Saturday, January 18, 2020

ليس دفاعاً عن وجدي ميرغني؛ لكن لا خير فينا إن لم نقلها!


ليس دفاعاً عن وجدي ميرغني؛
لكن لا خير فينا إن لم نقلها!
محمد جلال هاشم
الخرطوم ـــ 17 يناير 2020م
MJH
أخيراً حصحص الحقُّ وانجابت سحبُ الاتهامات عن سماءٍ صافية! فقد خضع أخونا وصديقنا، رجل الأعمال المعروف، وجدي ميرغني محجوب للتحقيق بخصوص علاقات أعماله التجارية والزراعية والصناعية ببعض جماعات النظام البائد. ولسنا هنا للتعرض إلى تلك التحقيقات التي انتهت إلى إبراء ذمته، بمثلما أمسكنا من قبل أقلامنا خشية التأثير في مجراها بأي حال من الأحوال. ولم يكن موقفنا هذا أو ذاك فقط من باب إيماننا العميق بنصاعة صفحة أخينا وجدي، بل أيضاً إيماناً منا بحقّانية أخينا وصديقنا مولانا تاج السر الحبر (النائب العام) الذي كم صال وجال في ردهات المحاماة والقضاء إبان النظام المباد وهو يعمل ليل نهار لرفع الظلم عن ضحايا ذلك النظام الذي ما أجاد شيئاً كما أجاد ارتكاب المظالم والتسبب فيها لمختلف الأشخاص والمجموعات من الشعب السوداني بطريقة يصعب تصورها، كما لو كان له حساب قديم مع الشعب، تشحنه الرغبة في الانتقام والتشفي.
ما نريد توضحيه هنا، بجانب إبداء إيماننا مسبقاً ببراءته، فضلاً عن التضامن مع الأخ الصديق وجدي ميرغني، ذكر حقائق تتعلق بتاريخ هذه الأسرة الرائدة في المجالات الزراعية والصناعية، بحيث توفّر لها أن تلعب دوراً كبيراً في باب تطوير الزراعة الآلية كصناعة وطنية بدأت من الصفر. وفي هذا نريد أن نؤكد حقيقة ربما لا يعرفها الكثيرون، ألا وهي أن الرأسمال الوطني الذي توفّر لهذه الأسرة الكريمة الرائدة سابق لزمن الإنقاذ بما يقرب من العشرين عاماً. وليس أدلّ على ذلك من أن الشركة الزراعية الأفريقية African Plantation Company قد احتفلت أخريات العام الماضي بالعيد الذهبي لها، أي بمرور 50 عاماً منذ تأسيسها (1969م ـــ 2019م). كما نسعى من وراء هذا إظهار حقيقة أخرى، ألا وهي أن أسرةً بماضٍ مشرق ورائد كهذا تكون كأغنى ما يمكن أن تكون عن اتباع منهج "الجوكية" في تنمية رأسمالها. وليس أدلّ على ذلك من أن المنهج الذي تتبعه هو منهج إنمائي يقوم على بناء البنيات التحتية لمشاريعها من رصف للطرق ومدرجات المطارات إلى بناء المجمعات السكنية  Residential Compounds لموظفيها وعمالها بمواقع الإنتاج. ليس هذا فحسب، بل تلعب دوراً أساسياً في رفع مستوى الخدمات العامة من صحة وبيئة ومساعدات زراعية للمجتمعات المحلية التي تُدير فيها مشاريعها. وهي إذ تفعل هذا، تتبع أحدث التقانات المعمول بها في مجالها على مستوى العالم. وبالطبع يصبح من نافلة القول الإشارة إلى أن هذا المنهج يتناقض تماماً مع المنهج الإنقاذي الذي يقوم على استحلاب أي مشروع صناعي أو زراعي دون إيلاء أدنى درجات العناية اللازمة التي تحقق استمرارية المشروع. ولهذا تدمرت جميع مشاريع الإنتاج في زمن الإنقاذ الواحدة تلو الأخرى، هذا بينما ظلت مشاريع الأسرة تشهد تطوراً مستمراً من قبل زمن الإنقاذ مروراً بزمن الإنقاذ وإلى اليوم في فترة ما بعد الإنقاذ.
تعود أعمال "محجوب إخوان" إلى رجال الزراعة الآلية الرائد المرحوم ميرغني محجوب (1925م ــــ 1987م). فقد شهد الرجل بداية تدشين الحكم الاستعماري البريطاني لمشاريع الزراعة الآلية وذلك في بدايات أربعينات القرن العشرين. وما دفعهم للتفكير في التوسع الآلي في الزراعة المطرية هو الحاجة الماسة إلى تشوين جيش الحلفاء بالجبهة الشرقية الذي كان يعد العدة لمواجهة الاحتلال الإيطالي لأريتريا وتهديد إثيوبيا. ثم استمر ميرغني محجوب في مرحلة ما بعد الحرب يعمل تحت مفتش الزراعة في مجال الزراعة المطرية الآلية. وفي عام 1954م دخل السودان مرحلة سودنة الوظائف تمهيداً للاستقلال ومغادرة البريطانيين للبلاد. هنا كان ميرغني محجوب هو من سودن وظيفة مفتش الزراعة في وحدة ود الحوري بالقرب من القضارف. وهناك حكى لي الأهالي أن مسقط رأس وجدي ميرغني كان بمركز ود الحوري وهو ما ظللت أظنه إلى أن قام هو بتصحيح هذه المعلومة حيث قال بأن والدته الفضلى حملته إلى ود الحوري بعد الأربعين مباشرةً. وبالفعل استمر ميرغني محجوب في وظيفته الرائدة تلك حيث ترك بصمات لا تزال واضحة في صناعة الزراعة الآلية المطرية. وبقدر ما عُرف عنه الحزم والصرامة في العمل، بقدر ما عُرف بطيبة القلب وسعة الصدر بجانب سعة الأفق وحرصه الوطني الكبير لتطوير هذا القطاع الحيوي، بجانب تمكين الأهالي من الاستفادة القصوى من المشاريع الزراعية التي بدأت تتسع مساحاتُها في مناطقهم. وبعد ثورة أكتوبر في عام 1964م، استقال ميرغني محجوب من وظيفته طوعاً واختياراً، ثم خاض الانتخابات النيابية في عام 1966م ليدخل البرلمان (1966م ـــ 1967م). وما إن خرج من قبة البرلمان حتى اتجه إلى ما كان يعرفه ويتقنه تمام الإتقان، ألا وهو الزراعة الآلية المطرية. وبالفعل خاض هذا المجال، لا كمزارع فحسب، بل كمطوِّر لهذه الصناعة التي كانت لا تزال في بداياتها. ثم في عام 1969م قام بتأسيس الشركة الزراعية الأفريقية. ومنها انطلقت وتطورت وتناسلت مجموعة شركات محجوب أخوان، وعلى رأسها الشركة الزراعية الأفريقية، رائدة تطوير الزراعة الآلية المطرية في السودان. في عام 1987م لبى ميرغني محجوب نداء ربه وعمره قد ناهز الثانية والستين فقط؛ وفي مثل هذا يقول الناس "اتخطف"! إلا أنه رغم ذلك لم تنتكس رايات العمل التجاري والصناعي التي قام ميرغني محجوب بتدشينها. فقد كان هناك إخوانه وأبناء إخوانه، وفوق كل هذا كان هناك أبناؤه حيث يقف على رأسهم ابنه البكر وجدي ميرغني محجوب، جميعهم كالحلقة المفرغة، امتيازاً واحتذاقاً، لا تعرف بمن تبدأ وبمن تنتهي، حفظهم الله جميعاً. إلا أن موقع وجدي منهم كان ولا يزال كموقع التاج في رأس الملوك، فأنعم وبارك!
منذ تأسيسها، أثبتت الشركة الزراعية الأفريقية أنها تقف كمدرسةٍ لوحدها في مجال التقانات الزراعية وصناعاتها. فهي أول من اعتمد نظام الحيازات الضخمة Big Scale من حيث الإنتاج، متبعةً في ذلك منهجية علمية رائة وغير مسبوقة. كما تعتبر الشركة الرائدة في مجال تدشين المحاصيل النقدية Cash Crops من حيث الإنتاج والتصدير، أكان ذلك في مجال الحبوب أو الحبوب الزيتية وخلافها، ثم أخيراً مجال القطن. في كل هذا، اتبعت الشركة منهج الرعاية الاجتماعية للمجتمعات المحلية التي تمارس بينها نشاطها. فقد قامت بتوفير العديد من الخدمات في مناطق إنتاجها، بدءاً من الطواحين، والخدمات الصحية انتهاءً بإتاحة خدمات ورش الصيانة الخاصة بآلياتها للمجتمعات المحلية. واليوم توسعت هذه الخدمات لتشمل الخدمات التعليمية، بجانب رفع قدرات الأهالي بمناطق إنتاجها. ولكن أهم ما قامت به الشركة (بجانب مجموعة شركات محجوب إخوان) هو توفير الغذاء للأهالي بمناطق الإنتاج وذلك برعاية الزراعات الصغيرة من حيث تمويلها بتوفير الأرض ثم التقاوي والإشراف الكامل على الحراثة والأسمدة والمبيدات، دون أن يدفع الأهالي شيئاً، مقابل خصم التكلفة من عائد الإنتاج. وقد خصصت لهذا الغرض موسم الزراعة الشتوية (زراعة "الميعات") التي لا يمكن استزراعها في الموسم المطري الصيفي، خاصةً زراعة بطيخ التسالي بجانب الخضروات. كل هذا لتقوية المجتمعات المحلية، جماعاتٍ وأفرادا.
إلا أن أضخم تطوير قامت به الشركة الزراعية الأفريقية هو، أولاً، اتباعها لمنهج البحوث العلمية الصارمة بغية تطوير أدائها. فهناك قسم كامل للبحوث يجعل هذه الشركة الرائدة تبرز بوصفها مركزاً بحثياً وطنياً متاحاً للبلاد. وثانياً هو الاهتمام بالبنيات التحتية؛ فالطرق المرصوفة والمطارات والمجمعات السكنية الراقية، بجانب توفير خدمات الكهرباء والإنترنت، وكذلك الورش والآليات المتطورة والمتقدمة، تجعل من مشاريع هذه الشركة ليس فقط واحات في هجير تلك السهول الممتدة بامتداد البصر، بل تجعلها تقف كصرح حضاري يشهد بأن السودان فيه تجربة لا تقل في كفاءتها عن أي تجربة زراعية في أستراليا أو سهول أمريكا أو أوروبا أو الصين وآسيا. ثالثاً، وذلك جرّاء اتباع المناهج العلمية، تدشين الشركة للمنهج الذي يعرف باسم "الزراعة الصفرية" Zero Cultivation Method الذي لا يستلزم حراثة الأرض المراد زراعتُها. فهذا المنهج يوفر الكثير من الوقت والتكاليف، كونه يعتمد على الزّرّاعة Planter، هذا مع الاعتماد على المبيدات والأسمدة بطريقة علمية يشرف عليها خبراء بعضهم يحملون شهادت الماجستير والدكتوراة. رابعاً، المكننة الكاملة للعملية الزراعية. فمثلاً، زراعة القطن في مناطق الزراعة المطرية الآلية تجعل لقيط القطن باليد عملية غير مجدية بالمرة. هنا تقوم باللقيط آليات تعمل بالكمبيوتر بصورة شبه كاملة حيث تلتقط لوزات القطن وتقوم بحلجها أوليّاً، انتهاءً بتحوليها إلى "بالة" ملفوفة بالبلاستيك أو القماش وجاهزة للتصدير أو معالجتها محلياً في المحالج ومصانع النسيج ما كان هذا متاحاً.
