Tuesday, June 28, 2016

عصر البهلوانات: استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي



محمد جلال أحمد هاشم
في يوم 23 يونيو 2016م، صوت اليمين في بريطانيا للخروج Brexit (اختصاراً Britain exit؛ ويتختصر أيضاً بكلمة Leave) من الاتحاد الأوروبي. فعلوا ذلك عبر المساومة على المصالح الوطنية العليا، عندما قامت بعض جيوب في حزب المحافظين بالتحالف مع حزب استقلال بريطانيا، فشرعوا في ابتزاز رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي ليس فقط لم يجد بداً من أن يحاول أن يلعب لعبة المناورة حول مطالبهم بالخروج من الاتحاد الأوروبي، بل سعى في قصر نظر ماحق لأن يستفيد من تصاعد موجة المطالبة بالخروج من الاتحاد كيما يضمن انتخابه لدورة ثانية، فكان أن وعد بإجراء الاستفتاء في حال فوزه. وبالفعل فاز ديفيد كاميرون وأصبح لزاماً عليه أن يمضي قدماً في تنفيذ الاستفتاء. إلا أنه على عكس موافقته بإجراء الاستفتاء عبّر عن رفضه للخروج من الاتحاد الأوروبي منادياً بأن يصوت الجميع من أجل البقاء، وهو تيار مضاد للتيار العام في حزبه ولمضمون وعده بإجراء الاستفتاء. بهذا ارتكب ديفيد كاميرون خطأه الثاني، إذ إن موقفه هذا أدى إلى خلق انطباع عام بأن نتيجة الاستفتاء أصبحت معروفة وأن خيار البقاء سوف يفوز طالما أن زعيم المحافظين ورئيس الوزراء ضده، الأمر الذي أدى بدوره إلى تكاسل مؤيدي خيار البقاء Bremain  (اختصاراً Britain remain) باعتبار أن الاستفتاء ليس سوى لعبة انتخابية آتت أُكلها بإعادة انتخاب ديفيد كاميرون وسوف تنتهي في هذا الحد بوصفها خطوة واضحة الخطورة وأنه لا يمكن لحزب مسئول أن يفعلها. ولكن خاب فأل هؤلاء عندما وجدوا مجموعة من القيادات السياسية بحزب المحافظين، مثل البهلوان buffoon جونسون بوريس، وجميع قادة حزب بريطانيا المستقلة UK Independent قد قاموا بتصعيد الحملة إلى أقصى مداها. حتى ديفيد كاميرون لم يتوقع هذا إذ لم يصعّد من حملته من أجل البقاء داخل الاتحاد الأوروبي إلا قبل شهر واحد فقط من الاستفتاء.
ولكن يا ترى ماذا عن موقف البريطانيين الذي صدروا في أصولهم من مجموعات وافدة، أي مهاجرة؟ ونعني في الواقع المسلمين بوصفهم من أكبر الجاليات في بريطانيا، وبعدهم نعني مسلمي شبه الجيرة الهندية الذين يشكلون غالبية مسلمي بريطانيا. البعض يعتقد بلا أي سند إحصائي أن هؤلاء قد صوتوا من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي. إلا أن المناقشات الانقسامية الحامية التي جرت بين مسلمي شبه القارة الهندية أشارت إلى شيء خطير، ألا وهو أنّ أغلبهم وعبر حملة جيدة التنظيم قد صوتوا للخروج بدافع وقف تدفق العمالة الرخيصة من شرق أوروبا. وهذا طبعاً فهم قاصر وأناني ومضر بالمصالح الوطنية البريطانية. ومن المتوقع أن يدفعوا فاتورة موقفهم هذا مزيداً من الاستهداف.
المهم في الأمر أن بريطانيا ليس في مقدورها أن تخرج من الاتحاد وضغها الحالي. وليس هذا بدليل تراجع قادة حملة الخروج من مواقفهم بصورة غير مباشرة ريثما يقوم البعض بالإعلان بأن الخروج ليس عملياً دع عنك مضاره، ولا بسبب الصعوبة العملية والتكلفة الماليّة العالية لتحقيق هذا الخروج، بل بسبب  الأضرار الاقتصادية الضخمة التي ينبغي لبريطانيا أن تدفعها في حال مضت قدماً في إنفاذ الخروج بموجب استفتاء استشاري advisory فحسب وليس ملزماً قانونياً not binding legally . وسيكون وهكذا إلى أن يقوم البرلمان بالتأكيد أنه لن يعمل على تفعيل المادة رقم 50 المتعلقة بتفعيل الانسحاب. إلا أن المحصلة النهائية سوف تكون خسوف شمس بريطانيا كدولة عظمى، إذ ثبت أن البلهوانيين buffoons من أمثال جونسون بوريس وغيره يمكن أن يديروا سياساتها العليا.

وفي الواقع هذا هو نفس ما تعاني منه دولة عظمى مثل أمريكا (خذ مثال جورج بوش الابن والآن ترامب). خطورة هذا الوضع يكمن في أنّ رفاهية العالم المتقدم لم تحدث بموجب جهدهم الذاتي بل بموجب الاستغلال من تجارة الرق والاستعمار ثم الاستعمار الحديث بما يشمل من تدخل في شئون دول العالم الثالث بحيث يحولوا دون بلوغها درجة من التقدم ترفع عن كاهل شعوبها نير الفقر والمرض والجهل. فالتاريخ لا يعطينا حالة واحدة للرفاهية لم تقم على الاستغلال.
اليوم من الواضح أنه عندما تجاوزت البشرية في عصر الحداثة تلك الأشكال العديدة من الاستغلال الغليظ (رق استعمار احتلالي .. إلخ)، لم يعد في إمكانهم المحافظة على رفاهيتهم في عصر ما بعد الحداثة واليوم في عصر العولمة. في نفس الوقت دفعت حالات الفشل المريع التي تعيش فيها شعوب العالم الثالث، ليس في فن الحوكمة فحسب governance، بل حتى في المحافظة على الأوضاع التي ورثتها من الاستعمار، دفعت مفكري وسياسيي العالم المتقدم إلى أخذ هذا كبينة على أنّ هذه الشعوب ليست مؤهلة كيما تحكم نفسها، وأنه من الأفضل ترفيع درجة التدخل في شئون هذه الشعوب وليس هناك ما يدعو لاحترام حقوق الإنسان أو السيادة الوطنية أو المصالح الوطنية لهذه الشعوب الفاشلة.
تكمن خطورة التوصل إلى موقف كهذا في أنه لا يمكن الشروع في التعامل مع أوضاع شعوب العالم الثالث بموجب هذه القناعة عبر مؤسسات الحكم  التي تُخضع نفسها لمعايير عصر الحداثة من حقوق إنسان إلى غيرها بما في ذلك احترام السيادة الوطنية. لكن يمكن التحايل على هذا في حال بروز حكّام غير مؤهلين فكرياً وأخلاقياً للالتزام بهذه المعايير الأخلاقية البالية. هذا ما أسميه بعصر الحكام البهلوانات buffoons، التي بدأت بأناس من أمثال دونالد ريغان وبعده جورج بوش الابن، ثمّ ها هو ترامب. في بريطانيا يمكن التمثيل بتوني بلير وجونسون بوريس، الأخير منهما بوجهٍ خاص. فقد برز للرأي العام أوائل تسعينات القرن العشرين بوصفه بهلواناً حقيقياً يمكن أن يهزّئ من نفسه كيما يُضحك الناس، ولا عبرة هنا كونه خريج كلية بيليو بأوكسفورد. فتوني بلير نفسه خريج أوكسفورد. ولكن في مرحلة بعينها برز جونسون بوريس بوصفه شبه سياسي عندما تقدم للترشح في منصب عمدة لندن بين ضحك الناس وعدم تصديقها، وهو منصب في نظر الكثير من البريطانيين يعتبر الثالث بعد الملكة فرئيس الوزراء. برز جونسون بوريس وهو بشكله ذاته الذي ظل من خلاله يُثير ضحك الجمهور وواصل في نفس طريقته، أي ممارسة السياسة بوصفها تمثيلية عبطية.
في زمن الاحتباس الحراري وانهيار الاقتصاديات الكبيرة وبروز شعوب كثيرة من العالم الثالث تمكنت من كسر حصار التخلف (مثل الصين، الهند، كوريا ... إلخ) يواجه الغرب صاحب الترسانة العسكرية الأضخم تحدياً كبيراً. فهو إما أن يقبل بالتساوي مع الشعوب الأخرى خارج حدود العالم الأول ومع الشعوب الفقية داخل حدود العالم الأول (مثل اليونان والتشيك .. إلخ) أو أن يقوم بالاستفادة من تفوقه العسكري بإعادة احتلا هذه الشعوب واستعمارها بقوة الحديد والنار كما فعل. كيف يمكنه أن يفعل هذا؟ عبر انتخاب رؤساء غير مسئولين أخلاقيّاً وغير مؤهلين فنياً لإدارة بلادهم (خذ مثالاً بيرلسكوني الذي دمر اقتصاد إيطاليا بينما هو بليونير).
في مؤتمر دولي عُقد بالدنمارك، قدم خبير دنماركي رفيع المستوى ورقة تتنبأ بأن جميع دول الأراضي المنخفضة (الدنمارك، بلجيكا، هولندا ولوكسمبورق) مهددة بالغرق في حال استمرار التدهور في مناخ الأرض بهذه الوتيرة. عندها سأله بعض الحضور عمّا ستفعله هذه الدول في حالة تدهور الأوضاع ووصولها لدرجة غرق هذه البلاد. عندها كانت إجابته التي قدمها بكل برود وثقة مطلقة: سوف نقوم باستعمار بلاد العالم الثالث وتحديداً أغريقيا كما فعلنا من قبل!

No comments: