبلغ 99 عاماً لاستزراعها بالمياه الجوفية الغنية بالحوض، فضلاً عن توطين ملايين المصريين (بعيد انفصال الجنوب مباشرةً صرّح البشير بأن البلاد على استعداد لاستقبال 10 ملايين مصري).
كما كانت منطقة الفَشَقة الكبرى على الحدود الإثيوبية لا تزال على تحت السيادة السودانية، بينما هي الآن تحت السيادة الإثيوبية. وكذلك يرى أكثر المراقبين السياسيين السودانيين أن حكومة عمر البشير قبلت أن تتنازل عنها سراً لإثيوبيا، مقابل أن تغض الأخيرة الطرف عن ذات مؤامرة اغتيال حسني مبارك، فضلاً عن عدم إيواء المعارضة السودانية.
وكذلك كان مثلث إليمي المطل على بحيرة توركانا (بحيرة رودولف سابقاً) على الحدود السودانية الإثيوبية الكينية لا يزال تحت السيادة السودانية، بينما هو الآن تحت السيادة الكينية، عبر صفقة مماثلة، حسبما يرى أغلب المراقبين الوطنيين.
ثم ماذا نقول في البلد التي استلمها عمر البشير ومساحتها مليون ميل مربع، وقد أصبحت الآن حوالي 600 ألف ميل فقط؟ ماذا نقول يا سيادة الرئيس الذي استلم السلطة بليلٍ نيابةً عن تنظيم الإخوان المسلمين، ثم اجترأ بأن أعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا علاقة لذلك التنظيم بهذا الانقلاب (والعرب تقول بأن كذبة المنبر بلقاء) ـ ماذا نقول وقد استلمتها بدعاوى الدفاع عن السيادة والأرض، والسودان اليوم تتآكل أطرافه؟ لقد أقسمت بأغلظ الأيمان أنك لن تسمح لأي قوة عسكرية خارجية أن تطأ تراب الوطن طالما أنت حي، ثم أردفت بأن حلفت بالطلاق، وها هي الجيوش الأممية تملأ علينا شوارعنا!
الخدمة المدنية
كذلك جاء في البيان الأول: "لقد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي إلي الشرفاء فشردتهم تحت مظلة الصالح العام مما أدي إلي انهيار الخدمة المدنية ولقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سبباً في تقديم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية وافسدوا العمل الإداري ...".
لقد قامت الإنقاذ بتشريد 300 ألف موظف من الخدمة المدنية بموجب الفصل للصالح العام، وذلك في العام الأول من حكمها، من بينهم ما يزيد عن 100 ألف من القوات المسلحة. وفي الحقيقة لا يمكن للمرء أن يتصور وضعاً سياسياً قامت فيه المجموعة الحاكمة بنحر دولاب الخدمة المدنية مثلما حدث في عهد الإسلاميين تحت حكم الرئيس عمر البشير. وقد نهضت حركة نقابية ربما الأولى من نوعها في العالم تطالب برد الاعتبار للمحالين تعسفياً من الخدمة المدنية.
أما عن الولاء الحزبي والمحسوبية، فقد قام نظام الإدارة والحكم في ظل حكم الإسلاميين والرئيس عمر البشير على قاعدة تقديم أهل الولاء على أهل الكفاءة، وهي قاعدة صرح بها الإسلاميون جهاراً بياناً حتى انغلق باب التخديم الحكومي وغيره على أهل الولاء على حساب أهل الكفاءة، بدءاً من دواوين الحكومة انتهاءً بالقطاع التجاري العام والجامعات، ثم بالقطاع التجاري الخاص، حيث لم يعد من الممكن لأي شخص أن يفوز بعطاء أو بالقيام باستيراد أي سلعة أو تصديرها ما لم يكن من أهل الولاء. ففي تاريخ البشرية خلال القرن العشرين لا يجد المرء حالة تمت فيها مصادرة تامة واختطاف كامل جهاز الدولة بقضه وقضيضه لصالح مجموعة أيديولوجية بعينها إلا في سودان الإسلاميين ثم في إسرائيل. فالخطوط البحرية السودانية يمكن أن يرأسها محاسب صغير بشركة أصغر؛ وبناء السدود يمكن أن يترك أمره لشخص مفصول من السنة الأولى بكلية الهندسة، طالما كانوا من الإسلاميين وأهل الولاء.
الفساد
وجاء في بيان الانقلاب أن الفساد السياسي والإداري قد استشرى: "... مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراء يوم بعد يوم بسبب فساد المسئولين وتهاونهم ...".
واليوم لا حديث للشارع السوداني غير فساد السياسيين واكتنازهم للمال وابتنائهم للدور العاليات، نهباً للمال العام. إذ تكفي نظرة عابرة لتقرير المراجع العام ليصاب المرء بالدهشة من حجم الفساد المعلن. وقد بلغ الاجتراء حداً أصبحت معه الصحف تتحدث يومياً عن فساد المسئولين وبالاسم، دون أن يحرك المعنيون ساكناً.
فقد تحدثت الأقلام عن الثراء الفاحش الذي بلغته أسرة الرئيس عمر البشير، وهم الذين عُرفوا برقة الحال قبل عهد حكم البشير. فقد تعالت الأصوات احتجاجاً على ابتنائهم لقرية فاحشة الثراء بمنطقة كافوري التي تعتبر من أغلى الأماكن بالعاصمة الخرطوم، وتهاديهم بعضهم البعض بالبيوت المفروشة وبالسيارات الفارهة. وكافوري هذا كان رأسمالياً حتى منتصف القرن العشرين، وكانت له مزرعة بنفس المكان فحملت اسمه، ثم تحولت في بدايات حكم الإسلاميين إلى منطقة سكنية غالية السعر. وكان والد عمر البشير يشتغل في تلك المزرعة كعامل يدوي حيث قام بتربية أبنائه وبناته من كدّه وعرقه بشرف وإباء. واليوم يبدو كما لو كان أبناء ذلك العامل الكادح قد تملكتهم طيلة سني حياتهم لوثة حقد طبقي إزاء الرأسمالي كافوري، فما إن أصبح ابنهم رئيساً للجمهورية حتى سعوا بأيديهم وأرجلهم كيما يحلوا في محل كافوري الرأسمالي؛ فليتهم جدّ منهم العزم كيما يصبحوا مثله بكدهم وعرقهم بمثل ما فعل والدهم وبمثل ما فعل كافوري نفسه.
ومن أوجه الفساد التي تملأ أشرعة الصحف والمجلات حكاية الأسمدة والمبيدات الزراعية الفاسدة في بلد زراعي كان ينبغي أن يصبح سلة غذاء العالم. فالمسئول عن هذه الأسمدة والمبيدات يمكن أن يكون هو رئيس اتحاد مزارعي المشروع المعني؛ وهو نفسه عضو بالمجلس الوطني (البرلمان) عن المزارعين؛ وهو نفسه رئيس المؤسسة المناط بها تسويق منتجات المشروع عالمياً؛ وهو نفسه رئيس اللجنة المسئولة عن المبيدات والأسمدة بوزارة الزراعة؛ ثم هو نفسه صاحب الشركة التي استجلبت هذه المبيدات والأسمدة منتهية الصلاحية. ثم ماذا يمكن أن يقول المرء إزاء المكافأة المالية التي نالها وكيل وزارة التربية (169 مليون جنيه سوداني بحسب العملة القديمة) بمناسبة الفراغ من امتحانات الشهادة السودانية، هذا بينما المعلمون يضربون بسبب عدم صرف استحقاقاتهم عن تصحيح الشهادة؟ ولتنظروا كيف كان الرد! إنه لا يستلم منها مليماً، بل يقوم مدير مكتبه بصرفها على المحتاجين! يا ساتر! 169 مليون جنيه!
تحفل الصحف يومياً بمثل هذه الفضائح، دون أن يكلف المسئولون أنفسهم بتقديم أي رد. كما لا يوجد برلمان تعددي، إذ يسيطر الإسلاميون عليه بنسبة 98% وذلك بعيد تزويرهم للانتخابات التي جرت في أبريل من 2010م. وقد بلغ التزوير حد ألا ينال مرشحون عديدون صوتاً واحداً في مركز الاقتراع الذي قاموا بالتصويت فيه بأسرهم وأنصارهم. وقد دفع هذا بالمراقبين إلى الإقرار بعدم نزاهة الانتخابات؛ متهمين الإسلاميين الحاكمين بإجراء تبديل منظم لصناديق الاقتراع.
التنمية
جاء أيضاً في بيان الانقلاب عن التنمية: "لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية مما زاد حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل ..."
تشير تقارير المراجع العام لسنوات أن حجم الصادرات السودانية لم تتجاوز 650 مليون دولار أمريكي منذ استقلال البلاد في عام 1956م إلى نهايات عام 1999م. ولكن منذ الشروع في تصدير البترول (في عام 1999م) ظل الصادر ينخفض حتى بلغ في بعض أعوام الألفية الثانية 350 مليون دولار أمريكي. ويعني هذا الانصراف تماماً عن جميع المشاريع التنموية والاعتماد كلياً على البترول. ولا غرو أن انهارت أضخم المشاريع التنموية بالسودان، الزراعية منها على وجه الخصوص. فمشروع الجزيرة (2 مليون فدان) انهار؛ وكذلك انهار مشروع خشم القربة الزراعي، كما انهار مشروع دلتا طوكر والقاش؛ كما انهارت تجارة الصمغ العربي مع عدم وجود أي منافس؛ وانهارت تجارة الحبوب الزيتية. ثم اختفت السكك الحديدة نهائياً من خارطة النقل والمواصلات بالسودان، وهو البلد الذي تبلغ مساحته (أو كانت تبلغ) مليون ميل مربع. فقد باعت الحكومة قضبان السكة حديد بالكيلو متر كحديد خردة.
أما عن ارتفاع الأسعار، فيكفي أن نشير إلى أن سعر الأرض 400 متر مربع بوسط الخرطوم لا يقل غلاءً من سعر الأرض بواشنطون ولندن وباريس. وعلى هذا فقِس! أما عن تنمية الموارد البشرية، فيكفي الإشارة إلى انهيار التعليم الأساسي والعالي الجامعي لدرجة أن العديد من الدول العربية والغربية لم تعد تعترف بالشهادات الجامعية السودانية، مع أن التعليم الجامعي بالطريقة الأوربية كان فخر السودان منذ الاستقلال.
الشريعة الإسلامية
لقد تم اختزال الشريعة الإسلامية في الجلد تعذيراً في أغلب الأحوال، وإجمالاً في قضايا شرب الخمر واللبس الفاضح للبنات وخلافه من سفاسف الأمور. هذا مع الترخص في الحدود من قطع وصلب ورجم (تم استبدال الحكم الأخير بعقوبة أقل قسوةً)، وذلك خشيةً من العالم الغربي. فكأن شريعة إسلاميي السودان لا علاقة لها بالعدالة وبإحقاق الحق وبسط العدل.
خاتمة البيان الانقلابي
في خاتمة بيانه الانقلابي يقول العميد (حينها) عمر حسن البشير داعياً الشعب السوداني لنصرة الحركة الانقلابية التي دبرها الإسلاميون: "... تدعوكم الثورة معها ضد الفوضى والفساد واليأس من أجل إنقاذ الوطن ومن أجل استمراره وطناً موحداً كريماً ...".
فماذا يا ترى ترك لدعاة الثورة ضد حكمه أفضل من ذات هذه الجملة كيما ينهضوا في ثورة الشعب السوداني الثالثة ضد الحكم العسكري الاستبدادي الفاسد، ضمن تسونامي الثورات الشعبية بالمنطقة؟
إن أخطر ما في هذا النظام أنه صدر أول أمره من حركة ليس في فكرها أي حرمة للأوطان، إذ لا تؤمن بالوطن، فالأرض عندها بحسب فكرها الملتاث للأرض يورثها من يشاء، في فهم معوج ومعتل للآية الكريمة. فقد بدأوا عهدهم باستجلاب شذاذ الآفاق، من تعرب وأفغان وكل ملتاثٍ بهوسة الدين، فأعطوهم الجنسية السودانية والجوازات الدبلوماسية. واليوم، بينما يرفع الشعب شعار: "الشعب يريد تغيير النظام"، يرفع النظام بدوره شعار: "النظام يريد تغيير الشعب"! فدارفور قد أبدلوا سكانها بشعبٍ مستعرب آخر أتوا به من النيجر؛ وشعب شمال السودان يريدون تغييره بملايين الفلاحين المصريين، وسوف يقومون بإفرغ المنطقة الشمالية من السكان تحت غطاء السدود التي يزعمون بناءها؛ أما في الشرق، فقد استقدموا مجموعات أريترية معروفة بهوسها الديني، وذلك لتحل محل البجا من السكان الأصليين؛ وكذلك يفعلون في النيل الأزرق، ولا عجب، فوزير الداخلية المسئول عن الجنسية والسجل المدني سلخ سنوات الدراسة الجامعية بمصر وهو يتقلد منصب رئيس اتحاد الطلبة الأرتريين ولا عجب! ثم ها هو النظام يقوم بآخر خطواته لتنظيف البلاد من أي شخص شمالي تعود أصوله إلى جنوب السودان، ولو ظل يعيش في الشمال طيلة حياته ولو وُلد هنا، لا لشيء إلا لعدم قدرتهم في تحمل سيمائهم الأفريقيى السوداء، مخالفين في ذلك جميع حقوق الإنسان والقوانين السودانية المنظمة للجنسية ثم اتفاقية نيفاشا التي أعطت هؤلاء الحق في أن يظلوا كشناليين إن أرادوا، وإلاً فليقوموا بتسجيل أسمائهم في سجل المصوّتين في استفتاء جنوب السودان. فمن بين 4 مليون ونصف، قام فقط 160 ألف بتسجيل صوتهم. هؤلاء هم الجنوبيون، وما عداهم فشماليون تعود أصولهم إلى جنوب السودان بمثل ما لدينا شماليون تعود بهم أصولهم إلى جميع دول الجوار، بل ,ابعد من ذلك.