في مواجهة متطلبات الحياة تحت المحاربة المستمرة لشخصي الضعيف من قبل جلاوزة النظام المباد، اتجهت قبل حوالي ثلاث سنوات للزراعة في مناطق سنار والنيل الأزرق والقلابات. اتجهت مع بعض الأصدقاء وبميزانية أقل ما يمكن أن توصف به أنها كانت شبه معدومة، حيث كان كل العشم منصباً على تمويلات البنوك بكل ما يكتنف ذلك من صعوبات. وبالفعل، لم تواجهنا الصعاب فحسب، بل ظل شبح السجن مخيماً علينا في كل خطوة خطوناها. تُرى كم هي المساحة التي كنا ننوي زراعتها؟ ألف فدّان؟ لا وأيم الله! كلها 100 فدان، حبوباً زيتية كانت أو فتريتة إلخ. كل هذا والأهل والأقارب في مناطق الإنتاج يستغربون عدم لجوئي لوجدي ميرغني محجوب وهو الصديق والقريب. وعندما نما إلى علمه ذلك وبّخني قائلاً: "كيف تدخل هذا المجال من وراء ظهري وأنا موجود"؟ وبالفعل، وجهني لموظفيه الحاذقين والرسميين لدى التعامل، باشين مبتسمين، لكن بلا مجاملات على حساب العمل. لقد عاملوني كما يعاملون الأهالي بالمنطقة، على قدم المساواة وأدرجوني ضمن زراعة "الميعات" في الموسم الشتوي. وهكذا إنتميت لقبيلة صغار مزارعي بطيخ التسالي. ولكم دهشتُ من هول ما رأيت في مجمعاتهم السكنية من حيث توفّر كل سبل الراحة. عندها زاد طمعي في جمائل صديقي وجدي، وأنا أحمل فوق ظهري (تحديداً داخل كمبيوتري) أكثر من 10 كتب تكاد تكون في مراحلها الأخيرة وأنا أعاني بمثلما يعاني من بنى بيتاً وتبقت "التشطيبات". فالكتب كالمنازل بالضبط! "التشطيب" يأخذ منك من الوقت والمال ربما بأكثر مما أخذ البيت كله. عندها طلبت منه أن يستضيفوني في مجمعاتهم السكنية حيث الكهرباء لا تقطع وخدمات الإنترنت أفضل مما هي عليه بالمدينة، وحيث الغرف لا تقل عن غرف الفنادق 5 نجوم. وبالطبع لم يسمح لي بذلك فحسب، بل شجعني. وكيف لا وهو قد ظل ولا يزال (مع ثلاثي أبناء داؤود عبد اللطيف الغُرّ الميامين حفظهم الله جميعاً) يقوم بتغطية تكلفة أسفاري للمشاركة في المؤتمرات الأكاديمية الدولية، من التذكرة إلى الفندق إلى مصاريف الجيب! يفعلون هذا عندما تم فصلنا من الجامعة مع منعنا من شغل أي وظيفة بأي جامعة بطريقة دائمة، حتى لو كانت كلية جامعية ناشئة.
إنني ـــ أكرر ـــ لا أكتب دفاعاً عن الأخ الصديق وجدي ميرغني محجوب! فهو أقدر مني على الدفاع عن نفسه، وها هو قد برَّأ ساحته. وقد كنت على يقين لا يتزعزع من أن الحقُّ سوف يحصحص وتنبلج شمسه عما قريب بإذن الله، وهو ما حدث اليوم. لكني من نفرٍ مضغوا الظلمَ لسنوات طوالٍ بطول العمر كحنظلٍ مرٍّ حتى تشظى منا اللسان واصطكّت الأسنان. فإذا كنا سنقبل الظلمَ في غيرنا، فلا خير فينا. لهذا رأينا أن نصدع بشهادةٍ هي بكل المعايير شهادةٌ مجروحة، لكن علم الله أنها نابعة من القلب والعقل والضمير، ولا خير فينا إن لم نقلها!
                                                                   MJH

No comments: